هيثم المالح – مع المذكرات ومن المذكرات

من كل بستان من عطاءاته زهرة

كلمة وفاء – وقفات في سطور مع محتوى مذكرات شيخ الحقوقيين وخواطر حولها

0 100
تسجيل صوتي بمقدمة مستقلة عن النص المكتوب

كلمة وفاء

في ١٤ / ٩ / ٢٠٢٠م حظيت في منزلي بزيارة شخصية من شيخ الحقوقيين بسورية، الأستاذ هيثم المالح، استمرت ١٠ ساعات، وتضمنت إلقاء نظرة على مسودة مذكراته التي نشرت لاحقا في ثلاثة مجلدات، مع حوارات ثمينة، حول بعض محتوياتها، وأشارك رواد هذا الموقع ببعض ما كسبته في ذلك اللقاء، بأسلوب من يقطف -لا على التعيين- زهرة بعد أخرى، من بساتين العطاء الكبير والثمين، وأستميح العذر من القراء الكرام، فكل منهم يمكن أن يتخيل ما كانت تحفل به تلك الساعات العشرة مع هيثم المالح، شيخ الحقوقيين في سورية، كما كان معروفا منذ عقود، وهو منذ عقودٍ أيضا وخلال أعوام الثورة أيضا، في منزلة شيخ الناشطين العاملين المناضلين والسياسيين.

لم يكن الحديث معه مرتبا أو مجدولا، وقد تناول مذكراته التي أوشكت أن تصبح جاهزة للطباعة، وهو فيهما شاهد على سورية وتاريخها وأحداثه، وعلى ثورة شعبها منذ ٢٠١١م مع تشعبات أحداثها ومساراتها، وتعدّد من كان لهم فيها دور سلبي أو إيجابي. كما تناول الحديث ذكريات كانت معه وبمشاركته في بعض فعاليات العمل تحت عنوان الثورة الشعبية في سورية، وتناول أيضا جوانب من الرؤية السياسية نقدا إيجابيا وسلبيا لما كان حتى الآن، واستشرافا لما ينبغي أن يكون في المستقبل المنظور.

وأبدأ بالقول: يا أيها المتطلعون إلى تحقيق تغيير جذري فعلا لا قولا، وفي اتجاه مستقر وليس وقتيا، لا بد أن تكون منكم أمم تتفوق كل أمة منها في باب من أبواب التطور التقني العريض، أو تخصص من التخصصات المتفرعة عن العلوم الطبيعية والإنسانية الحديثة، أو وسيلة أو أسلوب أو نهج أو آلية من ميادين العمران والنهوض، الأساسية على مر العصور، والحديثة من عصرنا هذا، بدءا بالآداب والفنون الهادفة، انتهاء بإدارة الأزمات والتنمية البشرية والتخطيط الاستراتيجي.

ولعل في مقدمة العبر والدروس التي نأخذها من سير العظماء قديما وحديثا – وهذا مما يكشف عنه اللقاء المطول مع الأستاذ هيثم المالح، أن كلا منهم تميّز بعطائه في ميدان أو أكثر من الميادين التي يتقنها، فامتطى جناح التفوق فيها، حتى اكتسب لقبا من قبيل “شيخ الحقوقيين” نتيجة إنجازات صنعها في ذلك الميدان بالذات.

* * *

كما يعلم القاصي والداني كان الميدان السياسي أيضا من ميادين حركته الدائبة منذ اندلاع الثورة الشعبية في سورية على الأقل، ويعرف كثيرون أن هذا يسري عليه عندما كان داخل سورية أيضا، أي قبل خروجه من بلده في أيار / مايو عام ٢٠١١م. 

وقد يقول قائل إن إبداعه الأكبر كان في الجانب الحقوقي، وهذا صحيح، ويشهد عليه كتابه المنشور باللغتين العربية والإنجليزية تحت عنوان “شرعنة الجريمة” ولكن يوجد الكثير أيضا مما يشهد على إبداعه السياسي، وهو معلوم لمن عرفه مباشرة أو من له القدرة على تحليل المواقف عبر متابعة إطلالات المالح إعلاميا، كما كان في “مراجعات” عبر قناة الحوار، و”شاهد على العصر”  و”بلا حدود” عبر قناة الجزيرة، و”إضاءات” عبر قناة العربية، ومداخلاته في كثير من البرامج الإخبارية والحوارية تعليقا على الأحداث في سورية تخصيصا، وكنت أحد المتابعين له منذ أعوام عديدة، ومما استوقفني في مطلع الثورة في سورية ما صدر عنه تحت عنوان “هذا بيان للناس”، وقد جاء في ختامه:

((ولهذا فإنني أطالب:

1- الشعب بضرورة التحرك للدفاع عن مصالحه وحقوقه، والتصدي للانحراف والفساد.

2- السلطة بالتنحي عن الحكم، والتمهيد لانتقال السلطة سلمياً إلى سلطة تمثل الشعب تمثيلا حقيقياً.

“وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون”))

وكنت أتساءل كيف أطلق هيثم المالح هذه الكلمات – ناهيك عما سبقها وهو أشدّ منها وضوحا وصياغة – وذلك قبل أن يغادر سورية، فتاريخ البيان هو يوم ٦ / ٣ / ٢٠١١م، وكانت مغادرته لسورية بعد أكثر من شهرين، ولكن فوجئت خلال الحديث مع الأستاذ الكبير يوم ١٤ / ٩ / ٢٠٢٠م، بأن هذا البيان بصياغته وإعلانه كان قبل الإفراج عنه بيومين.. (وكان قد لبث في المرة الثانية في السجن من شهر تشرين أول / أكتوبر ٢٠٠٩م  حتى ٨ / ٣ / ٢٠١١م) فكأن ابن الثمانين عاما آنذاك كان يقول للسلطة بهذا البيان: سأتابع الطريق بعد الإفراج عني من السجن أيضا.

وقد صدق في هذا الموقف كما تشهد كلمة له بعد أسابيع معدودة (١٦ / ٤ / ٢٠١١م) وفي ختامها:

((أيها المواطنون.. إن كل هذه المطالب هي من حقوقكم ولا يجوز التفريط بها، وإن تحرك الشعب صفاً واحداً تتشابك فيه الأيدي من كل مكوناته وأديانه وعقائده وإثنياته هو المخرج الوحيد من أزمتنا. إنني أهيب بإخوتي المواطنين جميعاً بان يلتفوا حول شعاراتنا الموحدة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ورفض أي محاولة لشق صفوفنا بذرائع طائفية وإثنية وسوى ذلك لأن هذا ما يريده النظام ويؤدي لإضعافنا)).

هذه المواقف كانت حلقة من حلقات عمل سياسي بدأ مبكرا، حتى من قبل التحرك النقابي المعارض، بمشاركة القضاة والمحامين، ضد المظاهر والممارسات الاستبدادية الأولى التي صنعها استلام حزب البعث للسلطة في سورية عبر انقلاب  ٨ / ٣ / ١٩٦٣م، ولا يمكن أن نفصل عن تلك الحلقات أنشطة المالح عبر تأسيس أولى منظمات حقوق الإنسان الفاعلة داخل سورية، ووضع النواة الأولى لما يعرف بالمجتمع المدني، وكذلك عبر إنشاء شبكة علاقات عامة محلية وعالمية واسعة النطاق مع أصحاب التأثير من القطاع السياسي والديبلوماسي، في السنوات التالية، وهذا مما أعطاه وزنا خاصا به، ظهر للعيان بقوة، بعد أن أصبح “أحد” الذين يتحركون لتمثيل ثورة شعب سورية إقليميا وعالميا.

لعل من الإشكاليات في نهجه السياسي أنه يطالب بلهجة القاضي، ويقرر بموازنات الحقوقي، ويتحرك بقيم إنسانية وإسلامية، طلّقها كثير ممن يتحركون سياسيا في عالمنا المعاصر. ولعل من إشكاليات العمل معه، وهو السياسي القاضي والمحامي، والتي أدت إلى خروجه لاحقا من “المجلس الوطني” وكذلك استقالته من “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ” ما يندرج تحت عنوان:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم – – – بهنّ فلول من قراع الكتائب

إذ كان لا يهادن في الحق كما يراه، ولا يقبل أنصاف الحلول وهي في واقعها أقرب إلى سد الأبواب أمام تلبية المطالب المشروعة، ويضاف إلى ذلك أنه كان من قبل الثورة حادّا في مطالبه، يستعلي بذلك على الاستبداد الإجرامي الذي يقارعه مباشرة داخل سورية، فلا تلين له معه قناة، وهذا مع مستوى من الحدة الضرورية للتعبير عن اعتزازه بنفسه وشعبه ووطنه، وقد بقي شيء من ذلك أثناء مزاولته العمل السياسي من منطلق الحق والعدالة كما يعرفهما في تخصصه القانوني، فأعطى وأبدع، وحق فيه القول:

ليس له عيب سوى أنّه – – – لا تقع العين على شبهه

* * *

تقف السطور التالية عند بعض ما يتعلق بالسياسة التركية تجاه قضية سورية، رغم ندرة ما صدر من مواقف وأطروحات بهذا الصدد عن الأستاذ هيثم المالح، وحول ما وصلت إليه السياسة التركية في عهد حزب العدالة والتنمية، وبعض ما يرتبط بربيع الثورات الشعبية العربية، هذا لبيان أن الطرح السياسي والديبلوماسي يرتبط بعوامل عديدة، وقد يكون من الضروري بقاؤه محدودا أحيانا، رغم التمنيات المشروعة بتحقيق هدف ما، هذا مع أن السياسة التركية أصبحت في مقدمة ما يتناوله السوريون بالذات بأسلوب الأخذ والرد، وهو ما يشمل كثيرا من المعارضين للسياسة التركية من حيث الأساس، وكثير منهم يعبرون عن ذلك من حيث هم مقيمون، في تركيا نفسها، بينما أصبح من المستحيل في عصرنا الحاضر أن ننظر إلى سياسة أي جهة من الجهات بمعيار الرفض المطلق أو التأييد المطلق، وأصبح من الضروري في قضايانا بالذات أن يتعايش الرأي المؤيد مع المعارض، وأن يتجاور القبول بجانب مع الرفض لجانب آخر مما يصدر من سياسات وممارسات من قوى محلية وإقليمية ودولية.

الجدير بالذكر أن الأستاذ المالح يتحدث إيجابيا على وجه التعميم عن العهد العثماني، رغم ما تعرض له قبل سقوطه، مما يعتبره بعضنا افتراءات ونتيجة لمؤامرات فعلت فعلها، ويعتبره بعضنا الآخر انحرافات، إنما بغض النظر عن هذا وذاك يتخذ الأستاذ هيثم مواقفه بميزان ما تمليه مصلحة الثورة التي يعمل لها، ومن ذلك موقفه الداعي إلى اتخاذ القاهرة وليس إسطنبول مقرا رسميا للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وكان له ذلك بالفعل كبند من بنود نظام الائتلاف، وهو ملزم قانونيا، ولم يلتزم الائتلاف به واقعيا، فبقيت غالبية أنشطة الائتلاف وتحركاته تنطلق من تركيا وليس من مصر، حتى أصبح وجود المقر الرسمي في القاهرة شكليا.
ووجهة نظر المالح بالغة الأهمية سياسيا وقانونيا، فالوجود الرسمي للائتلاف في القاهرة، يعني وجوده في المكان المشروع الذي ينبغي أن يكون له لتمثيل الدولة من خلال تمثيل الإرادة الشعبية السورية، وذلك عبر “كرسي سورية” كدولة عضو في جامعة الدول العربية، وهذا ما أقرت به الجامعة لصالح الائتلاف كما هو معروف، كما أن سياستها في عهد الأمين العام نبيل العربي كانت مختلفة عما أصبحت عليه لاحقا.

قد يلتقي المرء أو يختلف مع ما يراه الأستاذ المالح بهذا الصدد سياسيا وقانونيا، ولكن في الحالتين نعلم أن تعامل الجامعة مع الثورة تأثر كثيرا بمسار التحرك المضاد للثورات الشعبية، ولا سيما عبر تأثير مصر على صناعة القرار السياسي في الجامعة وبعض الدول الأعضاء فيها، مما ظهر بصورة عنيفة في السنوات التالية. بالمقابل بقيت تركيا على استعداد لاستقبال معظم المشردين عن وطنهم السوري، وكذلك لاحتضان جميع من يتحدث باسم الثورة في سورية سواء من يؤيدون هذا الجانب أو ذاك من السياسات التركية أو من يعترضون.

من هذه الزاوية يمكن القول إن المكان الأنسب للمقر الرسمي لعمل أي هيئة تمثل “الثورة” – بغض النظر عن انتقاد قصورها أو التماس الأعذار لها – هو المكان الذي يتيح أكبر قدر ممكن من العمل ضد الاستبداد، ولا يقتصر الاستبداد على هياكله المحلية بل يشمل شبكات علاقاته الإقليمية والدولية.

ولكن لا يفسد الاختلاف مع المالح للودّ قضية كما يقال، فلم يمنعه عدم الأخذ برأيه في الائتلاف من العمل بأقصى ما يستطيع من قلب القاهرة ومن قلب إسطنبول وكذلك من قلب العواصم الأوروبية والدولية، التي شهدت رحلاته المتوالية، لمتابعة نشاطه السابق قبل مغادرة سورية، بحلقات تالية من حركته الدائبة وحواراته مع المسؤولين من مختلف الأجهزة الرسمية الدولية الحقوقية والسياسية والإنسانية، وتسليمهم تقاريره الحقوقية والسياسية باسم الثورة وشعبها وممثليها، وجميع ذلك بعد عام ٢٠١١م، أي بعد أن بلغ الثمانين من عمره.

ويؤكد الأستاذ هيثم المالح أهمية ما صنعته تركيا لشعب سورية على أكثر من صعيد، إنما لا يتعرض بالتفصيل إلى السياسات التركية عموما وهو يطالب بما يراه واجبا عليها تجاه سورية وشعبها وثورتها، ومثال ذلك

قوله في أواخر مذكراته (تحت الإعداد للنشر):

(لعبت دول الخليج من حيث تدري أو لا تدري على تشتيت الفصائل لأنها باشرت الاتصال بالفصائل مباشرة لشراء الولاء وتقديم الدعم بعيداً عن القيادة السياسية، وفي تركيا عجز الائتلاف عن إيجاد غرفة مشتركة للتنسيق بين الحكومة التركية وبين القيادة السياسية للثورة، كما لم تعمد تركيا لتوحيد الفصائل المسلحة مع أنه كان بإمكانها فعل ذلك).

* * *

لم يكن لقاء ١٤ / ٩ / ٢٠٢٠م أول اللقاءات مع الأستاذ هيثم المالح بطبيعة الحال، فعلاوة على متابعة أخباره وما كتبت عنه وهو في قلب معركة شيخ الحقوقيين ضد الاستبداد، التقيت به مرارا في مسارات معركة “شيخ الثوار” بعد خروجه من سورية في تموز / يوليو ٢٠١١م، ولم يكن يفكر بالخروج لولا أن أصبح المقام مع مواصلة العمل شبه مستحيل، وهو ما يتحدث عنه في مذكراته عن فترة امتدت أربعة شهور بين خروجه من السجن وخروجه من سورية. بل كان قبيل خروجه أيضا وبعد أن انطلقت الثورة الشعبية يفكر بعمل تنظيمي لتوجيه مسارها، ومن ذلك ما عرف بمؤتمر الإنقاذ، فبدأ الإعداد له على أن ينعقد بالتوازي في دمشق وإسطنبول، وقد علمت بذلك من خلال تواصل اللجنة التحضيرية بي للتشاور، وكانت تعمل في الأردن بإشراف عماد الدين رشيد، ثم ما لبثت أن وجدت هيثم المالح مشاركا على المنصة في مؤتمر “علماء المسلمين لنصرة الشعب السوري” في إسطنبول، يوم ١١ / ٧ / ٢٠٢٠م، في اليوم التالي لخروجه من سورية، وكنت برفقة أستاذي الجليل عصام العطار في المؤتمر.

ثم كان اللقاء الثاني مع الأستاذ هيثم المالح يوم ١٦ / ٧ / ٢٠١١م في مؤتمر الإنقاذ الذي شهد أزمة تحضيرية وتنظيمية كما وقعت محاولات تشويه الغرض من انعقاده، وترد بعض التفاصيل عن ذلك في مذكرات الأستاذ هيثم، وكنت بين من تحدثوا مباشرة معه في محاولات ثنيه عن قراره بمغادرة قاعة المؤتمر آنذاك، إنما تبين لي قبل أن ينفض المؤتمر أنه كان من العسير “إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مؤتمر الإنقاذ نفسه”، وهو ما كان في حينه موضع أمل كبير أن تنبثق عنه الرؤية المناسبة لدعم مسار الثورة الشعبية قبل أن يشهد انشقاقات وانحرافات ذاتية ومصنوعة في الفترة التالية.

وتكررت اللقاءات مع الأستاذ هيثم في الفترة التالية لا سيما وأنه أقام في مسكن بألمانيا بين مدينتي آخن التي أتردد عليها وبون التي أقيم فيها، وكنت منشغلا بأنشطة “تيار العدالة الوطني – سورية” ومن ذلك تنظيم إقامة “خيمة الثورة السورية” قرب مبنى جامعة الدول العربية قرب ميدان التحرير أثناء الاحتفال الشعبي بمرور العام الأول على ثورة ٢٥ يناير / كانون الثاني، وكان التفاعل كبيرا من جانب المشاركين من السوريين والمصريين وغيرهم في المهرجانات الخطابية والثورية، واستطعنا ترتيب كلمة ألقاها الأستاذ هيثم المالح من على منصة خيمة الثورة السورية المطلة على الميدان. وكان لي معه في القاهرة لاحقا لقاء آخر دعاني إليه للمشاركة في تأسيس “مجلس أمناء الثورة.

كما كنت على اطلاع على مواقف الأستاذ هيثم المالح وانزعاجه من قصور المجلس الوطني في السنتين الأوليين للثورة، واللتين شهدتا تأييدا دوليا للثورة واعترافا رسميا على مستويات عديدة، وقد شارك هيثم المالح بحملة قمنا بتنظيمها باسم تيار العدالة الوطني تحت عنوان “يجب إصلاح المجلس الوطني إصلاحا جذريا” ولكن أوقفنا أنشطة الحملة بعد أن وصلت إلى تأييد شعبي واسع النطاق، وبعد أن تبين من تواصل بعض المسؤولين في المجلس معنا، أننا أصبحنا بين أمرين، إما التوقف لعدم الاستجابة بإحداث إصلاح حقيقي، أو الانتقال إلى خطوات عملية وعلنية للضغط على زعامات المجلس الوطني آنذاك، فآثرنا الابتعاد عن زيادة نسبة الخصومات العلنية في ساحة الثورة والتعامل معها.

وكان من المبادرات التي تجاوب معها شيخ الحقوقيين والثوار مبادرة استهدفت تشكيل “هيئة حكماء” تكتسب صفة المرجعية الأدبية، من الشخصيات القيادية المعروفة من قبل الثورة، بغض النظر عن تعدد التوجهات، فكان منهم عصام العطار وهيثم المالح وعارف دليلة ورياض الترك وبرهان غليون وغيرهم، وأبدى المالح استعداده مع ربط ذلك بموافقة الآخرين، ولكن أخفقت المبادرة في جمعهم على عمل مشترك يكون له مفعول الريادة الجماعية.

على أن التواصل لم ينقطع عبر الأعوام التالية لمسار الثورة، رغم انشغاله بأعمال عديدة اشتغل عليها ووصل بها إلى عدد من المسؤولين الدوليين ومن الأجهزة العالمية، أثناء مسؤوليته عن اللجنة الدستورية في الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة، وقبل أن يستقيل من الائتلاف نفسه.

* * *

هذه سطور مختارة من محتوى المذكرات، ولا أزعم أنها تمثل أشد الفقرات إثارة أو أعمقها مغزى من بين مئات الصفحات من مذكرات هيثم المالح، شيخ الحقوقيين الأستاذ القاضي والمحامي والسياسي والمناضل، وكذلك الإنسان ورب العائلة والأب، كما تبين مذكراته. إنما تأتي هذه المقتطفات من باب الدعوة إلى تذوق بعض ما فيها وهو ما تعبر عنه عبارة (من كل بستان من عطاءاته زهرة).

* * *

يقول الأستاذ هيثم في مذكراته:

لأكثر من اثني عشر عاما، وبالتحديد قبل فترة سجني الأخيرة، التي امتدت من الرابع عشر من تشرين الأول عام ٢٠٠٩، حتى إطلاق سراحي في الثامن من آذار عام ٢٠١١، كان العديد من أصدقائي ورفاقي المقربين يطالبونني بكتابة مذكراتي، وأنا أتساءل: ماذا أكتب؟ ومن أنا لأكتب؟ فقد عشت حياة أقرب للبساطة منها لمخالطتي الشخصيات الكبيرة، أو المسؤولين هنا وهناك، وبعد زواجي الثاني عام ٢٠٠٧، من سكرتيرتي، التي عملت في المكتب لمدة ست سنوات، وكان لديها القدرة والإمكانية لتكتب بأناملها على الحاسوب “كمبيوتر” وجدت الوقت مناسبا لذلك، ما دفعني للبدء بالكتابة.

– – –

في خضم هذه الأعمال بدأت أُمْلي على زوجتي ما علق في ذهني من أحداث الطفولة، بحيث أكتب في كل يوم بعضا من أسطر أو صفحات، ثم أكتب عن الأحداث العامة والسياسية، التي مررت بها في حياتي، بدءا من تكون وعيي في الحياة العامة، ولعل ذلك يبدأ مع مرحلة الدراسة الثانوية، التي بدأت بعد خروج الفرنسيين من سورية، حيث درست في الثانوية الجديدة التي أطلق عليها ثانوية ابن خلدون، والتي افتتحت في إحدى الثكنات العسكرية ليس بعيدا عن ساحة الأمويين اليوم.

تابعت كتابتي، فكتبت في القسم الأول منها أشياء عن طفولتي، ومن خلال ذلك كتبت عن بعض تقاليد وعادات الدمشقيين في أعيادهم واحتفالاتهم، ثم تحدثت عن الاستعمار الفرنسي الذي أثقل كاهل شعبنا، وأنا ابن دمشق، وأعرف ما تعرضت له بلادنا

– – –

تحدثت عن حل النقابات، واعتقال النقابيين، والتصفيات الجماعية التي قام بها حافظ الأسد وأخوه رفعت، وعن أحداث حماة، التي استشهد فيها ٤٨٠٠٠ شخص من الرجال والنساء والأطفال، وعن تدمير ثلث المدينة، وعن إعدام أكثر من ١٥٠٠٠ في تدمر، وقد بلغ مجموع الضحايا في سورية سبعين ألفا، تواطأ المجتمع الدولي والعربي على طمس الجريمة، بل دعم حافظ الأسد بالمليارات من الدولارات، التي تدفقت عليه من دول الخليج، في الوقت الذي احتجز فيه حافظ الأسد في سجونه المختلفة خمسين ألف معتقل، ونصب المحاكم الميدانية العسكرية لمحاكمة المعتقلين خارج إطار القانون، وقد أوضحت ذلك في كتابي “سورية… شرعنة الجريمة” الذي طبعته قناة العربية، وترجم إلى الإنكليزية، ووزعت منه على مستوى العالم ألف نسخة.

– – –

مات معظم الذين عشت معهم أحلى أيام عمري، وحالت الغربة المريرة بيني وبين بلدي، وعندما يزورني أحد ممن أعرف، تهيج في قلبي وجوارحي الذكريات لأتذكر من تركتهم في ملاعب الصبا بحرقة وألم.

وفي النهاية فإن لزوجتي الثانية ورفيقة دربي فضلا كبيرا عليّ منذ اقتراني بها، لولاها ما كتبت هذه المذكرات، فقد تحملت معي المخاطر في عيشي، وكان لها الفضل الكبير في كتابة كل ما صدر عني من مقالاتي وكتبي وهذه المذكرات، فلها الشكر والامتنان والمحبة والفضل، ولها مني كل الأماني بالسعادة والهناء.

– – –

قدمت أوراقي للجامعة للتسجيل في كلية طب الأسنان، فلامني أحد رفاقي على ذلك وقال لي: ما هذه المهنة التي تريدها؟ أنصحك بكلية الحقوق فمجالاتها أوسع. فأخذت برأيه دون أن أفكر بشيء، إذ وجدت نفسي مقتنعا بما قاله، وهكذا وجدت نفسي في كلية الحقوق، ليكون ذلك بداية لفراق مؤقت بيني وبين الرياضة، إذ كنت خلال دراستي الجامعية أعمل إلى جانب دراستي، كي أكسب بعض المال الذي يعينني في إكمال دراستي، ومساعدة أسرتي في ذات الوقت.

– – –

كان لنا سهرة أسبوعية عند العالم الجليل الأديب علي الطنطاوي، تضم عددا من الأصدقاء منهم: سعيد الطنطاوي، وسعيد رمضان البوطي، ومحمد هواري، وهيثم الخياط، وتيسير عيتي، وبديع سلاخ، وأحيانا شقيقه عبد الغني الطنطاوي، والشيخ بهجت البيطار الذي كان يتردد على الأستاذ الطنطاوي من حين لآخر، وكنا نتداول في هذه الجلسة قراءة كتاب أو مناقشة أفكار دون حد معين أو موضوع معين، وكنت ألاحظ أن الشيخ علي يجمع من المعلومات الشيء الكثير، وكان يتمتع بذاكرة علمية قوية، واستمرت صداقتي وملازمتي له حتى بعد تخرجي من الجامعة.
يتوسط جامعة دمشق التي كانت تسمى الجامعة السورية مسجد للصلاة، تقام فيه – إضافة للصلوات اليومية – صلاة الجمعة والعيدين، ويدير المسجد مجموعة من الطلاب منهم هيثم الخياط، ومحمد الهواري، وسعيد مولوي، وسعيد طنطاوي، وكنت واحدا منهم، و في كل جمعة نكلف إحدى الشخصيات لإلقاء خطبة الجمعة، كما كان يصدر عن اللجنة محاضرة شهرية، تطبع على شكل كتيب صغير بحجم الجيب، و يجري تكليف الراغبين بالكتابة ليكتبوا في أي موضوع، وقد جمع المكتب الإسلامي لصاحبه الأخ زهير الشاويش هذه الرسائل بمجلدات بلغ عددها ثلاثة، طبعها على نفقته تخليدا لهذه المرحلة، وكان مسجد الجامعة قبلة المثقفين ومنارة الأحرار، حيث كانت الحدائق التي تحيط بالمسجد تغص بالمصلين، وقد تعاقب على منبر هذا المسجد كبار شخصيات العالم الإسلامي، منهم على سبيل المثال: علي الطنطاوي، ومصطفى السباعي، وأحمد مظهر العظمة، وعصام العطار، وأبو الحسن الندوي، ومحمد الغزالي وآخرون .

كانت الجامعة تقيم سنويا حفل تخرج للطلاب الذين يتخرجون وينهون دراستهم الجامعية، وفي أيام حكم أديب الشيشكلي جرت حفلة لخريجي كلية الحقوق، ونودي على اسم عبد الرحمن أتاسي ليتسلم شهادته، فوقف المذكور ورمى الشهادة وقال قولا عظيما، قال: (أنا أرفض استلام شهادة حقوق في بلد ليس فيها حقوق). ساد الهرج والمرج، وألغيت الحفلة التي كانت أخر حفلة تقام بهذه المناسبة.

لا أدري إذا كان هذا الزميل لا زال على قيد الحياة أم لا، لأن موقفه هذا لم يكن مسبوقا ولا متبوعا، فلو أن الناس التزموا الدفاع عن الحق والحقيقة بمثل هذه الجرأة، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من ذل وهوان.

– – –

بتاريخ ٢٩ / ٥ / ١٩٦٦ أصدر رئيس الدولة نور الدين الأتاسي المرسوم التشريعي رقم ٤٠ الذي ينص على جواز صرف القضاة من الخدمة بقرار من مجلس الوزراء أو نقلهم إلى ملاك آخر، ويعتبر مرسوم الصرف من الخدمة غير قابل لأي طريق من طرق المراجعة القضائية، وهكذا ارتكبت السلطة في ذلك الوقت أكبر مجزرة في القضاء، حيث أصدرت المرسوم رقم ٦١٢ سندا لقرار مجلس الوزراء رقم ٢٣٨ تاريخ ٢٩ / ٥ / ١٩٦٦ بصرف أربعة وعشرين قاضيا من عملهم، وكان على رأسهم عبد القادر الأسود رئيس محكمة النقض ومحمد على الطنطاوي وعدنان مردم وآخرين، وكان اسمي هو الأخير في هذه القائمة، التي وجهت أكبر ضربة للقضاء، لبدء السيطرة عليه وإنهاء استقلاله.

صحافة النظام كتبت في ذلك الوقت عن هذا الموضوع، وكان من جملة ما قالته: إن المصروفين من الخدمة في القضاء لم يكونوا منسجمين أو موالين للنظام.

– – –

خلال عملي النقابي شكلت مع مجموعة من الزملاء المحامين كتلة نقابية أسميناها الكتلة المسلكية، بغرض المنافسة في الانتخابات وفي الإشراف على العمل النقابي، كما شكل آخرون كتلا أخرى تحت أسماء ومسميات مختلفة، وقد تميزت كتلتنا بأنها كانت تسعى لترسيخ سيادة القانون واستقلال القضاء واستقلال نقابة المحامين، ولذا سميناها الكتلة المسلكية، وقد بلغ عدد أعضائها أربعين عضوا، وحققت حضورا واضحا ومتميزا في العمل النقابي، وكان يحسب لها حساب أثناء الانتخابات، وقد اتصفت هذه الكتلة بالموضوعية والتجرد، وكنا نتحرى في الانتخابات أن نؤيد مرشحين يتمتعون بصفات مهنية عالية.

– – –

في صبيحة يوم ٣ / ٥ / ١٩٨٠ وبينما كنت أهم بفتح باب سيارتي للتوجه إلى مكتبي وأمام داري في المزة، تقدم مني شخصان مدنيان، وبعد أن استوثقا من شخصيتي، طلبا إلي أن يصطحباني بسيارتي إلى الشرطة، علما أن سيارتي مطلوبة من جهاز شرطة المرور، وقد ناقشتهم في هذا الموضوع، ولم أقبل أن أسير معهم، فانضم إليهما شخص ثالث، ثم طالبتهم بالتعريف عن شخصياتهم فقدموا لي تذاكر هوياتهم الخاصة بالأمن، فعجبت لأسلوبهم الملتوي، ثم اصطحبوني إلى فرع الأمن الداخلي التابع لإدارة المخابرات العامة، وهناك جرى نقاش بسيط بيني وبين المسؤول عن الفرع المقدم محمد ناصيف، الذي جادلته بعدم صحة الاعتقال دون أمر قضائي، وبينت له أنه لا أحد يملك ذلك بما فيهم رئيس الجمهورية، وقد بين لي أنه أرسل لي عدة أخبار لإشعاري أنني مطلوب للاعتقال، وهو لم يكن يريدني أن اعتقل، وقد كرر ذلك عدة مرات وبعدة أساليب، و قال لي بالحرف الواحد: إنه ينفذ الأوامر.

– – –

قضيت في السجن قرابة سبع سنين، وقضى غيري أكثر من ذلك، ولا يزال بعض الزملاء من كافة الاتجاهات والفعاليات يئنون تحت وطأة أغلال السجون، والله وحده يعلم متى ستنتهي معاناتهم.

إن المدة التي أمضيتها وأمضاها غيري في المعتقلات السياسية، إنما هي في حقيقتها عقوبة قررها الحاكم العرفي أو نائبه، ونفذها، فكانت عقوبة لجناية لم يرتكبها أحد.

– – –

وصلت الدار حوالي الساعة الثالثة من عصر يوم ٣٠ / ١١ / ١٩٨٦ دون أن يصل إلى أهلي أيّ خبرٍ عن الإفراج عنّي، فقرعت الباب، ففتحته ابنتي الوحيدة لينة، وما كادت عيناها تقع عليّ حتى بدأت بالصراخ والعويل والبكاء والضحك، أصوات ممزوجة مشوشة ولم تعد تقوى على الوقوف، فكانت صدمة فرحة اللقاء عنيفة مؤثرة، وما إن وصلت إلى غرفة الجلوس حيث كانت زوجتي مذهولة من الأصوات خارج الغرفة وحين شاهدتني أغمي عليها، وأوشكت أن تصاب بصدمة، عانيت بعض الشيء معها حتى استطاعت تماسك نفسها، فلم تكن تصدق عينيها، هل أنا بين ظهرانيهم أم هو الخيال؟!! وكذلك كان وضع ولدي نبراس الذي لم تصدق عيناه ما رأى؟!

– – –

ثقل المرض على حافظ الأسد وأعلنت وفاته بتاريخ ١٠ حزيران ٢٠٠٠.

مات الدكتاتور، كما قال الزميل الصديق رياض الترك، وانتقل الحكم إلى مشروع ديكتاتوري صغير هو الولد بشار الأسد.

– – –

يوم ٢٦ / ٧ /٢٠٠١ باشرنا عملنا في الجمعية (السورية لحقوق الإنسان) بصورة نشطة، وشكلنا عدداً من اللجان، لجنة إعلامية، ولجنة ثقافية تهتم بنشر ثقافة حقوق الإنسان، وكذلك لجنة العلاقات العامة.

وقد ترأست الجمعية لدورتين متتاليتين أي أربع سنوات، كانت حافلة بالنشاط وأصدرنا أربعة تقارير عن حقوق الإنسان في سوريا، كما أصدرنا نشرة شهرية عن طريق الإنترنت اسميناها “المرصد”، كما غطت بياناتنا العديدة سائر الانتهاكات سواء لجهة الحريات العامة والاعتقالات أو لجهة البيئة والفساد وما إلى ذلك… 

مع مجيء بشار الأسد إلى الحكم وريثاً لوالده حافظ الأسد بتعديل للدستور من قبل مجلس الشعب خلال أقل من خمسة عشر دقيقة، كما هو معروف لدى عامة الناس، ثم إلقائه لخطاب القسم الدستوري في مجلس الشعب والذي تعرض فيه إلى معاني الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، توهم البعض أننا أمام عهد جديد يختلف في مضمونه عن عهد حافظ الأب، وبدأ حراكٌ اجتماعي وسياسي يدب في أوصال المثقفين من أبناء الشعب السوري، ثم بدأت حركة المنتديات فكان أن افتتح منتدى جمال الأتاسي في بيت المرحوم جمال الأتاسي، وكذلك منتدى رياض سيف…

كل هذا مع صدور العديد من البيانات، وقد يكون من أهمها “بيان ٩٩”، إذ أدى من حيث النتيجة لظهور إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي المكون من سبع عشرة فقرة، وعقدت معظم الاجتماعات في مكتب حسن عبد العظيم، كما أرسل الإعلان إلى خارج سوريا حيث تم عرضه على الإخوان المسلمين وعلى برهان غليون فقد أيده الجميع.
كنت أحد الموقعين التسعة المستقلين على الإعلان وهم : جودت سعيد ورياض سيف وفداء الحوراني وعبد الرزاق عيد وعبد الكريم الضحاك وكمال زكار وآخرون…

حين صدر إعلان دمشق، كان الهدف منه فيما أعتقد هو نشر المبادئ التي وافق عليها الموقعون على البيان، إلا أنني لاحظت مع تعدد الاجتماعات للموقعين على البيان أن هناك توجهاً لجعل (إعلان دمشق) حزباً سياسيا، أو تكتلاً سياسياً يتماهى مع التنظيمات الحزبية، ومن المعلوم أن هذا غير صحيح ابتداء لأن اتفاق مجموعة من الأشخاص أو الكتل على المبادئ لا يعني تحولهم إلى حزب.

– – –

من الجدير بالذكر عقب عودتي من الدوحة (بعد المشاركة في برنامج بلا حدود في فضائية الجزيرة) استدعيت إلى أربعة فروع للأمن منها فرع الشعبة السياسية في منطقة الجبة “الصالحية” وقد أجرى معي أحد الضباط “عاطف نجيب” حواراً وقال لي في نهايته: يا أستاذ هيثم أنت رجل مسن لماذا لا تحيل نفسك على التقاعد وتذهب فتعيش مع أولادك في أمريكا حيث هناك الأماكن الجميلة وتمتع نفسك فيها وترتاح من هذا العناء! فأجبته بكلمات قلت له فيها “إنني مولود توءماً لجبل قاسيون”، وبالتالي لا أستطيع ترك توأمي وانتهى اللقاء.  

– – –

كانت قناة بردى أجرت معي لقاءً هاتفياً أجبت فيه على الأسئلة التي وجهت إلي من قبل المذيع وقد أحاطت إجاباتي بكافة مفاصل الموضوع، وعلى ما يبدو أن هذه المقابلة كنت القشة التي قصمت ظهر البعير…

هكذا بتاريخ ١٤ \ ١٠ \ ٢٠٠٩ دخل إلى مكتبي عنصر أمن وسألني عن المكان الذي أوقفت فيه سيارتي فأعلمته بمنتهى البساطة دون أن يخلد بذهني أن كميناً سوف ينصب لي بجانب سيارتي لاختطافي، وفعلاً خرجت من مكتبي، وما إن وصلت سيارتي وهممت ركوبها للذهاب إلى داري وكانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد الظهر، فوجئت بثلاثة شبان أشداء اختطفوني بالقوة ودفعوني بسيارة كانت تقف إلى جانب سيارتي، فسألتهم من أنتم قالوا “بعدين بتعرف”، ووصلوا بي إلى إدارة المخابرات العامة أمن الدولة وأدخلوني غرفة وجدت فيها اللواء زهير حمد وإلى جانبه شخص قيل إنه المستشار الخاص لمدير إدارة المخابرات وشخص آخر هو كاتب ضبط…

بعد أربعة  أيام وبتاريخ ٢٢ \ ١٠ أخذوني بسيارة وسلموني للمحكمة العسكرية، وكل هذه الفترة لم يسمح لي بالاتصال بأحد ولم أستطع أن أتناول دوائي الخاص، كما لا تعلم أسرتي مكان وجودي، كما لم يبذل أي محام جهداً كي أعامل معاملة محامٍ يحاكم خارج إطار القانون…

مع نهاية التحقيق تم سوقي إلى سجن دمشق المركزي في عدرا، حيث أمرت بالدخول إلى الحمام كباقي المساجين، في الوقت الذي لا أملك فيه ألبسة أو منشفة، ثم ساقوني إلى الجناح ٦ في المهجع الرابع وكنت حتى ذلك الوقت لم يدخل معدتي أي طعام، فأحاطني بعض المساجين الذين عرفوني، وحضروا إلي صحناً من الطعام تناولته ثم أخذني بعض المعتقلين وكان بينهم أحد الإخوة الأكراد فأحاطوني بعنايتهم وقد نسيت أسماء هؤلاء ولكن أوجه لهم الشكر على هذه الصفحات… 

بعد بضعة أشهر استدعيت للمثول أمام قاضي التحقيق العسكري الذي عرفت اسمه عبد الرزاق الحمصي وحضر معي في الاستجواب المحامي بهاء الركاض، وسألني قاضي التحقيق عن سائر المقالات الموجودة في الملف وعن مقابلاتي التلفزيونية فاعترفت بها جميعها….

في جلسة النطق بالحكم وقفت لأستمع قرار محكمة الجنايات العسكرية الذي انتهى إلى الحكم علي بالسجن ثلاث سنوات بالتهم التي نسبت إليّ….

قبل خروجي من السجن بثلاثة أشهر جاء دوري لاستلام سرير لأنام عليه، وكنت في كل زيارة أردد على مسامع زوجتي أنني سوف لا أكمل المدة، وقبل الإفراج عني بأسبوع واحد قلت لها سأخرج في القريب العاجل، لأنني كنت أشعر بتمام الارتياح والاطمئنان بأن الفرج سيكون قريباً.

وفي السادس من آذار ٢٠١١ أصدرت بياناً من السجن تحت عنوان: (هذا بيان للناس)، طالبت فيه من حيث النتيجة النظام بالرحيل والشعب بالتحرك للمطالبة بحقوقه.

– – –

في صبيحة أحد الأيام تلقيت  مكالمة هاتفية على الساعة الرابعة صباحاً تدعوني لمغادرة منزلي فوراً، بمقولة  أنه تم التحضير لمهاجمة منزلي على الساعة الخامسة صباحاً، وفعلاً غادرت إلى بيت ابن أختي القريب مني فأقمت عنده ليلتين إلا أنه كان يعد العدة للسفر، فتركته إلى دار أهل زوجتي، ومن أجل تغير بعض ملامحي أطلقت لحيتي، وبدأت بالتنقل من مكان إلى آخر…

– – – 

كان عدد من العلماء المسلمين تقدر بمئة شخصية قد نظموا وثيقة عهد على غاية من الأهمية وتصلح لأن تكون منطلقاً للعمل، وقلت للإخوة اتمنى من الجميع أن يتبنوا هذه الوثيقة كأساس للعمل الثوري باعتبارها تحمل توقيع رموزٍ من المشايخ المسلمين المعتمدين لدى جمهور من المواطنين المسلمين، إلا أنه لم يجر الموافقة على ذلك لأنه لا يوافق أحد على تبني مشاريع نظمها آخرون…

تناقشنا طويلاً حول صيغة الوثيقة التي نريدها، ووصلنا إلى حل هو اختصار المبادرات التي وردت عبر النت إلى مبادرة واحدة لا تتجاوز الصفحة والنصف كتابة، وتم ذلك فعلاً، وكتبنا مبادرة أودعناها لدى حبيب عيسى في أخر اجتماع، وذلك بحضور ميشيل كيلو وعارف دليلة وعبد العزيز الخير وآخرين، واتفقنا على توقيع هذه الوثيقة من خمسين إلى ستين شخصية سورية معروفة، ثم نضعها على صفحة النت لتوقيعها، ثم ندعو لاجتماع الموقعين وننتخب منهم لجنة لتنسيق العمل الثوري على الأرض.

بعد أن أودعنا الوثيقة السياسية التي كتبناها لدى حبيب عيسى، كنت من حين لآخر يسألني بعض الأشخاص ماذا تم في اجتماعكم يوم أمس مثلاً؟ فأنفي علمي بالاجتماع، وبعد فترة تبين لي أن هؤلاء الذين بدأت معهم في محاولة للعمل الجماعي هدفوا إلى إقصائي، وبعد شهرين تقريباً اتصل بي حبيب عيسى ليعلمني أن اجتماعاً عاماً سيعقد في المزة القديمة في دار طارق أبو الحسن، فاعتذرت عن الحضور بسبب ما حصل من اجتماعات دون علمي، ثم عقد حسن عبد العظيم مؤتمراً صحفياً حول ما سمي هيئة التنسيق وأعلن أنني واحدٌ منهم، مما دفعني لإصدار تصريح صحفي نفيت علاقتي بهيئة التنسيق، وهكذا سيطرت عقلية الفردية والإقصاء مع بداية العمل السياسي للثورة.

– – –

هيئة التنسيق التي ضمت التجمعات اليسارية والليبرالية في سورية، وأهمها:

حزب الاتحاد السرياني – حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي – حزب العمل الشيوعي السوري – الحزب الشيوعي السوري ، المكتب السياسي – حزب البعث الديمقراطي العربي الاشتراكي – تجمع اليسار الماركسي – حركة معا من أجل سوريا حرة ديمقراطية – الحزب اليساري الكردي في سوريا – حزب الاتحاد الديمقراطي – الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا – الحزب الديمقراطي الكردي السوري – حركة الاشتراكيين العربي.. وكذلك شخصيات مستقلة، إلا أنه من المفيد الإشارة هنا إلى أن جميع هذه الأحزاب هي أحزاب صغيرة وليست ذات وزن في المجتمع، إضافة إلى أن الاتحاد الاشتراكي برئاسة حسن عبد العظيم يمارس السياسة بطريقة أن يضع قدم لدى السلطة وقدم خارجها، ولا يستطيع هو ولا باقي الأحزاب أن يجاهروا بضرورة إسقاط النظام، واستبداله بنظام ديمقراطي حسب ما يطالب به الشعب السوري في ثورته.

– – –

ما إن خرج اللبواني من سورية حتى استطاع كما حدثني الحصول على جواز سفر دبلوماسي، ثم تعاون مع عقاب صقر سكرتير سعد الحريري، ولم أكن أتعرف على مكان تواجد اللبواني على اعتبار أننا عملنا معاً فترة في سورية، حتى أفقده، فكان يتنقل من بلد لآخر، ويدخل إلى سورية فيلتقي بالفصائل المقاتلة، وكان يقدم لها الدعم حسب قوله، والواقع أنه من خلال تحركه كان يتصور بأن لديه القدرة على تغير نظام الحكم، ثم ما لبثت أن سمعت خبر زيارته للكيان الصهيوني ولم يرشح عن هذا الكيان أخبار هذه الزيارة ولا الشخصيات التي تم لقاؤها، والواقع أن عددا من الأشخاص قد يكون تياراً لهدم الثورة زاروا كيان بني صهيون في فلسطين وهم فضلاً عن كمال اللبواني ناصر أبو المجد، منيف العبد الله، دارين العبد الله، رائد خالد العيسى، علي بدران، علي أمين سويد، محمود سليمان، محمد جهاد السمان، محمد أمين، حمود قطيش، نضال صبيح، أنس شبك، وحبيب الرحيم، ولا أدري ثمة أشخاصٌ أخرون قد ” شرفوا” بزيارة الكيان الدخيل على فلسطين.

– – –

كانت اللجنة القانونية في الائتلاف مشكلة على الشكل التالي:

المحامي هيثم المالح رئيساً. د. هشام مروة. ود. مروان حجو. وحسين السيد. وجمال الورد. ثم انضم في وقت متأخر ياسر فرحان أعضاء في اللجنة القانونية.

لم يكن غيري متفرغاً بشكل كامل لعمل اللجنة القانونية بينما الباقون يحضرون في اجتماعات الهيئة العامة، ويقدمون آراءهم أثناء الاجتماعات، وبالتالي لم يكن لدى الائتلاف هيئة قانونية من كبار رجالات القانون المتفرغين حتى تكون قاعدة صلبة لتصويب عمل الائتلاف، كما لم يكن الائتلاف يهتم بوجود اللجنة القانونية التي لم يوجه لها سؤالاً واحداً من قبل الائتلاف حول المواضيع القانونية المطروحة، وكانت الهيئة السياسية تتخذ سائر القرارات بما فيها القرارات ذات الطابع القانوني والحقوقي متجاوزة اللجنة القانونية.

– – –

كان التنسيق كاملاً بين وزير الخارجية الأمريكية جون كيري ووزير الخارجية الروسي سرغي لافروف، وبينما كانت قيادات ” المعارضة” تلتقي بهذين الوزيرين دون ان تشارك في اجتماعاتهما لبحث الملف السوري، ودون أن تدرك أن هناك تنسيقاً كاملاً بين القيادة الأمريكية والقيادة الروسية في السماح للتمدد الإيراني في سورية…

من الغريب أن بعض “المفكرين” من السوريين المحسوبين على الثورة السورية ومن غيرهم يعتقدون أن الغرب بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية كان ضد نظام بشار الأسد ومع الثورة، ولم يكن هناك تآمر من قبل هؤلاء على الثورة السورية…

من المستغرب في الثورة السورية أن نرى من تسلم قيادة “المعارضة” لا زال يعتقد بإمكانية التدخل الغربي للضغط على النظام وإجباره على الرحيل، أو إنصاف الثورة السورية بصورة من الصور، وهم يقابلون مسؤولين في موسكو وواشنطن، فبينما الإدارة الأمريكية تساعد الأحزاب اليسارية الكردية “بي كي كي” و”بي واي دي”، المصنفة إرهابية فيما يسمى “قسد”، وتقدم لهم السلاح والدعم السياسي….

وقد صرح الرئيس الأمريكي ترامب لأكثر من مرة أنهم أمنوا حماية آبار النفط، ويعاون الأمريكيين الفرنسيون، فكيف يمكن لمن يؤمن بالثورة السورية أن يعتقد بأنها ستلقى دعماً من هذا الغرب المنافق  والذي كان وراء دعم الأنظمة العسكرية الانقلابية في منطقتنا وخاصة في سورية، وعلى الخصوص دعم عصابة الأسد من حافظ إلى ولده بشار، وترسيخه للطائفية في سورية؟

هيثم المالح