خواطر – الهجرة إلى المدينة المنورة

كيف نحوّل الموسم العابر إلى قطعة من حياتنا

الهجرة إلى المدينة حدث تاريخي وقع عبر التخطيط والعمل في ساعة العسرة

96
٤:٥٠ زقائق

مرة أخرى يحلّ الأوّل من محرّم ليذكّرنا بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلّم من مكة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة، وانتقال المسيرة النبوية من مرحلة إلى مرحلة. ومرة أخرى يتكرّر الحديث في هذه المناسبة عن وقائع الهجرة تخطيطا وتنفيذا ومقدمات ونتائج، وإعجازا ربانيا ومعاناة بشرية. وفي التذكير أداء للواجب، ومنفعة للمؤمنين، وتحفيز للعاملين، وتذكير بسنن الله عزّ وجلّ في الكون على امتداد الزمان وامتداد المكان.

ولا يوجد ما يمكن أن تضيفه هذه الفقرات المعدودة إلى ما اطّلع عليه كاتبها عن الهجرة وأحداثها ومعانيها وعبرها، ممّا خطته أقلام قديرة على صياغة العبارة، وطرح المعاني المطلوبة، والتأثير في القارئ، ولكن المرجو أن يكون هذا التأثير دائما لا موسميا، وأن يضيف جذوة إلى شعلة الهداية لطريق الإيمان والعمل، وتوظيف الطاقات والإمكانات لتحقيق الإنجازات المرئية على أرض الواقع.

ومرة أخرى نتحسّس مع بداية عام هجري جديد الآلام والمعاناة، ونرصد ما يجري في بلادنا وعالميا من أحداث، ونبحث عن بصيص ضوء نستعيد من خلاله الأمل في تحقيق التغيير المرجو في حياة المسلمين وحياة البشرية، كما نستشعر كيف تختلط عبارات إثارة الأمل بالمرارة، وكيف تتحوّل رؤية ما يتحقق على الطريق بفضل من الله تعالى إلى قدر من اليأس الذي لا ينبغي أن يتسرّب إلى نفس المؤمن، كما نرصد يوم الهجرة ما نرصده أيضا في مناسبات أخرى، لا سيما في عيدي الفطر والأضحى، كيف يتجنّب بعض المخلصين في كتاباتهم الإعلامية، وفي المواقع الشبكية، كلّ إشارة إلى وطأة الأحداث العابرة لحدود بلادنا جميعا، كيلا تغلب على بهجة الأطفال في العيد، واستبشار عامة المسلمين بعام جديد.

ولكن.. هل السبيل إلى الحفاظ على فرحة العيد وبهجة المناسبات الإسلامية هو سبيل تجاهل وطأة الأحداث؟

هل يكفي في الاعتذار عن ذك بأنّ لكل مقام مقالا، فالأحداث موضع المتابعة والتحليل والدراسة، ولا ينبغي أن يختلط الحديث عنها بالحديث عن الأعياد والمناسبات الإسلامية؟

إن المبالغة في ذلك، وظهور عنصر التجاهل في استقبال الأعياد والمناسبات، يمكن أن يؤدّي إلى النقيض، فبدلا من نشر الفرحة مع الأمل، ينتشر الاعتقاد بأنّ المسلمين وبلادهم في نفق مظلم، لا يوجد فيه ما يستدعي الأمل والاستبشار، فلندعه إذن جانبا عند الاحتفال بعيد أو الاحتفاء بمناسبة من المناسبات التاريخية. ويبقى حديث الأمل بعد ذلك حديثا عاطفيا حماسيا، يكفينا منه التأكيد بأن النصر آتٍ حتما، فذاك قدر رباني، والله تعالى هو القوي العزيز.

ولا غبار على ذلك إذا اقترن بالتذكير أنّ الخروج من النفق المظلم يتطلب العمل والبذل والتضحيات الجسام، ولا غبار على ذلك إذا أدركنا أنّ حدث الهجرة كان يجمع بين جانب المعاناة وجانب التخطيط للخروج من المعاناة في وقت واحد، وأن أعياد المسلمين لم تكن تمنع من الإعداد المتواصل والتحرك الدائب على طريق العمل والإنجاز.

ليس في كتاب الله عز وجل ما يوهم بأن نصر الله آت -على كل حال- بل فيه {إن تنصروا الله ينصركم}

وليس في كتاب الله ما يوهم بصحة الاطمئنان إلى حتمية النصر، ولكن فيه {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}

إن حديث الأمل لا يتناقض مع حديث التسليم لقدر الله إن اقترن هذا وذاك بالعمل، وحديث الأمل لا يتناقض مع بيان واقع المسلمين كما هو، وفي واقع المسلمين الكثير ممّا يبيح الأمل موضوعيا لا عاطفيا فقط، وتحليلا منهجيا لا كلاما حماسيا فحسب، شريطة أن نبصر البذور التي بدأت تعطي ثمارها، وأن تكون نظرتنا الاستشرافية لمستقبل نرجوه ونعمل له مقترنة بنظرتنا الاستيعابية للأحداث في أبعادها التاريخية لا الآنية فقط.

إنّ اليأس الأكبر هو اليأس الذي بدأ يصيب أعداء الإسلام والمسلمين من كلّ زاوية وفي كل ميدان، بدءا بالميدان العسكري وهم يلقون بكلّ ما تفتقت عنه العبقرية الإجرامية في صناعة أسلحتهم الفتاكة، ويجدونها عاجزة عن كسر إرادة الصمود والمقاومة في تلك الساحات التي نتألم لما يراق فيها من دماء وما تزهق فيها من أرواح وما يدمّر فيها من ثروات.

واليأس الأكبر هو من نصيب أولئك الذين لم تنقطع جهودهم عبر عشرات السنين، جيلا بعد جيل، لتنشئة أجيال من المسلمين تتخلّى عن عقيدتها وأخلاقها وهويتها الحضارية، وكانت الحصيلة صحوة انتشرت في صفوف الشبيبة التي ستملك بأيديها صناعة القرار ما بين غمضة عين -من عمر التاريخ- وانتباهتها.

صحيح أن الصحوة بحاجة إلى مزيد من الترشيد، وهذا ما يقتضي متابعة بذل الجهود للترشيد، ولا يستدعي التركيز على النواقص والأخطاء لنشر روح اليأس بحجة حقيقة أوضاعنا، والاكتفاء بتصوير الأمل أنه جزء من عقيدتنا فعلينا التمسك به إيمانا وتسليما فحسب.

صحيح أن مسيرة الصمود والمقاومة تحتاج إلى مزيد من المؤازرة والعون والدعم والتضامن، فلنفعل ذلك ما دام هو الطريق الصواب، ولنكفّ عن نشر الأوهام القائلة إن المقاومة لم توصل إلى شيء، وإن العدو ما زال يرتكب جرائمه، فلن يكف عن ارتكابها إلا بمقدار ما يزداد حجم المؤازرة والعون والدعم والتضامن. 

. . .

لا يمكن أن نفصل أعيادنا ومناسباتنا الإسلامية عن واقعنا، فهو واقع قائم، ولا أن نجعل الفرحة في الأعياد والتمجيد للمناسبات وكأنّها أمر منفصل عن التعبير عن الألم في المآسي والنظرة المنهجية للأحداث، وإلا لغلبت الغفلة على الرؤية الثاقبة، والتجاهل على النظرة الواقعية.

ليست الهجرة رواية جميلة تنشر الاطمئنان في النفوس للوعد الرباني بالنصر، بل هي حدث تاريخي، صنعه التخطيط البشري برعاية ربانية، والعمل البشري بتأييد رباني، والبذل البشري بدعم رباني، وكان حدثا غير مجرى التاريخ في حياة المسلمين وفي حياة البشرية من بعد، ولكنّه وقع بحدّ ذاته في ساعة العسرة لا اليسر، رغم العقبات الكبرى وما يصنع العدو وليس بعد زوال العقبات وانكفاء العدوان.

هذا في مقدمة ما ينبغي أن نضعه نصب أعيننا ونحن نستقرئ التاريخ، ونستوعب الواقع، ونستشرف المستقبل، في وقت واحد، في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، في أيام المآسي والآلام وأيام الأفراح والأعياد على السواء.

وإلى إطلالة أخرى أستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

التعليقات مغلقة.