دردشة – فيضانات وتصحّر

أنت تعلمنا في بلادنا المتقدمة ما نصنع.. وبلادكم تتصحر وهي متخلفة!

41
مدينة كولونيا تحت مياه الفيضان ١٩٩٣م

ـــــــــــ

(في السودان هذه الأيام من عام ٢٠٢٠م فيضانات هي الأشد من نوعها خلال أكثر من قرن، وظهر مدى العجز عن مكافحة ما نجم عنها من مآس وما سببته من أضرار للبشر والأرض، وكان هذا متوقعا، إنما توجد حالات أخرى للعجز في بلدان متقدمة عن مواجهة الكوارث أيضا، وهذا مما عايشته في ألمانيا أكثر من مرة، من ذلك في أواخر عام ١٩٩٣م عندما سجلت السطور التالية التي نشرت في حينه في جريدة المدينة / جدة).

كان غارقا في تأملاته، سارحا بأفكاره، كأنه في عالم آخر بعيدا عن المقهى الذي يجلس فيه وعن الصخب الذي اعتدناه ساعة الظهيرة، عندما يقصده معظم الزملاء العاملين في المبنى الكبير، يحتسون المشروبات ويتبادلون أطراف الحديث متناسين هموم العمل.
ولا أحب الإزعاج عادة.. ولكن جمحت بي الرغبة أن أتابع معه حديثا انقطع قبل شهور في المكان نفسه، فاقتربت منه محيّيا ورفع رأسه فردّ الحية كمن استيقظ من سبات عميق، وهممت بالجلوس فهمّ بالوقوف. قلت مداعبا:
– ما بالك؟ أنت على عجل، أم على غضبك القديم؟
وعاد إلى الجلوس قائلا:
– لا هذا ولا ذاك ولكن يبدو أن حجّتك اليوم أقوى من حجّتي..
وابتسمت عاجزا عن مواراة الإحساس بالسرور وأنا أقول:
– تقصد أن ألمانيا “غارقة” الآن في الفيضان، وهو ما كنت تنكر احتمال حدوثه أصلا!
قال وفي صوته رنّة الغيظ:
– لم أنكر احتمال حدوث الفيضان، فهذا من صنع الطبيعة، ولكن قلت..
قاطعته قائلا:
– عدنا إلى حديث الطبيعة وما تصنع..
وتابع متجاهلا:
– قلت آنذاك إن في ألمانيا استعدادات كبيرة لمواجهة مختلف الكوارث الطبيعية.
ورشفت الرشفة الأولى من فنجان القهوة وقلت بعد لحظة صمت:
– كأنني أذكر قولك باعتزاز، إنها استعدادات أفضل منها في أي بلد آخر..
– هي كذلك.. هي كذلك..
وتابعت متجاهلا مقاطعته أيضا:
– وقولك إن وقوع كارثة فيضان مشابهة لما شهدته كاليفورنيا مؤخرا أمر مستحيل!

قال بإصرار:
– ما حدث الآن لم يحدث مثله منذ مائة عام على الأقل، ورغم ذلك فالاستعدادات الوقائية ممتازة.
قلت:
– غرقت أجزاء من مدن كولونيا وبون وكوبلنز لأن الحدّ الأقصى الموضوع في الحسابات لارتفاع مياه نهر الراين كان عشرة أمتار، ولكن ارتفع المنسوب عشرة أمتار ونصف المتر.. ألم تكن الاستعدادات ناقصة؟
قال:
– نعم، ولكنها خففت من شدة آثار الفيضان..
قلت:
– وغرقت قرى بأكملها، وعمّ الماء قلب مدن كبيرة أخرى مثل ساربروكن وهايدلبيرج..
قال:
– لا يؤمَن شرّ الطبيعة، وسيدفع ما وقع إلى احتياطات أكبر وأفضل..
قلت:
– هنا المشكلة، صنعتم للطبيعة إرادة، ثم دخلتم في صراع معها، فأنتم في صراع دائم مع أنفسكم..
واصطنع ضحكة طويلة، ثم اعتدل في جلسته محاولا اصطناع الجدّ أيضا، ولكن لم يستطع تجنّب التهكّم وهو يقول:
– كيف تريدنا أن نتعامل مع الأمطار والأنهار؟ نعقد اتفاقية معها؟ نرجوها ألا تفيض على المدن والقرى بمياهها؟
قلت:
– بل أحدثك باللغة التي تفضلها، وأحسبك تابعت مثلي التقارير التي تقول إن ما صنعته يد الإنسان على ضفاف الأنهار ضاعف آثار الكارثة، وأن المناطق القليلة التي نجت من يد التطوير الصناعي والعمراني، نجت أيضا من كارثة الفيضان، بل كان امتداد الماء فيها حاجزا طبيعيا واقيا للمناطق العمرانية المجاورة، أليس هذا صحيحا؟
قال:
– نعم ولا أنكره، ولا بد من البحث عن سبل تقنية أفضل للتطوير دون تدمير المعطيات الطبيعية.
قلت:
– ليس هذا الكلام جديدا، ولا ما يقتضيه على أرض الواقع مجهولا.. فعلام لا يجد طريقه إلى التطبيق منذ زمن بعيد؟
وخيّل إليّ أنه حار عن إعطاء جواب فتابعت أقول:
– ألست معي بأن التناقض يقع باستمرار بين وقاية البيئة الطبيعية كشعار مرفوع وهدف معلن، وبين أصحاب المصالح المادية من وراء مشاريع التطوير والعمران، وأن الغلبة دوما أو في معظم الأحيان للمصالح المادية على حساب الطبيعة ووقايتها؟ وهذا ما يحدث على الصعيد الأخلاقي وعلى صعيد العلاقات الاجتماعية وعلى الصعيد التربيوي..
قال ببعض الانفعال:
– قد وصلت إلى غايتك بالحديث وإلى محور الخلاف بيننا، فقل بوضوح ماذا تريدنا أن نفعل، نستغني عن التقدم التقني والعمراني ونعود إلى حياة بدائية لنحمي الطبيعة والأخلاق والعلاقات الاجتماعية؟
قلت:
– إن تسألني وقد دار حديثنا حول البيئة الطبيعية في الأصل، فأرى أول خطوة هي أن تتبدل علاقتكم بالطبيعة من علاقة صراع إلى علاقة انسجام، وهذا بالذات ما يصنعه اليقين بأن الخالق سخر ما في الطبيعة لنستفيد منه قدر الحاجة، وليس لقهره واستهلاكه دون حساب!
وعاد إلى تهكمه قائلا:
– هكذا! وما هي الخطوة الثانية؟
قلت:
-جميع الخطوات التالية يصدر عن الأولى، فهي أول شروط التوازن الضروري في العلاقة بين الإنسان وهو على طريق التقدم التقني والعلمي والعمراني وبين المعطيات الطبيعية والبيئية والسنن الكونية حوله وكذلك السنن الاجتماعية.
وتوقفت عن الكلام وقد أحسست أنه يحاول أن يكتم غضبه، ثم قال وفي نبرات صوته الحرص على هدوء شديد، كان أقسى عليّ مما لو تملكه الغضب فسيطر على لسانه:
– يا أستاذ.. أنت تعلمنا في بلادنا ما نصنع.. وبلادكم تتصحّر، وهي متخلفة، وأنتم تتمنون أن تسيروا على طريقنا، بل وتنقلون عنّا سائر ما نصنع بخيره وشره، فإن لم تفسدوا الطبيعة اليوم ستفسدونها غدا.. وقد وصل الفساد – كما تعبر عنه عادة – إلى الأخلاق والعلاقات الاجتماعية لديكم أيضا، فعلام لا تتحدث بهذا اللسان إلى أهل بلدك بدلا من حديثك هنا، أم تحسبني أسمع منك وهم لا يسمعون منك ما تقول؟
وكان في نفسي ألف جواب.. ولكنني أطرقت طويلا حتى انصرف وقد عجزت عن النطق بكلمة واحدة.

نبيل شبيب

التعليقات مغلقة.