خواطر – أرقام تغتال الوجدان

المنهجية والوجدان يتكاملان ولا يتناقضان

قتلتنا الأرقام وقتلناها قتلت فينا الإحساس والوجدان وقتلنا فيها تعبير كل رقم منها عن الإنسان

0 601
٥:٠٥ دقيقة

انتشرت شكاوى من أن الأرقام لم تعد تترك أثرا فاعلا في واقعنا، وكل رقم عبارة عن شهيد أو جريح أو معتقل أو معذب أو مشرد أو مضطهد أو محروم أو ضحية اغتيال قضاء زائف وإعلام مزيف وسياسات همجية.

هم شهداء الانتفاضات ضد الاحتلال والمقاومة ضد العدوان والثورات ضد الاستبداد، وهم أعداد لا تحصى من ضحايا اليورانيوم المنضب الذي استخدمه الأمريكيون ومن ضحايا البراميل المتفجرة التي استخدمها الأسديون ومن ضحايا حصار غزة وفلسطين الذي يمارسه الصهيونيون وحصار العراق الذي مارسه الأمريكيون من قبل. وهي أيضا أرقام من الأبرياء من شعوب بأكملها تعيش في معتقلات كبرى في الهواء الطلق المسموم.

قتلتنا الأرقام وقتلناها حتى في حالة حوادث ناجمة عن إهمال وتقصير، كغرق عبّارة، أو حريق مسرح، أو سقوط حافلة في ترعة مائية، أو غرق الهاربين على زوارق الموت من جحيم أنظمتهم إلى جحيم التشريد، فلا حساب ولا عقاب ولا حتى استقالة أو غرامة.

لا يكاد يمر يوم دون مزيد من أرقام قتلت فينا يقظة الوجدان وقتلنا فيها مغزى تعبير كل منها عن إنسان كي نعمل منهجيا من أجله.

أصبحنا نتابع أخبارا ولا نرى في ثناياها دماء تسيل وأرواحا تزهق ولا نسمع فيه أنينا يعلو وعذابا يشتد ولا نحس بخسارة بشرية ومادية، ولهذا لا يتحول الحديث إلى قوة تحيي الوجدان، ولا إلى إبداع يحرك الأقلام، ولا إلى حياء يحجب حمرة المجون في شاشات التلفزة، ويحجب بما تعنيه هذه الأرقام في واقع الأمة، بعضَ ما يعنيه التدجيل والغثاء في حاضرها ومستقبلها.

نتابع الأرقام فإن اشتد بنا الغضب والألم فتحدثنا عنها قيل تحذيرا من ظهور مشاعرنا: هذا خطاب تحريضي، أو هذا كلام عاطفي، أو هذا لا يقدم ولا يؤخر فساهمت تلك العبارات وأمثالها في موات الوجدان، ونحن في أمس الحاجة إليه لنتأثر بالحدث فيدفعنا دفعا على طريق التزام الموضوعية والمنهجية في معالجة مشكلاتنا وتغيير أوضاعنا.

لن نميز دون وجدان حي أصوات الأنين والشكوى لانشغالنا بصخب التهليل لرقم قياسي يحمل اسما عربيا فيما يسمى موسوعة جينتس الأمريكية، التي لا تنشر أرقامنا القياسية عن ضحايا الحروب من قتلى ومشردين، وعن ضحايا التخلف والعجز المصنوعَيْن صنعا، من جوعى ومرضى وأميين ومتسكعين وعاطلين وبائسين.

لن نميز دون حياة الوجدان واستقامة الضمير ورجحان العقل في وقت واحد ما بين أرقام منهجية وأرقام التزوير والتزييف في تقارير لا تنقطع حول تقدمنا المزعوم بين الأمم وعن جوانب تخلفنا في كل ميدان، ونحن نتوهم التقدم ببناء ناطحات سحاب بخبرات الأجنبي وقيادة سيارات واستيراد أسلحة من صناعة الأجنبي في بلاد تساهم أنظمتها في تمريغ دماء أهلنا ودموعهم تحت التراب.

حياة الوجدان شرط من شروط التمييز بين أرقام عن قلة تتسلط وكثرة تتلقى السياط، ومن شروط ظهور قيادات وليس مجرد نخب تعزف على أوتار نشر اليأس والقنوط والعجز والإحباط.

لكل حالة استثناء، نعم، ولكن يجب أن نتحول من حالاتنا الاستثنائية إلى حالات طبيعية تكون هي القاعدة، كي نعطي مضمونا للعبارة التجميلية التي نستخدمها حول واقعنا البائس: نحن على طريق النهوض، بدلا من اغتيال معنى العبارات مع الأرقام ومفعولها، على مذبح موات الوجدان.

وأستودعكم الله وأستودعه عقولنا ومشاعرنا ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.