المحكمة الجنائية الدولية

التأسيس والألغام والخلل

ورقة بحثية – المحكمة الجنائية الدولية دون استقلالها وسيادتها تبقى أداة إضافية بيد الهيمنة الاستبدادية دوليا

102


pdf word

ورقة بحثية

هذه ورقة بحثية تجمع عدة مقالات بخلفية بحثية سبق نشرها (١) في جريدة الشرق القطرية أثناء مفاوضات تأسيس المحكمة الجنائية الدولية عام ١٩٩٨م، وفي (٢) موقع إسلام أون لاين خلال عامي ٢٠٠٧ و٢٠٠٨ بعد انطلاق الأنشطة الأولى للمحكمة والتي انطوت على جس النبض وشرعنة الازدواجية في التعامل مع صلاحياتها، بالإضافة إلى (٣) تعديلات وإضافات جزئية تتفاعل مع أحداث ٢٠٢٤م لا سيما في مواكبة المساعي المبذولة لتفعيل المحكمة الجنائية الدولية في ملاحقة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في الحرب الإسرائيلية التي تكرس لنكبة أخرى بحق شعب فلسطين وحق المنطقة العربية والإسلامية مع تجاوز الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية على مستوى الأسرة البشرية.

أولا – محكمة جنائية دولية تحت التأسيس

المحكمة الجنائية الدولية ركن إضافي ضروري لنظام عالمي مستقر، شريطة استقلالها والتزامها بالشرعية الدولية دون تزييف، ودون الأخذ بخلل صادر عن واقع  سيطرة شرعة الغاب على الواقع الدولي

أسئلة مفتوحة

في البداية واكبت جهود التأسيس آمال عريضة في أن يكتسب النظام العالمي مشروعية قانونية حقيقية، ولو جزئيا، بعد أن سيطرت عليه الهيمنة المادية ولغة القوة منذ تأسيس المنظومة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وقد افتقرت إلى جهة مرجعية مستقلة تحكم على الإجراءات والاتفاقات وقرارات الأجهزة الدولية من حيث مشروعيتها القانونية، كما افتقرت إلى مرجعية قضائية مستقلة تحكم على مرتكبي الانتهاكات من جانب أصحاب السلطات التنفيذية محليا ودوليا، هذا بعد أن سبق تقييد عمل محكمة العدل الدولية، وربط تنفيذ قراراتها بمجلس الأمن الدولي، ولم تكن المصادفة من وراء هذا الوضع وما فيه من خلل تضخم عبر مرور عشرات السنين عليه، بل كانت القوة المهيمنة بعد الحرب من وراء ذلك، مما أوصل واقعيا إلى أمركة النظام العالمي نفسه.

*   *   *

عندما انعقدت محاكمات نورنبيرج وطوكيو الشهيرة في أعقاب الحرب العالمية الثانية لمحاسبة مجرمي الحرب من ألمانيا واليابان، كانت الأمور واضحة، من حيث نشأة تلك المحاكمات بإرادة الدول المنتصرة في الحرب، و

 لا يشكك أحد بصورة جادة في تلك المحاكمات وما أسفرت عنه، ولكن يوجد من يتجرأ فيشير إلى ارتكاب جرائم حربية أخرى أثناء الحرب العالمية الثانية لم تجد محاسبة مشابهة. ومن ذلك على الأرض الألمانية ما يقترن بذكر مدينة درسدن كشاهد صارخ بهذا الصدد، إذ تعرضت إلى غارات جوية مكثفة متواصلة أسفرت عن تسويتها بالأرض وقتل عشرات الألوف من سكانها المدنيين، دون أن يوجد فيها من المنشآت العسكرية أو الصناعية التعبيوية، ما قد يسوغ القيام بهذه الخطوة ولو شكليا، لا سيما بعد أن تحولت كفة الميزان في نهاية الحرب الطاحنة بصورة كاملة لصالح  جبهة الحلفاء.

ولا يوجد تعليل عسكري مقنع أيضا يبرر قصف هيروشيما وناغازاكي في اليابان بقنابل نووية، فقد ألقيت بعد استسلام المانيا، وبعد أن رضخت اليابان للتفاوض على الاستسلام، فلم يكن يوجد ما يستدعي قتل مئات الألوف من المدنيين العزل من السلاح؛ ولم تجد هذه الجريمة الكبرى محاكمة ولا محاسبة حتى الآن.  

ثم كانت حقبة الحرب الباردة ووقع أثناءها ما يزيد على مائة وخمسين حربا وصداما عسكريا في أنحاء الأرض، فسقط من الضحايا وشُرد من البشر أضعاف ما سجلته ويلات الحرب العالمية الثانية، بل تعرض بعض البلدان كفيتنام في الستينات والسبعينات والعراق في التسعينات من القرن الميلادي العشرين، إلى القصف بقوة تعادل كما ونوعا من حيث طاقة التفجير التدميري أضعاف ما تعرضت له سائر البلدان الأوروبية معا، أثناء السنوات الست التي استغرقتها الحرب العالمية الثانية، وأضعاف طاقة التدمير والقتل النووية الهائلة التي ألقيت على اليابان.

لم يقتصر الأمر على ذلك، إنما تضمنت الحروب والصدامات العسكرية في فترة الحرب الباردة استخدام كل ما هو محظور وفتّاك دوليا من الأسلحة، كالقنابل الحارقة والانشطارية وذات الشظايا المسمارية، والأسلحة الكيمياوية والحيوية، والألغام المضادة للأشخاص، ومنها على شكل لعب أطفال، أي بما يستهدفهم بصورة مباشرة، ولا خلاف في اعتبار جميع ذلك من جرائم الحرب الشنيعة، ولكن لم يصل شيء إلى درجة توجيه الاتهام فضلا عن المحاسبة على جرائم حرب؛ لماذا؟ لأن مرتكبي الجرائم كانوا من القوى الدولية المسيطرة عالميا أو أتباعها.

انتهت الحرب الباردة وخلّفت ثلاثة معطيات رئيسية، متكاملة في مفعولها، وإجرامية في مدلولها، فمن جهة كانت قوة الردع المتبادل أو الرعب النووي مانعا من وقوع صدام مباشر بين المعسكرين العدوين اللدودين، ومن جهة ثانية كان هذا النزاع بالذات سببا في وقوع عدد كبير من الحروب  الساخنة في جنوب المعمورة، نتيجة الصراع على النفوذ، والحروب بالنيابة، ومن جهة ثالثة بقيت الجرائم  دون محاسبة.

سيادة القوّة

بقيت الأفكار الأولى التي طرحت على لجان الأمم المتحدة في أواخر الأربعينات من القرن الميلادي العشرين، بصدد محكمة جنائية دولية دون جدوى فتراكمت في أدراج المنظمة الدولية لخمسة عقود. وقد يرى المؤرخون في قادم الأيام، أن التراخي عن وضع مواثيق حقوق الإنسان والمبادئ الثابتة للقانون الدولي، موضع التطبيق عبر أجهزة قضائية دولية، أثناء حقبة الحرب الباردة بين الشرق والغرب، كان من العوامل الرئيسية التي شجعت على ارتكاب مزيد من جرائم الحرب دون الخشية من الملاحقة والمحاسبة، وذاك ما بلغ ذروته في البلقان ورواندا في التسعينات من القرن الميلادي العشرين، فكان سببا في تحول ولو جزئي في النظرة إلى قضية جرائم الحرب والمحاسبة عليها.

كانت حرب البلقان، ومأساة البوسنه والهرسك بصورة خاصة، ساحة للجرائم الحربية بصورة مكثفة وبحجم ضخم وبنوعيات جديدة، تجاوزت ما عرفته البشرية من قبل، كالاغتصاب الجماعي المنظم للنساء وحرق الأطفال والشيوخ وهم أحياء؛ ونتيجة تواصل هذه الممارسات فترة زمنية طويلة فرضها صمود المسلمين من البوشناق، بلغ مفعول تأثير المآسي مداه على الرأي العام الشعبي فلم يعد يمكن استمرار الامتناع عن اتخاذ إجراء دولي مضاد، فولدت محكمة لاهاي لمجرمي حرب البلقان، بمهمة مؤقتة زمنيا، محدودة موضوعيا.

وانقضت سنوات عديدة، قبل أن تصل عدالتها الدولية إلى كبار مجرمي الحرب، وهذا رغم أن عدد الضحايا من النساء والأطفال والشيوخ والرجال قد وصل إلى مئات الألوف، ورغم أن المنظمات غير الحكومية جمعت ونشرت من الأدلة والشواهد على الجرائم المرتكبة ومنفذيها والمسؤولين عنها، ما يدفع إلى الذهول عند النظر موضوعيا فيما يعنيه إهمالها أو عدم الأخذ بها أو عرقلة تبنيها رسميا.

نتساءل أمام هذه المعطيات: هل تنشأ محكمة جنائية دولية دائمة، لها صلاحية ملاحقة الأفراد على جرائمهم من وراء الحدود السياسية القائمة، وليس مجرد إصدار أحكام غير ملزمة.

هل يتضمن ميثاق المحكمة بيان ما يحقق الغاية الأصلية من إنشائها، عن طريق ضمانات تضع اعتبارات العدالة فوق اعتبارات النفوذ الدولي، وتنطلق من مبادئ القانون الدولي والشرعية الدولية وفق نصوص المواثيق الدولية ومفهومها الأصلي، وليس وفق موازين القوى العالمية وتفسيراتها الآنية للنصوص على هواها، ووفق تشويهها لمصطلح الشرعية الدولية وابتذاله في ممارساتها اليومية؟

هذه تساؤلات بقيت مفتوحة بعد وضع مشروع مبدئي لنص الميثاق، لأنها تمس صلب المهمّة المرجوة من الهيئة الدولية الجديدة، وتلعب دورا حاسما في كيفية عملها وهل يكون فعالا أم شكليا منحازا وضعيفا، وهل يكون مستقلا أم موجها، وبالتالي هل تكون المحكمة نفسها موضع ثقة واطمئنان شامل للبشرية، أم مدعاة لمزيد من افتقاد الثقة بالمنظمات الدولية والمتحكمين في صناعة القرار فيها.

في مفاوضات التأسيس شاركت وفود زهاء ١٢٠ دولة، منها ٤٨ دولة فقط كانت تؤيد قيام محكمة جنائية دولية مستقلة وبصلاحيات كافية بمعنى الكلمة، ثم ظهرت الاعتراضات، وبعضها صادر عن اعتبارات سياسية آنية؛ ولكن بقي استقلال المحكمة الدولية الجديدة غائبا، فهذا ما يرتبط في الدرجة الأولى بموقف أربع دول من بين خمس دول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، إذ بقيت تصرّ على ربط عمل المحكمة بقرار من المجلس، وبتعبير آخر بإمكانية أن تعتمد أي دولة من هذه الدول على انفراد، على ما يسمى حق النقض / الفيتو لرفض قرارات المحكمة الجنائية الدولية، إذا ما استهدفت تلك القضية فردا من سكانها، أو وجدت الدولة المعنية في الرفض مصلحة لها على ضوء علاقاتها الآنية الدولية.

هذا علاوة على أن القوى الدولية الرئيسية لا تريد أن تصبح المحكمة الدولية عقبة في وجه ما تمارسه ويمكن وصفه بتعبير سيادة القوة وليس سيادة الشرعية الدولية، كقاعدة انطلقت وتنطلق منها في صنع ما تريد، فهذا ما يمكّنها من استخدام القوة العسكرية، بما يشمل الحرب العدوانية، وبالتالي ارتكاب جرائم حربية، وهي آمنة على نفسها من المحاسبة الدولية، كما كان في غزو الأمريكيين لجرينادا وفي عدوانهم على ليبيا ومن قبل فيما ارتكبوه في فيتنام، أو كما كان في غزو الروس لأفغانستان وفي جرائمهم الحربية في الشاشان، هذا فضلا عن رغبة كل من تلك الدول في الاستمرار على حماية أتباعها من المحاسبة الدولية، كما هو معروف في السلوك الأمريكي المشين في مجلس الأمن الدولي مع كل ما يتصل بجرائم الكيان الإسرائيلي الغاصب بفلسطين.

إن قيام محكمة دولة جنائية خطوة إلى الأمام في إطار مسيرة التطور التي شهدها القانون الدولي، ولكن يبقى أن المبادئ الثابتة للقانون الدولي، والقيم الإنسانية الراسخة في الضمير العالمي، لن تجد طريقها إلى عالم الواقع، إلا عندما تتبدل موازين القوى الراهنة، ليس بمعنى تعدد الأقطاب الدوليين فقط، فقد كان ذاك موجودا في فترة الحرب الباردة أيضا، وإنما بمعنى نهوض ما يزيد على نصف البشرية على الأقل، من أوضاع التخلف والنزاعات المحلية والإقليمية وأسباب الضعف الداخلية الراهنة، لتظهر قوى جديدة على الساحة، تنطلق في معاملاتها الدولية من الشرعية الدولية فعلا، وليس من سيادة القوة، وما هي في واقع الأمر من حيث مضمونها ومن حيث نتائجها على السواء سوى شريعة الغاب.

 

الهيمنة الأمريكية

عندما وافقت ١٣٥ دولة على المشروع الأول لميثاق تأسيس المحكمة الجنائية الدولية في مفاوضات استمرت خمسة أسابيع في روما، امتنع عدد من الدول من بينها قطر واليمن والجزائر وليبيا عن الموافقة، ولكن وجدت المحكمة طريقها إلى الحياة بالموافقة ثم بالتصديق النهائي على الميثاق من جانب ٧٤ دولة، فما هو السبب المنطقي المقنع من وراء الضغوط الأمريكية للحيلولة دون ازدياد حجم العضوية الدولية في المحكمة الجنائية الدولية، رغم أن واشنطون ما فتئت تردد، ويوجد من يصدقها، أنها تتحرك عالميا باسم الشرعية الدولية وحقوق الإنسان وحرياته؟

الصين ذات مواقف معروفة برفض كل ما يتناقض مع سيادة الدولة، كذلك ليس عسيرا فهم الأسباب والدوافع من وراء الموقف الإسرائيلي، فالخشية كبيرة من المحاكمة الجنائية إذا تحررت من الخضوع للإرادة السياسية الأمريكية، ومن أن تشمل صلاحيات المحكمة جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم الحربية والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم معينة الحرب العدوانية والتهجير العرقي وغيرها.   

ليس للموقف الإسرائيلي أهمية على صعيد التعامل مع المحكمة الدولية، فلقضية فلسطين معطيات تحتاج إلى العمل والتحرك على أصعدة أخرى؛ ولكن من العسير فهم مواقف دول عربية، تتحدث عن الموقف الأمريكي بلسان الاستغراب، ثم تعزز استغرابها بالإشارة إلى أن واشنطون هي التي كانت في مقدمة الداعين إلى تأسيس محكمة جنائية دولية دائمة.

كما يصدق فريق من الناس أن خيال الصناعة السينمائية في هوليوود هو حقيقة أمريكا على أرض الواقع، كذلك ما يزال يوجد من يصدق ما تقول به التصريحات الأمريكية، وتعلنه البيانات الرسمية، مما يحفل بمزاعم الدفاع عن حقوق الإنسان، وما يقترن بتوزيع الاتهامات كما لو كانت إدانات قاطعة، وفرض العقوبات وكأنها مشروعة صادرة عن محكمة نزيهة عادلة، ولا بأس بعد ذلك حتى وإن وصل ما يصنعه الأمريكيون إلى مستوى خنق الشعوب الأخرى حصارا على حسب ما تقتضيه مصلحة أمريكية عليا، واستثناء آخرين على حسب ما تقتضيه تلك المصلحة ذاتها.

ولكنّ الغريب هو أن تبقى الولايات المتحدة الأمريكية في نظر المتغربين المستغربين بلد الحرية رقم واحد في العالم، ومنشأ صياغة حقوق الإنسان وحرياته، وهي زعيمة العالم الحر منذ الحرب العالمية الثانية، وعليها قبل سواها المعوّل الأكبر في المساعي الدولية، من أجل احترام حقوق الإنسان، هذا فضلا عن زعامتها الانفرادية العالمية، فلا فائدة من صنع شيء دون مشاركتها! بل يصل الأمر لذروة الاستخفاف والاستهانة بالذات، عند قبول تلك التصورات عن أمريكا، وهي تلعب أدوار المدعي العام، والقاضي، والشرطي الدولي، والجلاد، وكأن هذا أمر مفروغ منه، ما دامت هي القوة العظمى دوليا!

هذه تصورات تذكر بمشادة نشبت بين الحليفين، الأمريكي والألماني، قبيل اختتام مفاوضات روما التأسيسية للمحكمة بأيام، عندما أعلنت المصادر الألمانية أن الرفض الأمريكي لاستقلالية المحكمة، جعل وزير الدفاع الأمريكي ويليام كوهين آنذاك، يتصل بالمسؤولين الألمان، فيهاجم موقفهم بشدة، بسبب تبنيهم الدعوة إلى تلك الاستقلالية، بل توعد الوزير بسحب القوات الأمريكية المتبقية في أوروبا، إذا استقر أمر الميثاق الجديد على هذا النحو، فأعطى المحكمة الاستقلالية الضرورية عن مجلس الأمن الدولي وقراراته وعن الخلل القائم في نظام تصويته منذ نشأته؛ وقد نفت واشنطون في حينه صدور الوعيد والتهديد، ولكن النفي لم يشمل التهجم الشديد على ألمانيا.

إن ألمانيا، رغم التحالف ورغم المصالح المشتركة، ورغم التلاقي على أرضية حضارية وغير حضارية راسخة مع الأمريكيين، حرصت بذلك الموقف على الخروج من ظل هيمنة أمريكية متعاظمة تتطلع إلى زعامة انفرادية دولية، وترفض بالتالي وجود محكمة خارج نطاق إرادتها السياسية، تتناقض مع طبيعة الاستبداد الدولي الذي تمارسه وتريد الحفاظ على معطياته عالميا.

أما آن الأوان إذن ولدينا من الأسباب ما يكفي على صعيد قضايا فلسطين وأفغانستان وكشمير والصومال وسواها وعلى صعيد أساليب الحصار والمقاطعات ومسائل التسلح والتقنية، وغيرها وغيرها… أما آن أن نخرج بأنفسنا على الأقل من إطار مثل تلك التصورات الساذجة عن المواقف الأمريكية، في قضايا الدفاع عن حقوق الإنسان وقضايا العدالة وما شابهها؟  

ألا ينبغي الامتناع عن توظيفها رغم شدة سذاجتها أو غبائها، لتكون مدخلا إلى تعليل المواقف الأمريكية، سيان ما وصلت به تجاه بلادنا، من استهتار بالقضايا المصيرية والمصالح الحيوية والصداقات التقليدية؟

ونعلم بعد ذلك أن الأخطر من الموقف الشاذ بحد ذاته، أو الاستغراب الكلامي، أن أصحابه يريدون أن نستمر في التعامل مع صانعي القرار الأمريكي على ذلك الأساس المعوج.

المحكمة المطلوبة أمريكيا

إن الموقف الأمريكي من المحكمة الجنائية الدولية منذ مناقشة ميثاقها قائم على مرتكزات قديمة وجديدة تمتد بتأثيرها إلى مواقف أخرى لها علاقة بالسياسة العالمية والقانون الدولي، ومنها على سبيل المثال:

١- محاولة طمس المعالم الحقيقية للتاريخ الأمريكي القديم والحديث، الملطخ بمختلف أشكال خرق حقوق الإنسان وامتهان حرياته، بدءا بسحق الهنود الحمر وهو ما تسميه القوانين الدولية إبادة جماعية وتعتبره الجريمة رقم واحد التي يجب أن تنظر فيها المحكمة الجديدة، ومرورا باستخدام القنابل الذرية دون أي حاجة عسكرية إلى استخدامها في نهاية الحرب العالمية الثانية ضد المدنيين في اليابان، ومرورا أيضا بالتاريخ الإجرامي الحربي الطويل في فيتنام، وانتهاء بحملات الغزو الأمريكية لجرينادا وباناما وليبيا وسوى ذلك مما كشفت عنه الوثائق الأمريكية التي يُلغى اعتبارها سرية بعد مرور فترات زمنية معيّنة عليها، ويضاف إلى ذلك المزيد ما بين أفغانستان وجوانتانامو والعراق وأبو غريب وما تلاها.

٢ – إن الاستشهاد بدور الولايات المتحدة الأمريكية في محاكمات نورنبيرج وطوكيو لمرتكبي الجرائم الحربية في فترة الحرب العالمية الثانية استشهاد يغفل عن أن تلك المحاكمات كانت محاكمات الطرف المنتصر للطرف المنهزم على جرائم ارتكبها فعلا، ولكن العدالة كانت تتطلب إجراء محاكمات أخرى إلى جانبها، تتناول جرائم الحرب التي ارتكبها الطرف المنتصر، ولم يمنع منها سوى أنه لم يكن يوجد في الساحة الدولية طرف قوي قادر على المطالبة بالمحاسبة عنها، مثل قصف هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية، أو مسح مدينة درسدن الألمانية بالأرض، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

٣ – إن تبني الولايات المتحدة الأمريكية لمشروع المحكمة الجنائية الدولية مرتين، عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة، ثم عقب انهيار المعسكر الشيوعي الشرقي، كان مرتكزا في المرتين إلى الاعتقاد الأمريكي الخاطئ، بأن الساحة الدولية قد خلت من منافس لواشنطن على الزعامة الانفرادية، وبالتالي الاعتقاد بأن قيام محكمة دولية من هذا القبيل، يعني إيجاد أداة إضافية لتنفيذ الإرادة السياسية الأمريكية، أما أن يصبح في ميثاق تلك المحكمة الدولية بنود قابلة لاستخدامها ضدّ الأمريكيين، فيكفي ذلك الاحتمال لينقلب الموقف الأمريكي إلى معارضة شديدة للحيلولة دون تنفيذ مشروع دولي تلتقي عليه إرادة العدد الأكبر من دول العالم.

٤- من تابع المرحلة الأخيرة من المفاوضات التمهيدية لمشروع الميثاق، يمكن أن يستنتج بسهولة، أن المحكمة التي أرادتها واشنطون، هي تلك التي تبقى صلاحياتها في نطاق الحدود التي يصنعها ما يسمى حق النقض / الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن الدولي، وفق ما يمليه منطق قوة المنتصر، وليس وفق ما يتفق مع المبادئ والقيم والقواعد الأساسية، المقررة في ميثاق الأمم المتحدة نفسه، بدءا برفض مشروعية استخدام القوة لاغتصاب الحقوق وممارسة العدوان، وانتهاء بمساواة سائر دول العالم أمام القانون الدولي وأجهزته، بغض النظر عن حجم كل دولة وحجم قوتها.

وما دام ميثاق المحكمة الجنائية الدولية الجديد يوافق إرادة الدول الأخرى، ولكن لا يتفق مع إرادة الدولة الأمريكية، فهو موضع الرفض في واشنطن.

دعم المحكمة يعني دعم الشرعية الدولية

إن الشرعية الدولية التي لا ينقطع ذكرها حتى فقدت معناها وفقد الاستناد إليها مغزاه، تحتاج إلى الدعم، لتستعيد الكلمة مغزاها، وهو ما يستند إلى أسس تنبثق عن جملة قيم ومبادئ وقواعد، ولا يستند إلى قرارات واتفاقيات، فالأصل أن تكون مشروعيتها مرتبطة بتوافقها مع تلك الأسس وأن تكون باطلة إذا خالفتها؛ وهذه أسس تعارفت على صلاحيتها غالبية البشر نتيجة تراكم الخبرات التاريخية العملية؛ ولا يستند المفهوم الأصلي للشرعية الدولية إلى منطق القوة المهيمنة.

ولا بد أن تكون المحكمة الجنائية الدولية، أو أن تصبح مستقلة عن إرادة الدول السياسية، ومستقلة عن الأجهزة الدولية، استقلالا حقيقيا لا كلاميا، على غرار ما يقرره مبدأ الفصل بين السلطات، وكذلك وفق أصل الفكرة المطروحة لتشكيل هذه المحكمة منذ الأربعينات من القرن الميلادي العشرين. المحكمة بهذه المواصفات ركن أساسي من أركان تطبيق الشرعية الدولية، وكان المرجو لها في البداية أن تقوم إلى جانب مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة والأمانة العامة، كركن رابع يصلح الخلل الكبير في تشكيلة المنظمات الدولية الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى هذه الخلفية كانت قضية استقلالية المدعي العام نقطة جوهرية في المناقشات، وكانت بالمقابل هي النقطة الرئيسية التي عارضها الأمريكيون؛ وليس مجهولا أن ذلك أصبح حاضرا مباشرة في الرفض الأمريكي العلني لتعامل المدعي العام مع تداعيات الحرب الإسرائيلية ضد أهل فلسطين عام ٢٠٢٣/٢٠٢٤م.

لا جدال في أن بقاء دول من حجم الولايات المتحدة الأمريكية والصين، خارج نطاق صلاحيات المحكمة، يجعلها دون المستوى المطلوب منها، ولكن يبقى أن النتيجة المتحققة حتى الآن تمثل خطوة دولية رئيسية جديدة إلى جانب خطوات سابقة، مثل إقرار معاهدة حظر الألغام الأرضية دون مشاركة أمريكية، ومثل مشاركة الدول الأوروبية في إخراج الولايات المتحدة الأمريكية من عضوية المفوضية العامة لحقوق الإنسان والمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، وغير ذلك.

تبقى النتيجة تمثل بشكل استعراضي واضح ازدياد حجم التمرد الدولي على الهيمنة الأمريكية، مما صار يشمل بوضوح دولا حليفة لواشنطن في الأصل، ودولا اعتادت على عدم مخالفتها، طوعا وكرها. وفي هذا التمرد ما يعزز المسيرة الدولية نحو استرجاع هيبة الشرعية الدولية بمفهومها الأصلي، وتحريرها من منطق القوة لصناعة نظام دولي جديد ومستقر.  

*   *   *

لا يعني ما سبق أن المعاهدات الدولية هي الميدان الوحيد الذي ينبغي التحرك فيه نحو هدف تحرير جنس الإنسان من نظام قائم على استبداد أمريكي دولي، بل يجب أن يقترن ذلك بالتحرك في ميادين أخرى أيضا. وعلى قدر ما تتحرك مجموعات دولية معا، كالمنطقة العربية والإسلامية، في اتجاه واضح المعالم، من جوانبه الأخذ بلغة المصالح المتبادلة في الميادين الاقتصادية والسياسية والأمنية والمالية وسواها، بدلا من الاستمرار على ما يسمى علاقات ودية مع القوى الدولية الأكبر، وقد باتت أشبه بشارع ذي اتجاه واحد.. بقدر ما يحدث ذلك يمكن أن نشهد كيف تهترئ تدريجيا دعائم الهيمنة الأمريكية الانفرادية العالمية، القائمة على منطق القوة المتعددة الأشكال، وهي على أي حال قوة تعتمد في الدرجة الأولى على ما يوفره الآخرون لها من أسباب البقاء والنماء عبر الانصياع بدلا من الرفض، أكثر مما توفره لنفسها اعتمادا على الإمكانات الذاتية أضعافا مضاعفة.  

ثانيا – المحكمة الجنائية الدولية وقفص الاتهام

إنّ نشأة المحكمة الجنائية الدولية كانت أشبه بولادة قيصرية، في فترة تميزت بالقلق المتزايد في الغرب نفسه من تحول الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب الباردة إلى دولة كبرى خارجة عن القانون الدولي، مع التطلع إلى زعامة انفرادية فاسدة، والإصرار بمنطق القوة المجردة، على استخدام المحكمة الجنائية الجديدة لأغراضها الذاتية. ومن ذلك ملاحقة الآخرين ممن يعادونها أو ممن تصطنع صورة عدائية لشيطنتهم.

لا عدالة ولا مساواة

أثناء نشأة المحكمة الجنائية الدولية في منتصف عام ١٩٩٨م عبر مفاوضات روما، كان الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان يحث الحاضرين على الاتفاق بقوله: أعتقد أنّ سائر الحاضرين من ممثلي دول العالم حضروا هنا لاعتقادهم بضرورة هذا المشروع وضرورة قيام محكمة جنائية دولية، وليس فيهم من يرغب في تحمّل المسؤولية عن إخفاق محتمل.

وسبق ذلك في عام ١٩٤٦م تثبيت وجود محكمة العدل الدولية ولكن مع تقييد صلاحياتها ونوعية أحكامها، ومن ذلك مثلا، أنه لا يحق لها التحرك إلا على مستوى الخلافات بين الدول، فلا تحاكم الأفراد على ارتكاب جرائم حربية ولا تقبل الشكاوى من أفراد تعرضوا أو تعرض ذووهم إلى تلك الجرائم، هذا فضلا عن ربط تنفيذ أحكامها بمجلس الأمن الدولي، ولا يوجد مثال على وقوع ذلك فعلا.

الرئيس الأوّل لمحكمة جرائم الحرب في البلقان، القاضي ريتشارد جولدستون، كان يدرك حقيقة المهمة المطلوبة وأهمية عنصر العدالة لاستقرار السلام، ويقول بهذا الصدد: إذا  فهمنا عملية السلام أنها تريد إحلال سلام دائم ومستقر في يوغوسلافيا سابقا، وكسر حلقة العنف التي عايشناها، وأعادت هذه المنطقة من أوروبا إلى القرن الماضي، فلا شك عندي باستحالة قيام سلام دائم دون العدالة، وما دام يوجد أشخاص مشتبه بهم على الأقل، بأنهم ارتكبوا ما يسوغ توجيه الاتهام إليهم، ثم يبقون أحرارا، فلا يمكن أن تتحقق المصالحة.

والسؤال: من يضمن للمحكمة الجنائية الدولية أن تتمكن من ملاحقة مجرمي الحرب دون قيود، ومن محاكمتهم محاكمة عادلة دون التأثر بالاعتبارات السياسية؟

لقد ظهرت نقاط الضعف من البداية عبر التعامل مع الاعتراضات التي طُرحت على مؤتمر روما الأول، وأهم الاعتراضات هي تلك التي تمس النظام العالمي القائم منذ الحرب العالمية الثانية على إعطاء مجلس الأمن الدولي، وبالتالي خمس دول دائمة العضوية فيه، صلاحيات تتناقض مع مبدأ المساواة بين الدول ومبدأ العدالة، مع اغتصاب حق السيادة على مختلف القرارات الدولية، وعند ربط عمل المحكمة الجنائية الدولية بقرار من جانب المجلس، فهذا يعني تقييد قراراتها، وبذلك تفقد المحكمة عنصر العدالة والمساواة أمام القانون الدولي، مما يتناقض مباشرة مع ما أشار إليه قاضي محكمة البلقان جولدستون بقوله أيضا: نحن في حاجة إلى محكمة جنائية دائمة، تكون فيها سائر الدول خاضعة بصورة متساوية للقانون، المحكمتان الحاليتان في البلقان ورواندا مؤقتتان، وتمثلان حلاّ من الدرجة الثانية، وجودهما أفضل من عدمه، ولكن الحل الأمثل هو وجود محكمة مستقلة دوليا، مهمتها القيام بالتحقيقات ابتداء، مع القدرة على جلب مجرمي الحرب إلى المحاكمة سيان أين يوجدون ويعملون.

ماهية العقبة الأمريكية

رفض سيادة المحكمة الدولية واستقلالها هو بالذات ما قصده المندوب الأمريكي ريتشاردسون في المفاوضات، عبر تأكيده استحالة القبول بفصل عمل المحكمة عن مجلس الأمن الدولي، كذلك فأوساط الكونجرس الأمريكي كانت تؤكد استحالة التصديق على اتفاقية إنشاء المحكمة إذا وجد فيها ما يعني احتمال مثول جنود أمريكيين أمامها، حتى أن جيسي جيمس من أعضاء الكونجرس قال في وصف مثل هذا الاتفاق: هكذا اتفاق سيكون ميتا يوم وصوله إلينا.

ولكن عدم استقلالية المحكمة الجنائية الدولية يعني أنها: ستكون هيئة خاضعة للسياسة، وستكون خطواتها محدودة، وستخسر مكانتها عاجلا على حد تعبير فولكمار دايلي من منظمة العفو الدولية، بل مضت منظمة المرصد الأمريكي لمراقبة حقوق الإنسان إلى وصف موقف واشنطون آنذاك بأنّه يدفع إلى الشعور بالعار، ولخص ويليام بيس مواقف المنظمات غير الحكومية في كلمته أمام مؤتمر روما بقوله: نحن نواجه خطر الوصول إلى محكمة لا تستطيع الحيلولة بصورة فعالة ومثمرة، دون ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية محكمة تصبح مجرد ذريعة لتريح الضمائر، وهذا -إذا حصل- هزيمة مرة لنا، ونصر كبير لصالح مرتكبي الحروب الدموية.

وهل يوجد طرف دولي ارتكب من الحروب الدموية والجرائم ضد الإنسانية مثل ما صنعته الولايات المتحدة الأمريكية بالذات، بعد إنشاء المحكمة  الدولية أيضا، كما تشهد عناوين أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان وجوانتانامو وأبو غريب وغيرها؟

المشكلة الرئيسية كانت معروفة لجميع الأطراف من البداية، وعبر عنها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان آنذاك بقوله أمام مؤتمر روما: يجب أن نعمل لهدف ثابت هو ألا يتمكن حاكم أو حكم عسكري أو تتمكن قوة عسكرية من خرق حقوق الإنسان، وهو مطمئن للنجاة من العقوبة، ولا ينبغي أن تتكرر كوارث من قبيل ما كان في رواندا والبلقان في أي مكان أو أي وقت، بل ينبغي أن يتضح أن من يرتكب مثل تلك الجرائم ضد الإنسانية، لن يكون بمنجاة من العقاب بعد اليوم.

ولكن هذا ما حصل على أرض الواقع، فالأمريكيون، قادة وجنودا، مطمئنون إلى أن شرعة القوة العسكرية تمنع من ملاحقتهم على ما ارتكبوا ويرتكبون، بينما تسعى حكومة واشنطن نفسها لاستعمال المحكمة الجنائية الدولية في قضية بعينها كقضية دارفور في السودان. وهذا ما يسري عليه قول كيم جوردون باتيس من هيئة الصليب الأحمر الدولي في جنيف أيام تشكيل المحكمة الجنائية الدولية: إن عدم وجود محكمة جنائية دائمة تلاحق جرائم الحرب، أقل سوءا من وجودها ثم عدم إيجاد عنصر العدالة والمساواة في محاسبة المتهمين بارتكاب الجرائم الحربية، فآنذاك تكتسب نجاتهم من الملاحقة والعقوبة صبغة شرعية دولية، وتتحول الجرائم الحربية التي يرتكبونها إلى جرائم مقنّنة.

ثالثا: المحكمة الجنائية الدولية في نظام عالمي استبدادي

إن المشاركة العربية الجزئية أو مجرد السكوت تجعل من طريقة التعامل مع صدام فالبشير بوابة لإسقاط حصانة أي مسؤول عربي آخر.

من التساؤلات التي تطرح نفسها مع الأخذ والرد ما هي أبعاد تخويل المحكمة الجنائية الدولية نفسها صلاحية إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير. فبغض النظر عن موضوع البشير والسودان والاستبداد يبقى للحدث أبعاد متشعبة للغاية؛ فبعد فلسطين والعراق، أصبح السودان من بين الدول العربية دولة مستهدفة عالميا، بأقصى درجات الضغوط والمؤامرات العلنية، لتفتيته تقسيما، وإضعافه أمنيا، والحيلولة دون نهوضه اقتصاديا ودون استقراره سياسيا، كيلا يتحقق من خلاله أملٌ يُعول عليه في تحقيق أمن زراعي وغذائي عربي، وبالتالي تثبيت دعامة من دعامات استقلال إقليمي عن التبعية الأجنبية، وليتحول السودان بدلا من ذلك إلى بؤرة فوضى هدامة وأخطار جسيمة على الدول المجاورة له، لا سيما مصر في الشمال والسعودية في الشرق.

هذا من خلفيات ما يعنيه استهداف البشير والمحكمة الجنائية الدولية أيضا، بأن تصبح هي أيضا أداة من أدوات صراع موازين القوى ليكون النظام الدولي نظام هيمنة وليس نظاما قائما على مشروعية مستمدة من القانون الدولي العام.

القانون الدولي والنظام العالمي

مع مرور عقود عديدة على نهاية الحرب العالمية الثانية اختلطت المشاهد كثيرا في الواقع الدولي، مما شمل التمييع والتزييف والخلط على صعيد المصطلحات الأساسية لاستيعابه كما هو، من ذلك القانون الدولي العام القائم على جملة مبادئ صيغ بعضها في المواثيق الدولية كميثاق الأمم المتحدة، وكانت حصيلة تطور تاريخي طويل الأمد، وهذه ثابتة تشكل البنية الأساسية للشرعية الدولية وتوصف لدى المتخصصين بالقانون الدولي العام، ومن هذه المبادئ ذات العلاقة بالمحكمة الجنائية الدولية: المساواة بين جميع الدول، سيادة الدولة، وحدة أراضيها، عدم مشروعية اغتصاب الأراضي بالقوة، حق تقرير المصير للشعوب. ويوجد المزيد في مواثيق أخرى، ومن ذلك مثلا: حصانة المسؤولين السياسيين، لضمان حرية حركتهم عالميا.

ويوجد فارق كبير وحاسم بين هذا القانون الدولي العام، وبين ما يوصف بالقانون الدولي التطبيقي، وقد نشأ نتيجة التعامل الانتقائي المنحاز مع بعض تطورات الواقع العالمي القائم على النظام العالمي وليس على الشرعية الدولية أي القانون الدولي العام.

إن تثبيت مبادئ القانون الدولي العام تزامن مع نشأة منظومة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي ما نشأ نتيجة اعتبارات موازين القوى الجديدة التي خلفتها، فابتُكر له ما سمّي حق الفيتو / النقض في مجلس الأمن الدولي، ويسري شبيه ذلك على مختلف الأنظمة المقررة لتسيير أعمال الأمم المتحدة وفروعها والمنظمات الناشئة إلى جانبها والمرتبطة بها، ففي هذه الأنظمة كثير مما يتناقض أيضا مع مبادئ الشرعية الدولية، كتناقض حق النقض مع مبدأ المساواة بين الدول.

وكما هو الحال مع أي دولة من الدول سيان ما نوعية الحكم فيها، يحتاج النظام الدولي إلى هيئة لها صلاحية المرجعية في تحديد مشروعية القوانين والقرارات والأنظمة والممارسات السياسية وغير السياسية، وهو ما تعرفه دول عديدة باسم المحكمة الدستورية أو المحكمة العليا. وكان هذا مطروحا أيضا عند تأسيس الأمم المتحدة وجرى تعطيله كيلا يكون فوق قرار القوى المهيمنة عبر الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن جهة تحكم على مشروعية قراراتهم. 

مشروع ميثاق المحكمة الأصلي كان يريد لها أن تكون:

١- محكمة مستقلة استقلالا مضمونا عبر آلية تشكيلها وشروطه، عن أي جهة من الجهات الدولية الأخرى، أو دولة من الدول.

٢- محكمة ذات صلاحيات شاملة للتعامل مع أي دولة، أو جهة، أو فرد مسؤول، دون الرجوع إلى جهاز آخر كمجلس الأمن الدولي، ودون انتظار تكليف من جهة من الجهات الدولية، ويمكن لأي جهة أن تتقدم بشكوى لها للنظر في قضية من القضايا، وفق نظام معين.

٣- تحديد ميادين اختصاصها فيما يتعلق بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

جميع ذلك تعرض للتعديل، والتقليص، والتشويه، إلى درجة جعلت الميثاق الذي تم إقراره مختلفا اختلافا جذريا عن الصيغة الأصلية، وغاب الهدف الأهم من إنشاء المحكمة الجديدة، وجميع ذلك كان بجهد مباشر من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وبدأ في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، واستمر من بعده دون تغيير يستحق الذكر. 

سوابق دولية غير قانونية

أصبحت المحكمة الجنائية الدولية نتيجة ربطها بمجلس الامن الدولي، وطريقة تقديم الشكاوى، مقيدة غير مستقلة، ومحدودة الصلاحيات، لا تستطيع الوصول إلى مسؤول من المسؤولين إلا بشروط معقدة. وهذا ما ساهم في قابلية استخدامها كأداة، مثل أجهزة دولية أخرى، وتعبير استخدامها أداة يعني تحريكها أو تجميد حركتها على حسب مصالح من يصنع ذلك ويمتلك القوة لصنعه، وعندما تتجاوز المحكمة الجنائية الدولية صلاحياتها، فهي لا تصنع ما يختلف عما يصنعه مجلس الأمن الدولي بمنطق القوة المهيمنة متجاوزا صلاحياته بمعيار نصوص القانون الدولي العام.

اعتمدت واشنطن في تمرير التعديلات على الضغوط من جهة، وعلى طرح قابلية عضويتها كإغراء للدول الأخرى من جهة ثانية. ومن أهم ما توصلت إليه أن يسري الميثاق على الدول التي تصادق عليه، وهو ما يعني عدم ملاحقة هذه المحكمة الدولية للمسؤولين في دولة لم تصادق على ميثاقها، وهو ما يسري على الولايات المتحدة الأمريكية كمثال، المفروض أنه يسري على السودان أيضا! والفارق الحقيقي هو ما تعنيه القوة المهيمنة من حصانة مغتصبة.

هنا تبدو أهمية التمييز بين القانون الدولي العام والنظام العالمي القائم على موازين القوة، وما يعنيه تعبير القانون الدولي التطبيقي المبتكر، ليسري مفعول قرارات تصدر عن أجهزة دولية ما، أو ما يؤخذ من عقد معاهدات ثنائية وإن كانت جائرة بحق الطرف الأضعف.

إن الأوضاع الدولية وفق ما سبق لا تختلف كثيرا عن أوضاع دولة يحكمها نظام استبدادي، فحديثه عن دستور وقانون لا يتجاوز حدود بنود وفقرات تمت صياغتها من منطلق سيطرته وليس من منطلق مبادئ تعلو عليه كالحقوق والحريات الإنسانية وحق تقرير المصير وما ينبثق عن انتخابات وعن فصل السلطات وسيادة القضاء؛ فإذا تحدث عن مخالفة الأمن والنظام، تحدث عن شيء آخر، لا يكتسب صفة المشروعية، بل هو جزء من وضع الاستبداد القائم على السيطرة بالقوة.

كلمة السابقة القانونية الدولية المعروفة في الأنظمة القضائية غير تلك التي أصبحت تستخدم على نطاق واسع في التعامل الدولي، فصدور حكم قضائي يمكن اعتماده كسابقة لدى النظر في قضية تالية، لأن الحكم الأول قائم على أرضية مشروعية القوانين التي صدر بموجبها، ولا أحد يتصور اعتبار أحكام صدرت في فترة استبدادية عبر محاكم استثنائية خاضعة لإرادة النظام الاستبدادي أو دون محاكمة أصلا أي تنفيذا مباشرا لإرادته، يمكن أن تكتسب صفة سابقة قانونية يرجع إليها القضاء في فترة حكم عادل يلي الحكم الاستبدادي.

وشبيه ذلك ما يوصف بالسابقة القانونية الدولية في تعامل المسيطرين على النظام العالمي، فهو يفتقر إلى أي أساس يمكن اعتماده من المشروعية الدولية وفق القانون الدولي العام، ولا يؤخذ به أو يتم السكوت عنها إلا بتأثير موازين القوى، ومثال ذلك الغزو الأمريكي لباناما، واعتقال رئيسها، ومحاكمته، وتنفيذ الحكم به.

جميع ما يحدث تحت هذا العنوان يجري لتغيير معالم النظام العالمي، ولا يمكن اعتباره مصدر تغيير مبدأ من مبادئ القانون الدولي العام، أي الشرعية الدولية.

قد تتلاقى أو لا تتلاقى مضامين السوابق من هذا القبيل مع مبدأ العدالة في قضية من القضايا، ومع روح مبادئ القانون الدولي العام، وأشهر مثال على ذلك، الحرب الأطلسية ضد صربيا دون الرجوع إلى مجلس الأمن الدولي، تحت عنوان تحرير كوسوفا آنذاك، فالترحيب بهذه الخطوة ينسجم مع عدالة قضية كوسوفا، ولكن الترحيب دون تحفظ، هو ما يجعل من ذلك سابقة في ممارسات النظام العالمي، وقد اعتُمد عليها في تحريك حلف شمال الأطلسي لدعم القوات الأمريكية بعد غزوها لأفغانستان.

ما بعد صدام  والبشير

حرب احتلال العراق، واعتقال رئيسه، ومحاكمته في ظل الاحتلال، وإعدامه، يمثل بدوره سابقة لتغيير نوعية التعامل الدولي وفق ممارسات عسكرة الهيمنة، والمشاركة الرسمية، العربية والإسلامية، جزئيا أو عبر السكوت حيث يتوجب إعلان موقف، هو ما يجعل من هذه السابقة بوابة لإسقاط حصانة أي مسؤول آخر لاحقا، بغض النظر عن نوعية حكمه وعدالته أو استبداده داخل البلد الذي يسيطر عليه، أي فقط بانتظار أن تأتي ظروف دولية يراد فيها التخلص منه، وإن سبق الاعتماد عليه والامتناع من قبل عن انتقاد ممارساته المحلية والإقليمية.

المحكمة الجنائية الدولية لا تملك صلاحية إصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تصادق على ميثاقها، رغم كل ما ارتكبه ويرتكبه من جرائم حربية يحمل مسؤوليتها، ولا تقتصر على جوانتانامو وأبو غريب، وما ارتكبه داخل بلده بما يخالف القوانين فيها أيضا، كما كان في التنصت غير المشروع على مواطنين أصبحوا يعاملون معاملة استثنائية كمواطنين من الدرجة الثانية ليأتي الكونجرس من بعده ويمنحه مع منفذي سياساته حصانة بأثر رجعي. مثل هذه المحكمة الجنائية الدولية لا تملك أيضا صلاحية استصدار مذكرة توقيف بحق أي مسؤول في بلد كالسودان لم يصادق عليها، وإن اعتبرت سابقة ملزمة فماذا سيقال عند استهداف الرئيس المصري، أو الملك السعودي أو الأمير القطري؟

من يقبل بذلك يعرض نفسه لسقوط حقه في الاعتراض إذا تعرض لمعاملة مماثلة عندما يحين الوقت المناسب للهيمنة المسيطرة على النظام العالمي.

وإذا كان السياسيون يحكمون اللحظة الآنية في سلوكهم، ولو كان ذلك يتعارض مع حصانتهم ومصالحهم الذاتية ومصالح بلادهم وشعوبهم، فلا ينبغي أن يمتنع أحد من أصحاب التأثير الأدبي، فكرا وإعلاما على الأقل، من العمل على رفض الاستبداد الدولي القائم بمختلف أشكاله وإفرازاته وممارساته، جنبا إلى جنب مع رفض الاستبداد المحلي القائم بمختلف أشكاله وإفرازاته وممارساته، والبديل هو العمل دون انقطاع لتثبيت الشرعية الدولية بمبادئها الأصيلة دون تزييف، وتثبيت دساتير شرعية وأوضاع قانونية وتطبيقية مشروعة، في مختلف البلدان، لا سيما البلدان العربية والإسلامية، فالاستبداد الدولي والاستبداد المحلي، وجهان متماثلان، لعملة واحدة، وعواقب جسيمة يولد بعضها بعضها الآخر.

وأستودعكم الله وهو الغالب أمره يقينا ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب