كلمة وفاء – مع بيان الطنطاوي
حياك الله أختنا الكريمة بيان الطنطاوي ونفع بك وبسائر ذويك أهلنا في كل مكان وأعاد للإنسان معنى الإنسانية في عالمنا وعصرنا
ــــــــــ
كانت محاضرة غنية بالمعلومات، وأمسية أثارت في القلب لواعج الشوق لأيام غابرة، كما أرجعت ذكريات مؤلمة لم تفارقنا يوما، فمنذا يلتقي مع بيان الطنطاوي الأستاذة الفاضلة والمربية القديرة والعاملة المجاهدة في ثغر التربية والتعليم الأهم من سواه من ثغور العمل لمستقبل سورية شعبا ووطنا ومستقبل الأمة فكرا وعلما وأخلاقا، ولا يذكر كيف كنا قبل أكثر من خمسة عقود نستمع أطفالا وناشئة وشبابا وشيوخا ورجالا ونساء ومسلمين وغير مسلمين إلى تلك الأحاديث الإذاعية في دمشق لأبيها الشيخ الجليل والقاضي الكبير والأديب المبدع، والفقيه المجتهد، علي الطنطاوي رحمه الله، وأجزل له الجزاء الأوفى على ما سعى في تقديمه للأمة في حياته، وما تواصل تقديمه عبر ذريته بعد رحيله إلى رضوان الله تعالى كما وعد عباده الصالحين العاملين، مما لا نزال نقرؤه ونتابعه من عطاءات من ناسبه وصاهره من آل الطنطاوي، وآل العظم، وآل الطباع، وآل ديرانية، وغيرهم، فنرصد ما تعنيه كلمات “ذرية بعضها من بعض”.
ومنذا الذي يلتقي مع الأستاذة بيان، ولا يذكر أختها وأختنا الكبيرة المؤمنة المجاهدة الشهيدة بنان الطنطاوي، الراحلة ضحية الغدر الأسدي يوم ١٧ / ٣ / ١٩٨١م، يوم فارقت أستاذنا الجليل عصام العطار حفظه الله وأمدّه بالقوة في عطائه المتواصل حتى الآن وقد تقدّمت به السنّ في مدينة آخن، حيث حظينا مؤخرا بلقائه مع ثلة من الشباب، فجدد لدينا الأمل وحثنا على مواصلة العمل.. كما فارقت الشهيدة يومذاك ولديها العزيزين أيمن وهادية، وقد كانا معنا في ذلك اليوم، يوم الجمعة ٢٦ / ٩ / ٢٠١٤م، عندما ألقت الأستاذة بيان محاضرتها حول التحديات التي تواجهها جهود التربية والتعليم لأبناء سورية وبناتها، وقد دعت إليها ابنة أختها هادية، وشارك في عرض المصورات التي شرحتها الأستاذة بيان حفيد أختها بلال، كما دعانا ابن أختها أيمن بعد ذلك إلى أمسية ضمت لفيفا من الإخوة والأخوات.
في تلك الأمسية افتقدنا من لم تخبُ ذكراها في قلوبنا، الشهيدة التي طالما استمعنا إلى محاضراتها القيمة قبل أعوام عديدة، وجلسنا معها في أمسيات مشابهة لا يزال أثرها في أعماق نفوسنا إلى اليوم، وعايشنا بأنفسنا تفانيها من أجل كثير من أخواتها وإخوتها، كالذي عايشناه ونعايشه من جانب أستاذنا الجليل عصام العطار، وقد افتقدناه في تلك الأمسية أيضا، فما عاد يغادر المنزل إلا لماما، ومن هناك تنطلق كلماته الموجزة لتصل إلى مئات الألوف، وتضيء الدرب الذي عاش ماضيا عليه بعزيمة لا يحد من قوتها عبء السنين، ولا عبء ما لقيه في حياته من الأبعدين والأقربين في تلك السنين.
إنما هو وعد الله تعالى أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يمكن إلا أن تثمر في هذه الحياة الدنيا البذور التي زرعها وأقرانه من شهود العصر، وهو يقين يعززه ما تابعناه في تلك المحاضرة من أعمال الهيئة السورية للتربية والتعليم والأستاذة بيان الطنطاوي عضوة من ١٧ عضوا في أمانتها العامة، التي تشتغل الآن على ١٧ مشروعا رئيسيا بالإضافة إلى عدد من المشاريع المطروحة الأخرى، ومنها ما يجري تنفيذه الآن، كإقامة المزيد من المدارس لأطفالنا وناشئتنا من ضحايا التشريد داخل الوطن وخارج حدوده، وتنقيح الكتب المدرسية وطباعتها وتوزيعها، وإنشاء جامعة عن بعد، ومشروع المدارس الميدانية على غرار المشافي الميدانية، وغير ذلك مما يعتمد على توظيف أحدث التقنيات وأكثرها ملاءمة للوصول إلى كل طفل سوري يمكن الوصول إليه، في مخيمات النزوح، وفي القرى السورية النائية، وفي مناطق لا يتخيل بعضنا إمكانية الوصول إليها، مع مراعاة الظروف التي صنعها التعرض لإجرام الهمجية الأسدية، فترك ما لا يحصى من الأسر دون معيل، وترك بعض الأطفال يعتمدون على الأكبر سنا منهم وهو في سن الطفولة بعد، ودمّر المدارس التي كانت قائمة من قبل، والكثير مما أقيم أثناء الثورة، فحُرم كثيرون من التعليم لسنوات، ناهيك عن صعوبات لا تخطر على بال من لا يشتغل مباشرة في مثل ما تشتغل به الأستاذة بيان الطنطاوي عبر الهيئة السورية للتربية والتعليم، كفقدان كثير من التلامذة والطلبة لوثائق ما أنجزوه على مقاعد الدراسة من قبل، أما من يحمل منهم وثائقه فقليلا ما يجد الاعتراف بها في البلد الذي تشرد إليه، وقد سعت الهيئة لحل بعض هذه المشكلات، وقد يجد المزيد حلولا إضافية في مؤتمر دولي عملت الهيئة لتأمين انعقاده في تركيا في غضون شهرين على الأرجح.
في مسجد بلال – الذي يحتفل عام ٢٠١٤م بمرور خمسين سنة على إنشائه في آخن غرب ألمانيا – لم نجد أمامنا أستاذة محاضرة قديرة فحسب، جمعت المعرفة والخبرة وحسن العطاء، بل كنا نرصد أيضا من خلال عباراتها لا سيما أثناء الحوار بعد المحاضرة، سجايا إنسانية أخلاقية عملية نحتاج إليها في مختلف الميادين وليس في ميدان العاملين في التربية والتعليم فقط، في أصعب ظروف ما أصبح يوصف بمأساة القرن الكبرى، ويكفي مثالا على ذلك ما رددته جوابا على أحد الأسئلة بشأن النقد الموجه لعمل الهيئة، فهو من قبيل “إهداء العيوب لتحسين العمل” حتى عندما يصدر النقد بلهجة لا تنبئ بنوايا حسنة، ولا تلتزم التوثق من المحتوى ولا ظروف العمل قبل توجيه النقد “اللاذع”، ولم نسمع منها نقدا لبعض من نحسبهم يستحقون النقد في الأصل.
ومن يتابع بعض أعمالها يعلم أنها تعتمد اعتمادا كبيرا على الشباب والشابات من أبناء سورية وبناتها، فيقينها أنهم بناة المستقبل لا يتزعزع كما كان يقين أبيها الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، وكما هو يقين أفراد أسرتها وقد أصبح لبعض بناتها أحفاد تذكرهم كما تذكر أحفادها، وهي تعمل بهمة الشباب، متنقلة من بلد إلى بلد، ومن لقاء إلى لقاء، دون أن تتوقف – وهي المقيمة منذ عشرين عاما في ماليزيا – عن متابعة عطائها في التربية والتعليم، ولعل من أسرار هذا العطاء الوفير أنه يقترن حتى اليوم بمواصلة بذل الجهد الكبير في تطبيق ذلك التوجيه الرباني المعجز “وقل ربي زدني علما” فلا ينقطع عملها في طلب العلم وهي تعطي منه لكل من يلتقي بها.
حياك الله أختنا الكريمة وأجزل لك العطاء في الدنيا والآخرة، ونفع بك وبسائر ذويك أهلنا في بلدنا وأهلنا من أبناء أمتنا وأعاد للإنسان معنى الإنسانية في عالمنا وعصرنا.
نبيل شبيب