أسماء – علي عزت بيجوفيتش عملاق في مسار التاريخ
كان علي عزت بيجوفيتش منعطفا ذا أبعاد كبيرة في تاريخ المسلمين وفي تاريخ البشرية
ــــــــــ
رحل المفكر الإسلامي، والمناضل المجاهد، والرئيس السياسي المحنك، علي عزت بيجوفيتش، رحمه الله، مخلفا وراءه سيرة حياة متميزة من بدايتها حتى نهايتها، حافلة بما صنع من أحداث، وبالتفاعل مع ما صنعه آخرون ومساعيهم للحيلولة دون قيام البوسنة والهرسك، بوجهها الإسلامي الذي أثبت وجوده، وحافظ على أصالته، رغم عشرات السنين من القمع الشيوعي المتواصل، ورغم الحرب الصربية الضارية، والتواطؤ الدولي حربا وسلما.
رحل بيجوفيتش يوم ١٩/ ١٠/ ٢٠٠٣م بهدوء، لم يشارك في تشييع جثمانه كثير من أولئك الذين كانوا يستقبلونه بالابتسامات في بلدانهم، ويحاولون التغطية بذلك على عدم الوقوف بجانبه وجانب شعبه في محنة حرب الإبادة التي لم تعرف لها أوروبا مثيلا في القرن الميلادي العشرين.
المفكر الفذ
محطات حياة بيجوفيتش التي تناقلها بعض وكالات الأنباء ووسائل الإعلام باتت معروفة، ابتداء من كتابه “البيان الإسلامي” الذي يمثل رمزا لمحاربة الفكر بالاعتقال والسجن، والذي يعطيه مكانه المشرف بين قائمة عدد كبير من المفكرين الإسلاميين الذين لوحقوا في بلدانهم وكرمتهم شعوبهم، وظن الطغاة أنهم بملاحقتهم أو القضاء عليهم يقضون على فكرهم فانتشر فكرهم، بينما لم يجد الطغاة لأنفسهم إلا أشد الصفحات سوادا في تاريخ بلدانهم. وكان كتابه المشهور الآخر “الإسلام بين الشرق والغرب” عنوانا آخر من العناوين التي تكشف عن زيف دعوات التسامح الفكري في الغرب على وجه التخصيص، عندما يدور الأمر حول الإسلام، ومكانته في مسيرة الحضارة البشرية، وأجوبته على الأمراض الاجتماعية والأزمات المستعصية داخل الغرب نفسه وفي أنحاء العالم.
وكان واضحا منذ بداية مسيرته السياسية أن بيجوفيتش لم يختر لنفسه هذا الطريق بقدر ما فرض عليه فرضا، فعندما حكم عليه بالسجن مرتين في عهد الرئيس اليوغوسلافي الأسبق تيتو، بسبب مواقفه الفكرية، كان لهذه الملاحقة الظالمة دور كبير في أن اسم بيجوفيتش ورفاقه أصبح على ألسنة المسلمين المضطهدين في أراضي الاتحاد اليوغوسلافي وفي قلوبهم في كل مكان، حتى إذا سقط العملاق الشيوعي المريض، وكان لا بد أن يسقط، وتساقطت معه الصروح الواهية التي أقامها، الشبيهة بالصروح التابعة للامبراطورية الأمريكية هذه الأيام، إذا بالشعب المسلم في البوسنة والهرسك، يجعل من المفكر الإسلامي قائده السياسي، ليتحرك به على طريق الألغام نحو الاستقلال، بحنكة تفوق بها على من كانت السياسة حرفتهم زمنا طويلا، فلم يغفل عن اتخاذ المواقف السياسية التي أثبتت أنه وشعبه لا يريدون حربا إنما فرضت عليهم فرضا، ولكنهم في الوقت نفسه لا يقبلون بمواقف العجز والتسليم والتنازل والتراجع كتلك التي يلجأ إليها كثير من القادة والزعماء السياسيين في معظم البلدان الإسلامية، التي تملك ما لم تملكه البوسنة والهرسك من الإمكانات، ولم تواجه مثل ما واجهته من حرب إبادة ضارية بأفتك الأسلحة، مع ممارسة أوضع تواطؤ دولي، لم يكن أحد يتصور وقوعه على امتداد ثلاثة أعوام كاملة، حرمت خلالها البوسنة والهرسك من السلاح ولم تحرم من الإرادة، وحرمت من الدعم المالي والمعنوي الخارجي ولم تمنع من الاستعداد للتضحية في القتال المفروض عليها فرضا، وحوصرت بمسلسل المؤتمرات الدولية وقطعت مؤتمرات الدول العربية والإسلامية عنها كل عون، باستثناء البيانات المهدئة لغضبة المسلمين وتضامنهم معها في كل مكان، حتى إذا عجزت الآلة الحربية الصربية المدعومة عن الوصول عبر المذابح الكبرى الشبيهة بما صنعه ويصنعه الإسرائيليون منذ وطأت أقدام اليهود المهاجرين أرض فلسطين إلى اليوم، إذا بحلف شمال الأطلسي يتحرك بزعم إنقاذ المسلمين وإذا بالولايات المتحدة الأمريكية من خلاله ومن ورائه ترمي بثقلها لإنهاء الحرب بحل وسطي لم يعد يمكن فيه منع قيام الدولة الوليدة في قلب البلقان، فكان الاكتفاء بترسيخ أوضاع من شأنها إذا تحققت الأهداف الأمريكية من ورائها أن تمنع وجود دولة بوسنية مستقلة قوية في قلب أوروبا، بغالبية مسلمة تفرض وجهها الحضاري على المنطقة عاجلا أو آجلا.
التحول الحتمي
كان ذلك ما وصفه بيجوفيتش رحمه الله بأنه سلام غير عادل، حقنا لدماء البوسنيين، ليبدأ من بعده مسيرة الصراع السياسي داخل بلده، وفي المحافل الدولية، ولم يصل إلى ذلك إلا بعد أن أثبتت سنوات الحرب من قبل، له ولشعبه، أن الدول الإسلامية التي كان ينتظر منها دعما سياسيا أو غير سياسي، لم تحقق ذلك الأمل، بل كانت أقرب إلى أن تقدم النصائح الفاسدة للبوسنيين وزعيمهم المناضل، أن يسلكوا مثلها طريق الانضواء تحت مظلة التبعية للقوة الأمريكية، وأن يتخلوا عن تطلعهم إلى التحرر والعزة والكرامة.
لقد كان بيجوفيتش رحمه الله عملاقا في عالم مليء بالأقزام، مناضلا في عصر يراد فيه ألا يكون رفع السلاح إلا من جانب من يعتدون على الإنسان وحرياته وحقوقه في كل مكان، مفكرا سياسيا في حقبة كثر فيها أولئك الذين لا يعرفون من السياسة إلا أن يسجنوا الفكر وراء القضبان، وأن يدوسوا على كرامة الإنسان، زعيما وصل إلى الذروة وفق إرادة شعبه بين زعماء لا يستطيعون الاحتفاظ بكراسيهم إلا من خلال قهر إرادة شعوبهم.
رحل بيجوفيتش، وسيخلد التاريخ اسمه في أنصع صفحاته، ولا يأبه بأولئك جميعا، وسيترك أثره في مستقبل بلده ومنطقة البلقان وأوروبا وعلى المستوى الإسلامي، رغم كل من حاول أن يمنع ذلك الأثر من النماء والامتداد، فالحق لا يموت، ولا يوأد، وكما صنع على طريقه رجالا من أمثال بيجوفيتش، وشعوبا من مثل شعب البوسنة والهرسك، فلسوف يصنع المزيد من الزعماء الأفذاذ، وسيحيي عزيمة المزيد من الشعوب المنكوبة حتى الآن بما أفرزه القرن الميلادي العشرون، على صعيد الاستبداد المحلي في كل بلد، وعلى صعيد الاستبداد الدولي الذي يريد أن يجر البشرية إلى الهاوية.
كان بيجوفيتش يمثل منعطفا لا يستهان بشأنه ومفعوله وأبعاده في تاريخ المسلمين وفي تاريخ البشرية، وإن من السنن التاريخية أن التحولات الكبرى التي تبدأ بأفراد من أمثال بيجوفيتش، لا بد وأن تصل إلى غايتها، وإن بدا الزمن طويلا على من يستعجلون النصر، فالقضية قضية أجيال، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ويعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون.
نبيل شبيب