منظمة التحرير ومرجعية التحرير
مشروعية أدوات العمل لقضية فلسطين هي استخدامها للتحرير
تنظيمات – مرجعية العمل لقضية فلسطين والعاملين، هي الثوابت والحقوق التاريخية لا العناوين الانهزامية والمختزلة
كل مطالبة جادة بتطوير حقيقي لمنظمة التحرير الفلسطينية أو إيجاد بديل عنها، تواجهها سلسلة من “نوبات الصراخ” وكيل الاتهامات وعلى رأسها التنكر لتاريخ المنظمة والتشكيك في الناقدين ومطالبهم، وسرعان ما “تضيع الطاسة” -كما يقال في بلاد الشام- وذاك هو المطلوب من أسلوب “الصراخ”، ليختلط الحابل بالنابل، ويتحول الكلام من الحديث عن الموضوع الأصلي، إلى أخذ ورد وجدال وهجوم وتهجم ودفاع.
منظمة التحرير ضرورة
قبل الحديث عن منظمة التحرير الفلسطينية ينبغي تأكيد بدهيات يجري تغييبها عبر الجدال المصطنع:
١- إن حقبة حرمان شعب فلسطين في أرضه وفي الشتات، من أرضه وسيادته ودولته، تفرض في نطاق الواقع العالمي الراهن، من الآن وحتى يستعيد تراب أرضه ويعود إليها ويستعيد سيادته ويطبقها بإقامة الدولة “التي يريد” وليس شبح دولة ممسوخة.. هذه الحقبة تفرض وجود من يمثله تمثيلا مشروعا، وأداة تحقيق هذه التمثيل المشروع الضروري هي التنظيم المناسب للغرض.
٢- تتجسد مشروعية هذا التمثيل في أن يمثل التنظيم المعني ثوابت شعب فلسطين وحقوقه التاريخية، وأن يعمل من أجل تمكينه من ممارسة حق تقرير مصيره بنفسه دون إملاءات خارجية ولا ضغوط تزيف إرادته، وأن يكون وجود التنظيم قويا وفاعلا، ما دام الاغتصاب والاحتلال والعدوان قائما، بغض النظر عن طول الفترة الزمنية، ليعبر قولا وعملا باسم شعب فلسطين في أرضه وفي الشتات عن هدفه المشروع وحقوقه المشروعة.
٣- لا بد من انضباط عمل التنظيم المعني بميثاق ينطلق من الحقوق الأصيلة والثوابت، وأن يكون في آلياته ما يمنع الانحراف عنها، وما يمنع استخدامه بما يتناقض مع إرادة المرجعية الشعبية التي يستند إليها ويصدر عنها، وما يمنع خروجه على ما يثبته حق تقرير المصير، وهو غير قابل للانتقاص ولا الاختزال ولا تكون ممارسته صحيحة قويمة إلا بعد تحرير الأرض وعودتها لشعبها وعودته إليها.
ذاك هو الأصل الذي يُفترض أن يجمع شعب فلسطين في أرضه وفي الشتات، وأن يوجد أرضية مشتركة للجهات العديدة التي باتت تتحدث باسم الشعب، وتتحرك باسم الشعب، ومنها من يثبت فعلا على حقوقه الأصيلة وثوابته، ومنها من ينحرف عنها، سيان هل يأتي الانحراف نتيجة استعجال النتائج، أو الإعياء على طريق تحقيقها، أو التخلي عنها بسبب مطامع ومكاسب وقتية، أو لأي سبب آخر.
منظمة ومنظمة
كما ينبغي التأكيد:
١- إن منظمة التحرير الفلسطينية التي تشكلت عام ١٩٦٤م تشكلت على هذه الأسس إلى حد بعيد، ومن يراجع ميثاقها الأول يجد نصوصا مستمدة من تلك الأسس.
٢- إن منظمة التحرير الفلسطينية في وضعها الحاضر ليست تلك التي تشكلت عام ١٩٦٤م.
٣- إن اختلاف المنظمة اليوم عما كانت عليه عند تأسيسها لا يعود “فقط” إلى وجود منظمات وأفراد يُفترض وفق قواعد تشكيل المنظمة أن يكونوا فيها، فلا تجد المشكلة حلا بمجرد انضمامهم إليها.
٤- الأهم من هذا النقص هو الانحراف بالمنظمة من خلال عدد محدود من الأفراد بعد استشهاد فريق، وموت فريق، وتغييب فريق، وعبر الامتناع عن تطبيق الأنظمة المقررة لإدارة المنظمة وفعالية أجهزتها، لمنع الانحرافات، ومن ذلك تمرير قرارات باطلة بنص ميثاقها، وبالتالي إلغاء الجزء الأهم من مواده.
٥- إن ما ألغي من الميثاق هو جوهر مسوّغات وجود المنظمة، وهو الهدف الذي تُعتبر المنظمة أداةً لتحقيقه.
٦- الأصل أن تكون المواد التي ألغيت، دائمة، غير قابلة للإلغاء ولا التعديل، على غرار ما تصنع دول “ديمقراطية” عندما تثبت نهج الديمقراطية وحقوق الإنسان الأساسية، في مواد لا تملك غالبية ولا أقلية في أي مجلس نيابي منتخب أن تمسها، فهي بنظر “الآباء الدستوريين” ما يقوم عليه وجود الدولة، وشبيه ذلك المواد الأساسية المتعلقة بالوطن التاريخي وتحريره عبر المقاومة المشروعة (وهي التي حذفت من الميثاق) فهي بمثابة ما تقوم عليه المنظمة من الأساس.
مغالطات الانحراف
لهذا نجد بصورة قاطعة أن الحملة “النارية” المضادة من جانب المسيطرين على منظمة التحرير الفلسطينية في الوقت الحاضر، أي بعد تفريغها من مضمون وجودها المشروع الضروري الفعال، ضدّ من دعا إلى تشكيل مرجعية جديدة جامعة لشعب فلسطين، إنما هي حملة “نارية” دفاعية عن مواقع سيطرتهم، وليس عن المنظمة نفسها ولا عن شعب فلسطين، وهو “المرجعية” لها.
إن الدفاع عن موقع السيطرة المحضة على أداةٍ تنظيميةٍ وُضعت صلاحيتها للتحرير في الأغلال، كي تكون قابلة للاستغلال من أجل ما يراه المسيطرون عليها فحسب، هو ما يجعل المدافعين عنها يتعمّدون “خلط الحابل بالنابل”، والنتيجة على ألسنتهم عبارة عن مغالطات كبرى، منها على سبيل المثال دون الحصر:
المغالطة الأولى: لا أحد ينتقد أو يرفض منظمة التحرير الفلسطينية كما تشكلت في الأساس وحسب ميثاقها الأصلي؛ فالرد على الناقدين والرافضين أنهم يتنكرون لتاريخ المنظمة وتاريخ النضال وتاريخ القضية، مجرد مغالطة كبرى لا قيمة لها على أرض الواقع.
المغالطة الثانية: النقد والرفض والدعوة إلى مرجعية جديدة، موقف موجّه ضد الانحراف الذي سيطر على منظمة التحرير الفلسطينية، بأساليب “انقلابية واستبدادية” بمعنى الكلمة، فهو في حصيلته موقف الدفاع عن المنظمة بميثاقها الأصيل ونشأتها الأولى، وهو الموقف البناء الهادف إلى تجديدها وإحيائها بإنقاذها من الانحراف، أما التسمية بعد ذلك فتصبح تحصيل حاصل. وبالمقابل: من يشنّ الحملة “النارية” على أصحاب ذلك الموقف، إنما يدافع بذلك عن انحرافه بالمنظمة وليس عن المنظمة، ويدافع عن حرصه على بقائها أداة لتنفيذ أغراضه وليس على الدور الأصيل لها أداة لتحقيق إرادة شعب فلسطين.
المغالطة الثالثة: إن المنظمة أداة لهدف، ليس لها صفة التقديس، ولا يعطيها صفةَ التقديس التشبثُ بانحرافها عن الثوابت والأهداف الأصيلة (التي حذفت من ميثاقها) والتي إن كان ينبغي “تقديس شيء” فهي التي تستحق ذلك، فحذفها هو الجدير بالإدانة، وهو الذي يفرض فرضا إعادة المنظمة إلى الطريق الصحيح أو إيجاد “أداة” بديلة لاستئناف الطريق الصحيح.
المغالطة الرابعة: إن من يطالب بتجديد المنظمة، أو يطالب بإيجاد مرجعية جامعة بديلا عنها أو إلى جانبها هو طرف أساسي موجود في ساحة القضية، وهو الذي يعمل من أجل تحرير فلسطين وشعبها بالمقاومة المشروعة دوليا ضد الاغتصاب والاحتلال والعدوان، أي هو الذي يعمل لتنفيذ الأهداف التي قامت من أجلها المنظمة في الأصل، وهو الذي يحتضنه شعب فلسطين، سواء استخرجنا الدليل على ذلك من التلاحم الشعبي مع المقاومة أو استخرجناه من صناديق الانتخاب، وما دام الشعب هو المرجعية لمنظمة التحرير الفلسطينية وسواها، فإن رفض مطالب التجديد أو إيجاد البديل، هو رفض الاحتكام إلى إرادة الشعب نفسه.
المغالطة الخامسة: ليس أصحاب هذا الموقف “طرفا معاديا لشعب فلسطين”، إنما الطرف المعادي هو العدو الإسرائيلي المحلي، والعدو الدولي الداعم له، ولا يخفى أن هذا “العدو” لشعب فلسطين وأرضها، بات يحتضن المنظمة بوضعها الحالي، أي يحتضن واقع الانحراف الذي انزلقت إليه بأساليب انقلابية استبدادية، ومن هنا فإن الحملة “النارية” دفاعا عن السيطرة عليها بأوضاع الانحراف القائمة، إنما هي حملة تصب في خدمة العدو أولا وأخيرا، مهما بلغت صياغتها من البراعة في المتاجرة بعناوين المصالحة والمصلحة والتاريخ المجيد.
الولاء لأي منظمة؟
أصبح ربط المصالحة الفلسطينية-الفلسطينية بشرط إعلان الولاء المطلق الواضح لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي على حالها عقبة كأداء في وجه المصالحة نفسها.
الولاء مفروض مطلوب لشعب فلسطين وارضها ولتحريره وتحريرها، وكل ولاء آخر هو فرع من أصل، ولهذا لا بد في مسألة “الولاء للمنظمة” من السؤال:
لأي منظمة يكون الولاء؟
– هل هو لمنظمة التحرير الفلسطينية كما تشكلت.. أم هو لما أصبحت عليه عبر الانحراف الانقلابي بها وعليها؟
– هل هو لمنظمة خاضعة لإرادة شعب يريد المقاومة ضد الاغتصاب والاحتلال والعدوان.. حتى يتم التحرير، أم هو لمنظمة أصبح عنوانها يوضع زورا واستغلالا فوق كل تراجع.. وتنازل.. وفوق كل تسليم بثوابت الشعب وقضيته وحقوقه وأهدافه الأصيلة؟
– هل هو للمنظمة التي أوجدت لتكون أداة مرحلية للمقاومة حتى التحرير.. أم هو للمنظمة التي يراد أن تُستخدم دون توكيل شعبي مشروع، أي دون الاستناد إلى المرجعية الوحيدة المشروعة، وهي شعب فلسطين في أرضه وفي الشتات، فأصبحت -رغم إرادة الشعب- مجرد هيكل تنظيمي منحرف يوفّر “آلية ختم وتوقيع” على مزيد من الوثائق الباطلة، التي تُعقد وتوقع لتزييف مشروعية ما (ظاهريا) لبقاء الاغتصاب، وتبرئة الاحتلال، وترسيخ الهيمنة، وتثبيت التهويد، وتأبيد التشريد؟
– هل الولاء المطلوب لمنظمة تتصرف -دون وجه حق مشروع- بالثوابت التاريخية والسياسية.. أم هو لمنظمة لا تملك أصلا حق التصرف بما لا تملك من ثوابت وحقوق تاريخية وسياسية، بل المفروض بها أن تنطلق منها دون تزييف، وأن تستمد منها مشروعية كل خطوة تتخذها نحو الأهداف الأصيلة؟
إذا قبلت فصائل المقاومة بمثل ذلك الولاء المنحرف لمنظمة منحرفة، فستسلك بذلك سبيل من انحرف بالمنظمة من قبل، وتسقط معه.
إن معيار صدق العمل “الوطني.. والعربي.. والإسلامي.. والإنساني.. والقانوني الدولي” لقضية فلسطين ومعيار مصداقية من يعمل، هو التمسك بالثوابت والحقوق التاريخية لا المختزلة، الأصيلة لا المزيفة، فمن يتشبث بها يمثل القضية وشعبها، وله مشروعية هذا التمثيل، عبر منظمة أو دون منظمة، أما المنظمات والأجهزة والهيئات وغيرها فجميعها أدوات، لا تعطي لأحد مشروعية أن يصنع ما يشاء، بل تكتسب المشروعية من إرادة الشعب، وممّن يمثل إرادة الشعب وحقه الثابت في تقرير مصيره، وحقه -ما دام يواجه الاغتصاب والاحتلال والعدوان والتشريد- في المقاومة إلى أن يتمكن من ممارسة حقه الثابت في تقرير مصيره.
هذا ما ينبغي أن يعلمه وأن يلتزم به على السواء كل من أراد التمسك بمنظمة التحرير الفلسطينية بعد إصلاحها أو من أراد الانطلاق من منظمة بديلة إذا استحال الإصلاح.
وأستودعكم الله وأستودعه كل مخلص في العمل لفلسطين ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب