كلمة وفاء – راشد الغنوشي المجاهد السلمي

خمسة عقود من الجهاد السياسي السلمي

الثبات على النهج رغم همجية الاستبداد قبل الثورة ورغم الغدر بعد الثورة

0 634
١٠ دقائق


pdf word

ما عرفت الساحة الإسلامية زعيما داعية سلك طريق الدفاع عن الحريات والحقوق الإنسانية والمسارات السياسية الوطنية كما فعل راشد الغنوشي متميزا عن سواه على امتداد عقود عديدة.

وما عرفت الساحات الوطنية السياسية أحدا مثله كسياسي حريص على التمسّك بنهجه السلمي فكرا وتطبيقا مقابل العنف تحت عناوين سياسية وقضائية من جانب الخصوم، لاسيما في فترة المحنة خلال السبعينات والثمانينات من القرن الميلادي العشرين، ثم في سنوات التسلط الانقلابي حديثا، وهذا مع التصعيد المتواصل لذلك العنف تجاهه وتجاه حركة النهضة التي شارك في تأسيسها، فرغم ذلك حافظ راشد الغنوشي على نهجه في فترة المحنة الأولى ثم في المنفى لأكثر من عشرين سنة، ثم من سدّة السلطة والمشاركة الوطنية في تطوير بنيتها الهيكلية بعد الثورة الشعبية التي أسقطت الاستبداد وأصبحت نموذجا يحتذى في أقطار عربية أخرى.

٠ ٠ ٠

من الحياة القروية إلى المتاهات السياسية

راشد الغنوشي من مواليد ٢٢ / ٦ / ١٩٤١م في أسرة قروية من الكادحين في تونس، وكان مضطرا للعمل في الزراعة مع أفراد أسرته أثناء نشأته الأولى، وتأثرت دراسته بذلك، إنما استطاع لاحقا وبعد عامين من التدريس في قفصة، الحصول على شهادة في أصول الدين من جامعة الزيتونة في تونس، وبدأ دراسة الزراعة في مصر ثم انقطعت سنة ١٩٦٤م لأسباب سياسية في تونس، ثم حصل عام ١٩٦٨م على شهادة “البكالوريوس” الجامعية في فرع الفلسفة في دمشق، وتأثرت مسيرته الدراسية مرة أخرى بسبب ضعف الدخل المادي عندما سعى بعد سنوات لاستكمالها في جامعة السوربون الفرنسية.

في هذه الأثناء وبعد رحلة إلى تركيا وعدة بلدان أوروبية ثم معايشة نكبة ١٩٦٧م، لم يعد متأثرا بالفكر القومي العربي والناصري، وبدأ ينضج توجهه الإسلامي حتى استقر مجددا في تونس وشارك عددا من الدعاة المعروفين مثل عبد الفتاح مورو في الدعوة إلى الإسلام تحت عنوان جمعية المحافظة على القرآن، ثم شارك في تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي عام ١٩٧٢م، وقد أُعلنت رسميا ١٩٨١م، بعد أن عرفت بنفسها وفكرها من خلال جريدة المعرفة، التي ظهرت عام ١٩٧٤م، بينما امتنع نظام بورقيبة ثم بن علي عن الترخيص لحركة الاتجاه الإسلامي بالعمل، كما لوحق الغنوشي سياسيا بالسجن أكثر من مرة، وبقي عقب انقلاب بن علي طليقا ١٩٨٨م، ولكن ما لبثت محكمة عسكرية سنة ١٩٨٩م أن حكمت عليه بالسجن المؤبد، ولكنه غادر تونس إلى الجزائر ثم انتقل إلى السودان حيث نشأت علاقة غير واضحة المعالم بينه وبين الشيخ حسن الترابي رحمه الله، وهذا قبل أن ينتقل إلى المنفى في بريطانيا منذ سنة ١٩٩١م حتى انطلاق الثورة الشعبية عام ٢٠١١م. وتحول اسم الحركة في هذه الأثناء إلى حركة النهضة، التي ام تحصا على اعتراف الدولة الرسمي بها إلا خلال عام ٢٠١١م بعد انطلاق الثورات الشعبية من مهدها الأول في تونس.

وانتشر في الأوساط الإسلامية لفترة من الزمن أن فكر الغنوشي يتفرع عن فكر الترابي رحمه الله، والواقع أنهما ظهرا على التوازي زمنيا، كما يوجد اختلاف بينهما على أكثر من صعيد، ولا يعني ذلك عدم تقدير ما قدمه الترابي من فكر متميز تحت العنوان الإسلامي الذي يعلو فوق التنظيمات والتوجهات المتعددة. إنما يتباين تحالف الترابي مع البشير في انقلاب عسكري، مع المسيرة الفكرية الإسلامية التي حددها عطاء الغنوشي فكريا، بما في ذلك موقفه من التخطيط للانقلاب العسكري من جانب عدد من المنتسبين إلى حركة الاتجاه الإسلامي، وقد جاء في تصريح للغنوشي عام ١٩٩٤م قوله بهذا الصدد:

(أما المحاولة العسكرية، فكانت محاولة للتعامل ضد هذا النظام الذي كان يريد القضاء على الحركة… هذا المخطط كان قد أتخذ خارج إطار الحركة الذي كانت معظم مؤسساتها مشتتة وغائبة، وأيضا بعض إداريي الحركة كانوا مورطين في هذه الخطة) وفي وقت لاحق تحولت حركة الاتجاه الإسلامي إلى حركة النهضة. 

٠ ٠ ٠

عطاء راشد الغنوشي وتكريمه

راشد الغنوشي السياسي الإسلامي المتميز والعضو في الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، ألّف أكثر من عشرين كتابا، منها ما نُشرت ترجمته إلى لغات عديدة، ومن هذه الكتب:

من تجربة الحركة الإسلامية في تونس

الحركة الإسلامية ومسألة التغيير

الحريات العامة في الدولة الإسلامية

الوسطية السياسية عند الإمام يوسف القرضاوي

مسيرة الصحوة الإسلامية

حقوق المواطنة

الديمقراطي في الظاهرة الإسلامية

مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني

المرأة بين القرآن وواقع المسلمين

القدر عند ابن تيمية

وراشد الغنوشي السياسي المفكر وزعيم حركة النهضة وأحد صناع فترة الثورة التونسية وما بعدها، اعتبرته مجلة تايم الأمريكية عام ٢٠١٢م واحدا من مائة شخصية أكثر تأثيرا في العالم، واعتبرته مجلة فورين بوليسي / شؤون السياسة الخارجية، عام ٢٠١٢م أيضا واحدا من أفضل مائة مفكر في العالم. وقد حصل على عدد كبير من الجوائز العالمية التقديرية كان من بينها على سبيل المثال دون الحصر:

عام ٢٠١٢م مع منصف المرزوقي، جائزة تشاتام هاوس تقديرا لدوره في تحقيق تسويات ناجحة خلال التحول الديمقراطي في تونس.

عام ٢٠١٤م في برلين بألمانيا، جائزة ابن رشد لحرية الفكر

عام ٢٠١٥م مع  الباجي قائد السبسي، جائزة مؤسسي مجموعة الأزمات الدولية (ICG) لرواد بناء السلام

عام ٢٠١٦م جائزة جمالال باجاج في مومباي تقديرا لدوره في تعزيز القيم الغاندية خارج الهند. كما كان من باب تكريم راشد الغنوشي حصوله عام ٢٠١٥م على عضوية مدى الحياة في اتحاد طلاب جامعة عليكرة الإسلامية، وعام ٢٠١٧م على شهادة فخرية من الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا

هذه القامة السامقة على أكثر من صعيد والتي تحمل اسم راشد الغنوشي ابن الإسلام البار وابن تونس البار، يتصور الانقلابي قيس سعيد أن في الإمكان أن تقضي عليه وعلى إنجازاته حملة القمع العدوانية ضد المعارضة -وفق تعبير منظمة العفو الدولية- كما يتصور صانع الانقلاب على الدستور والشعب أن في الإمكان التحرك بتونس مجددا إلى الهاوية الانقلابية الاستبدادية التي تجاوزها عهد الغنوشي ومن عمل معه في تونس قبل الثورة وبعد الثورة من الإسلاميين وسواهم تحت عنوان حركة النهضة وتحت عناوين تحالفات سلمية لبناء السلطة الجديدة، وكان موقع راشد الغنوشي في نطاقها هو موقع رئاسة مجلس الشعب المنتخب من جانب الشعب الثائر.

ونقول مع ابنته سمية الغنوشي:

(اختطفوك ليلة السابع والعشرين من رمضان وسجنوك ليلة العيد.. حسبوا أنهم بذلك سيغيبونك ويكتمون ذكرك! لكنك يا أبي حاضر كما كنت دائما، لا بين أبنائك وأحفادك من صلبك فحسب، بل في قلوب الملايين من محبيك وتلاميذك وقرائك في مختلف أرجاء المعمورة، رمزا لرجاحة العقل ونفاذ البصيرة وسماحة الروح ورفعة الخلق وطول النفس وصبر الأنبياء.. يا لغبائهم: مثلكَ، يا من ملأ ذكره الآفاق، لا يُسجن!)

وأستودعكم الله وأستودعه راشد وأهل راشد ومحبيه ورفاق دربه وأستودعه تونس وثورتها الشعبية المجيدة، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.