كلمة وفاء – الشهيدة بنان الطنطاوي العطار
يكفي ما كان منها زوجا وأما للحديث بلا نهاية عنها، ولكن أم أيمن كانت أيضا متميزة عند كل من عرفها
ــــــــــ
هل يحق لمن عرف الشهيدة بنان الطنطاوي العطار أن يخصها بالحديث في ذكرى استشهادها، ونحن نعيش هذه الأيام ما تقدمه الفتيات والنساء في سورية (وأخواتها) من تضحيات فوق التصور، وبطولات أشبه بالمعجزات، فإذا بهنّ مجاهدات وشهيدات، ومعتقلات ومشردات، وطبيبات وممرضات، وإعلاميات وناشطات، كما أنهنّ أمهات وزوجات وأخوات وبنات ومعلمات لمجاهدين وشهداء ومعتقلين ومشردين وعاملين وناشطين.
إن ما تصنع المرأة في بلادنا هذه الأيام يفوق الوصف، وإن نتائجه في حياة شعوبنا وعلى مستوى عالمنا وعصرنا أكبر بكثير من إمكانية استشرافه وإن أصبحنا على ثقة بأنه من مستوى المفاصل التاريخية والحضارية الفاصلة على مر القرون.
. . .
لا يمكن لعاقل أن يقف بين يدي ذكرى الشهيدة أم أيمن ويغفل ولو لحظة واحدة عن آلامنا وآمالنا مع سجل التاريخ الذي تكتبه أيدي النساء في سورية وأخواتها ودماؤهن ودموعهن هذه الأيام، ولكن لا يسع من عرفها وعايشها ثم عايش شهادتها إلا أن يقف وقفة المحبة والتقدير، مستحضرا ما تعنيه حياتها وشهادتها في إطار ما كانت عليه أحوالنا قبل بضعة وثلاثين عاما.
لم يكن أمرا اعتياديا أن نجد في تلك الحقبة المرأة المؤمنة الداعية الصابرة المجاهدة المثقفة الواعية العاملة، ولقد جمعت أم أيمن ذلك كله، ويعلم الله أنها شهادة صادقة، وإن كان في القلب من المحبة والتقدير لزوجها، أستاذي الجليل، ما يجعل “المجاملة” مشروعة، إنما لا يحتاج الحديث عن أم أيمن رحمها الله إلى مثل تلك المجاملة، وإن دفع إليها أنها كانت على ما ينبغي أن تكون عليه رفيقة العمر إخلاصا ودعما وعونا وصبرا واحتسابا وأنسا، لمن بدأ رحلة العمر في مطلع شبابه فما حاد عن الطريق قيد أنملة، في وطنه على تقلب الظروف في الخمسينات ومطالع الستينات من القرن الميلادي الماضي، وفي حياة الترحال منذ عام ١٩٦٤م، في بلد بعد بلد، وقد جمع في شخصه الكثير، عالما ومفكرا وداعية ومجاهدا ومربيا، وأخا كبيرا وأستاذا جليلا وإنسانا، وبقي على ذلك وبقيت رفيقة دربه معه، عبر الأهوال وما أكثرها، وفي لحظات “الراحة والاطمئنان” وما أقلها، حتى اللحظة الأخيرة، يوم استشهادها في آخن بألمانيا، يوم ١٧ / ٣ / ١٩٨١م، عندما تحايل عليها المجرمون بإكراه جارتها على قرع باب بيتها، فلما فتحته ورأوها اغتالوها بخمس رصاصات، ولو استطاعوا لنفذوا مأربهم باستئصال عصام العطار وأفراد أسرته جميعا يومذاك ومن خلال محاولات أخرى، إنما لم يكونوا برفقتها في البيت ساعة استشهادها.
كان في المستشفى وبلغه الخبر، ولا أنسى قط صوته المتهدج على الهاتف وهو يقول لي: قتلوها.. قتلها المجرمون، وبقي التهدج في صوته فترة طويلة من الزمن من بعد، ولا يزال يعاوده كلما رأى أو سمع ما يذكره بها، وما أكثر ما يذكره بها.
. . .
كم كانت تنتهز الفرصة فتذكره وتحدثنا عن أوضاعه وما يلقاه من عنت على أكثر من صعيد، عندما تجمعنا معها ساعة من الزمن في غيابه، أو تتحدث عن ولديها، هادية وأيمن، حديث المستشير أحيانا في شأن من شؤون الدراسة أو حياة الغربة، مع أنها كانت خير مصدر للمشورة لكل من يحرص على تربية فلذات الأكباد بما يحقق لهم الخير في الدنيا والآخرة.
يكفي ما كان منها زوجا وأما للحديث بلا نهاية عنها، ولكن أم أيمن لم تكن الزوج الكريمة المجاهدة رفيقة الزوج الكريم المجاهد وأم هادية وأيمن فحسب.
كلّنا أو جلّنا يقرأ الكتب ويستمع إلى ما تيسر له من محاضرات، وكانت ممّن يتخيرون ما يقرؤون، ويستوعبون ما يسمعون، فتستخلص ما يفيد في حياتها العملية، وقد تقف موقف الناقد من بعض ما لا يستقيم مع ما استقر لديها من أسس واقتناعات.
كلّنا أو جلّنا يستشهد بآية أو حديث أو قول ذي شأن، وكنّا لا نسمع ذلك منها قدر ما نراه من خلال تجسيده في حديثها حديث المفجوع كلما سمعت عن سوء مسّ إنسانا، لا سيما أخواتنا وإخوتنا تحت قهر الاستبداد، مثلما نراه متجسدا في علاقاتها مع من حولها، لا سيما مع الشابات الوافدات حديثا إلى ديار الغربة في ألمانيا، فكانت الواحدة منهن -وبوسع هذا القلم أن يذكر أسماء بعضهنّ- تشعر وكأن أم أيمن ليس لديها ما يشغلها، سوى رعايتها وتقديم العون لها وإرشادها إرشادا ميسّرا يدخل القلب مع العقل ويتلاءم مع الظروف والمعطيات في الحياة اليومية العملية.
كثير منا يحاضر أو يخطب أو يشارك في ندوة حوارية، وكان هذا الغالب على أنشطتنا في تلك الفترة التي لم تكن الاستجابة فيها للدعوة كما أصبحت في هذه الأثناء، وكانت إذا حاضرت لا تحاضر بلسانها بل تختلج الحروف منطلقة من أعماقها، وتختلط بمسحة من الأسى المنساب في كلماتها، فكأنها تقول مع كل عبارة -بل كانت تجهر بذلك كثيرا- لو أننا نطبق ما نقول ونعلم كما ينبغي لتبدلت أحوالنا وارتفع مستوانا ومستوى أمتنا بنا ومعنا.
. . .
نذكرها على الدوام وذكرناها يوم ١٧ / ٣ / ٢٠١١م، ذكرنا استشهادها قبل ٣ سنوات من انتقال شرارة ربيع الثورات الشعبية إلى سورية، فكان مما خطه القلم يومذاك:
كأنّني بك تلهجين بشكر الله في العلياء وأنت تبصرين جيل “الإخوة والأخوات” من الشبيبة في بلادك، سورية وأخواتها، وقد انطلقوا على الطريق، يواجهون الاستبداد والفساد ثائرين ثابتين صامدين صابرين، ويقوضون صروحه المهترئة، صرحا بعد صرحا، فيرتعد لمرآهم الطاغوت في أرضهم، والطاغوت في عالمهم، ويستبشر بهم الأخيار الأحرار في كل أرض وتحت كلّ سماء.
أختاه الشهيدة، ما كان دم الشهادة ليضيع هدرا وقد وعد الله تعالى العاملين المجاهدين الصادقين بعونه ونصرته، ما كانت دعوات المظلومين المحرومين من حرياته وحقوقهم لَتُحجب عن السميع البصير القدير، فهذا أملُك وتفاؤلُك بالمستقبل المضيء، بانتصار الحق وإزهاق الباطل يتحقّق بإذن الله، ويوشك أن يعمّ أرض العرب والمسلمين والعالم بنور الكرامة والعزّة والهداية، على أيدي جيل كنت طوال حياتك المعطاءة تتفاءلين بأن يتحقق النصر على يديه، وقد أوشك يتحقق، وأن تغمر العدالة والكرامة والعزة والحرية حياته، وقد أوشكت.. رغم ما يلقاه من صلف الطاغوت وعنته، وبطشه وجبروته.
. . .
صحيح أن أم أيمن لم تترك سوى بضعة كتيبات صغيرة ومقالات متميزة، وكان التقليل مما طُبع ونشر حاملا اسمها له أسبابه في تلك الفترة، ولا علاقة لتلك الأسباب بعطائها، فما تركته كثير، وينعكس بمفعوله حتى اليوم في حياة أخوات عرفنها أختا كبيرة، وأصبحن أمهات وجدّات، يذكرنها ونذكرها معهنّ في معظم مجالسنا، وقد نتجنّب ذكرها إذا كان عصام العطار حاضرا، لنتجنّب رؤية دمعة يغالبها جفناه المثقلان بأهوال السنين، وقد تغلبه فتنبثق من عينيه.
نبيل شبيب