كلمة وفاء – عدنان وحود العالِم الإنسان
أبرز ما سيبقى مميزا لشخصية العالم السوري الفذ – وما أكثر ما تتميز به – هو الجانب الإنساني
ــــــــــ
يشمل النص التالي بعد مقدمة قصيرة موجز موضوعين أحدهما “عدنان وحود العالم الإنسان” نشرته عام ٢٠٠٤م مجلة “القافلة” الثقافية التي تصدرها شركة آرامكو السعودية، والثاني حول بعض إنجازاته واختراعاته وبعض جوانب حياته، وقد نشر أواخر عام ٢٠٠٨م في موقع “إسلام أون لاين، ثم إضافة مقتضبة في الختام تحت عنوان “بصمات عدنان في شمال سورية”.
* * *
أما “العالم.. أو المخترع” فتكفي الإشارة إلى أن في تركيا (التي تزامن وجودي فيها مع مراجعة هذا الموضوع قبل نشره في مداد القلم) عددا كبيرا من آلات النسيج التي تحمل بصمات اختراعات د. عدنان، وهو ما يشمل إحدى عشرة شركة على الأقل في قطاعات متعددة من عالم صناعة النسيج، مثل صناعة الستائر والديكور، وصناعة الأقمشة الزجاجية، وصناعة المناشف والبشاكير، وصناعة الأقمشة الخاصة بالاستخدامات الصناعية.. وغيرها، والواقع أن هذا يسري على عدد كبير من بلدان العالم وليس على تركيا فقط.
وأما “عدنان الإنسان”.. فهذا بعض ما يمكن أن يكتشفه أي “مشاهد” للحلقة المخصصة لتعريف موجز به في برنامج (مغتربون) على فضائية الجزيرة (اليوم الأربعاء ٢٦ / ٧ / ٢٠١٧م، يوم تحميل هذا الموضوع في مداد القلم).. أما من يريد التعرف على عدنان الإنسان تعرفا أعمق، فعليه أن يلقاه وجها لوجه، ولن تكفيه لذلك بضع دقائق، بل إن بضعة عقود لا تكفي، كما يشهد كاتب هذه السطور وتشهد عشرته الطويلة للأخ عدنان.
إنجازات متواصلة
أعترف – مع الحرص على أمانة الكلمة – أنني لست كاتبا محايدا عندما أطلق العنان للقلم ليكتب عن عدنان وحود، فهو من أعرفه أخا وصديقا عبر أكثر من أربعة عقود، مثلما عرفته باسم “الدكتور المهندس عدنان وحود”، المتخصص في صناعة آلات النسيج، وقد أصبح عالما فذا وباحثا ناجحا ومخترعا رفيع المستوى ومحاضرا هادئا متميزا، يحتل مكانه على رأس قسم البحوث والتطوير في شركة “دورنييه” الألمانية، ذات المكانة المتقدمة بين كبريات شركات صناعة آلات النسيج في العالم، وكان يمثلها في المؤتمرات التخصصية في الولايات المتحدة الأمريكية والصين الشعبية، في دول أمريكا الجنوبية ودول الاتحاد الأوروبي، وهو إلى جانب ذلك المواطن المرموقة مكانته، المحبوبة شخصيته، في مدينة “لينداو” على ضفاف “بودن زي” في الغابة السوداء على سفوح جبال الألب، حيث كان من أنشطته المبكرة خارج نطاق عمله الرسمي، إقامة مسجد، والمشاركة بمحاضرات عديدة في إطار حوار ناجح بين المسلمين والمسيحيين أسس له بمشاركة هيئات رسمية وكنسية، وتدعمه زوجه في هذه الأنشطة، مثلما كانت إلى جانبه في بدايات حياته الدراسية في مدينة آخن على ملتقى الحدود الألمانية – البلجيكية – الهولندية.
هناك في آخن، عندما احتفل “الاتحاد العالمي للطلبة المسلمين” مؤخرا (يوم ١٢ / ١٢ / ٢٠٠٨م) بمرور خمسين عاما على تأسيسه، كان على عدنان أن يأتي من مدينته على بعد خمسمائة كيلو متر تقريبا، ليلقي كلمة باسم الاتحاد استعرض فيها ما قدمه المعهد العالي للتقنية في آخن وبلدية المدينة للطلبة المسلمين فيها آنذاك، فتمكنوا من إقامة مسجد بلال الناشط كمركز إسلامي ثقافي إلى اليوم، كما استعرض إنجازات عدد من الخريجين بعد عودتهم إلى بلادهم، حيث أشرفوا على تنفيذ مشاريع كبيرة، فكان حديثه مثالا يشجع على رعاية العلاقة الإيجابية بين المؤسسات الألمانية و”الوافدين” من بلدان عربية وإسلامية، وهذا ما وجد إعجابا وترحابا كبيرين من الحضور، وفيهم عدد من كبار المسؤولين من المدينة والمعهد العالي الجامعي والهيئات الكنسية والحزبية، إضافة إلى جمهور من المواطنين من أهل المدينة المسيحيين والمسلمين.
هذا دأبه أيضا هناك في لينداو حيث تلتقي حدود ألمانيا والنمسا وسويسرا وذاك دأبه من قبل حيث درس ونشط في مدينة آخن حيث تلتقي حدود ألمانيا وهولندا وبلجيكا.
هناك تعود بي الذاكرة عقودا إلى الوراء، إلى أيام معرفتي الأولى به، طالبا في الجامعة، يعمل ليؤمن معيشته، ثم لنفسه وأسرته، وكان أوّل ما عمل به آنذاك توزيع بعض المطبوعات على بيوت مدينة آخن قبل شروق الشمس، ثم اشتغل “ضاربا على الآلة الكاتبة” لنصوص مقالات مجلة صغيرة لقاء أجر بسيط، إلى أن أنهى دراسته الجامعية، واقترن حصوله على الشهادة بتسجيل أول اختراع ابتكره في صناعة الآلات، وبعد فترة وجيزة أخذ مكانه للعمل في شركة “دورنييه” جنوب ألمانيا، فتمسكت به كنزا علميا ثمينا، واقترن حصوله على درجة الدكتوراة عام ١٩٨٧م باستلامه رئاسة قسم الأبحاث والتطوير في الشركة، وأصبح عدد الاختراعات التي سجلت له على المستويات العالمية والأوروبية والألمانية منذ ذلك الحين أكثر من سبعين اختراعا، أحدث بعضها ثورة حقيقية في صناعة المنسوجات، وجعل بصماته تنتشر مع آلات الشركة المصدرة إلى القارات الخمس في أنحاء العالم.
بعض التكريم والتقدير
وقد شهدت لينداو يوم ١٩ / ٥ / ٢٠٠٤م احتفالا كبيرا لتكريم وحود والشركة التي يرأس قسم الأبحاث والتطوير فيها، بوسام الإبداع لعام ٢٠٠٣م للشركة.
وكان مما كتبته صحيفة “لينداور تسايتونج” بقلم بينيديكتا روتشتاين، في اليوم التالي للاحتفال، قولها عن د. وحّود: (موهبة الابتكار والاختراع لديه تضمن الدخل المادي لأسـر عديدة في لينداو، ومن دونه لم يكن ليوجد عدد كبير من أماكن العمل، كما يقول رئيس الشركة بيتر دورنييه، الذي يذكر كلمات أبيه أنّ النجاح يتحقّق عبر التقدّم التقني، ويضيف أنّ “وحّود كان من وراء قدرتنا على صنع ما يسرّنا، وهو أن نفاجئ المنافسين والزبائن باستمرار بالجديد من المبتكرات والحلول وبراءات الاختراع”)
وكان من المتحدّثين في الاحتفال أيضا بروفيسور فولفهورست، المدير العام السابق لمعهد تقنية النسيج في الجامعة التقنية بمدينة آخن، حيث درس الطالب عدنان وحّود، فكشف فولفهورست للحضور عن جانب من شخصية العالم السوري وحياته، لا يعتبر مألوفا في ألمانيا، فسيرته العلمية ومكان عمله المرموق لم يكن من قبيل ما يتناقله الأبناء عن الأحفاد في عالم الاقتصاد الصناعي، بل كان أحد أولاد أسرة فقيرة يشتغل معيلها في دمشق على آلة “النول العربي” اليدوية القديمة للنسيج، وكان على ابنه الصغير عدنان أن يعمل أيضا ليشارك في تأمين دخل الأسرة، وهناك كانت البداية، التي أوجدت لديه لاحقا، أي أثناء دراسته في آخن، رغبة جامحة في التعلّم باهتمام كبير، فكان ذلك أساس ما ارتقى له من بعد. ولم يكد الطالب الشابّ يختم دراسته حتى أعلنت شركة سويسرية رغبتها في الحصول على أوّل اختراع أنجزه، ثم توالى بعدها تسجيل براءات الاختراعات التي حقّقها حتى تجاوزت السبعين في هذه الأثناء.
وقال يوآخيم كوسلوفسكي، الناشر في مجموعة دور نشر اختصاصية، إنّ صناعة النسيج تسري في عروق د. وحّود مع دمائه، وقد عرف خبايا الصنعة وهو في سنّ الطفولة، واستطاع أن يربط بين خبرته العملية تلك، وبين الدراسة النظرية ربطا نموذجيا ارتقى به إلى مكانة الريادة، وأمثاله هم “من نحتاج إليهم”، على حدّ تعبير كوسلوفسكي.
بينما أكّد د. عدنان وحّود نفسه في كلمته في الاحتفال أنّه ينقل ما تلقّاه من تكريم إلى العاملين معه في قسم الأبحاث والتطوير في شركة دورنييه، مشيرا إلى مساعدتهم الدائمة للتوصل إلى ما تحقق من إنجازات، وقال: “إنّ من الصعوبة بمكان الحفاظ على نظرة تستوعب مجرى عملية النسيج الشاملة لحركةِ ما يتراوح بين ستة وتسعة آلاف خيط نسيجي، فإذا بدأ جذبها طولا وعرضا، ثم بدأت تدور مع الآلة، يجد المرء نفسه وكأنه في غابة كثيفة.. ولكنّ أحد العاملين معي قال لي ذات مرة: لا تخشَ من ذلك ولا تغفل أنّ معك في هذه الغابة عددا كبيرا من القرود يساعدونك!”.. وسرت هذه العبارة مثلا وجعلت جريدة “لينداور تسايتونج” منها عنوانا لمقالها عن الاحتفال بالجائزة.
بعض العطاء والإنجاز
كان لأحد اختراعات عدنان وحود مؤخرا (ساعة كتابة هذه السطور مطلع ٢٠٠٤م) أهمية بالغة، لفتت الأنظار إليه في معرض “إيتما – ITMA” الاختصاصي الكبير، أثناء دورته الأخيرة في تشرين أول / أكتوبر عام ٢٠٠٣م في بريطانيا، وقد حمل الاختراع التطويري الجديد عنوان نظام “لينو السهل”، وتميّز – كما يقول اسمه – بتسهيل عملية الإنتاج إلى جانب ميزات عديدة أخرى، لتخفيض التكاليف ومضاعفة المردود، فأصبحت آلة النسيج بعد تطويرها وفق النظام الجديد، تعطي أضعاف إنتاجها السابق دفعة واحدة، مع اختصار استهلاك المواد الأولية، ورفع مستوى نوعية الخيوط النسيجية فيما يُسمّى “نسيج الشبيكة”، وله شبكة متينة ثابتة للغاية، تصلح للاستخدام في إنتاج الستائر، وأرضية تثبيت السجّاد وغيره من أنواع الكسوة، كما تستخدم في صناعة الأقمشة المكوّنة من الألياف الزجاجية لواجهات الأبنية، وغير ذلك من المجالات الصناعية للأنسجة.
وفي مقدّمة ما لفت أنظار “أهل المصلحة” إلى أهمية الاختراع الجديد، أنّ الآلات التي كانت تعمل في إنتاج هذا النسيج دون أن تصل إلى طاقتها القصوى بسبب صعوبة إنتاجه، أصبحت قادرة على استنفاذ تلك الطاقة بمعدل مائة في المائة، دون صيانة إضافية للآلات. وتجتمع الخصائص المذكورة وسواها لتجعل خبراء هذا القطاع الصناعي يتحدثون عن الاختراع الجديد كمدخل إلى قفزة نوعية “تفتح الآفاق أمام عصر جديد في صناعة النسيج” على حد تعبير أحدهم أثناء الاحتفال بمنح جائزة المخترعين للدكتور وحّود، وجائزة الإبداع للشركة، بحضور عدد من كبار المدعوّين من القطاعات الصناعية والسياسية والإعلامية.
بين الأمس واليوم
أما البدايات الأولى فكانت في فترة الطفولة في دمشق حيث ولد عدنان في أيار/ مايو عام ١٩٥١م، في أسرة فقيرة كان سادس أطفالها الثمانية، وكان منذ نشأته الأولى يرافق أباه وهو يعمل على نول عربي يدوي في صناعة النسيج في دمشق، وعن تلك الفترة يتحدث المخترع الكبير في سيرته الذاتية التي نشرها في كتيب أصدره عام ٢٠٠٣م باللغتين العربية والألمانية تحت عنوان “عالم من دمشق” فيذكر شغفه الكبير بمدى الانسجام ما بين حواس السمع والبصر وحركات اليدين والقدمين معا، لتكون الحصيلة قماشا منسوجا من خيوط كان يزيد تعدادها على الألفين، ومنذ ذلك الحين كان عدنان، الفتى الناشئ، يتساءل مفكّرا عن “آلة النسيج” وكيفية عملها، بعد أن انتشرت آنذاك في بعض المصانع السورية، وهذا ما رافقه في مدينة آخن في المعهد العالي للتقنية حيث حصل على شهادة الماجستير عام ١٩٨٠م.
بصمات عدنان في شمال سورية
عايشت في الأعوام الماضية عبر معرفتي المباشرة بعدنان جانبا قد لا يعرفه إلا قليلون، هي رغبته الجارفة ألا يبقى بإنجازاته موضع التقدير عالميا بعيدا عن خدمة بلاده في ميدان تخصصه، وهو منذ سنوات عديدة من قبل الثورات الشعبية أشد ما يكون حرصا على ذلك، وقد تردد أكثر من مرة على مصر وساهم مباشرة في طرح أحدث التصورات التطبيقية للنهوض بصناعة المنسوجات فيها وتطويرها، كما تردد آنذاك أكثر من مرة في العام الواحد على موطنه الأصلي سورية، وعمل دائبا للغرض نفسه.
ولكن.. جرت الأحداث في سورية في اتجاهات مؤلمة نعايشها عموما هذه الأيام، بينما يعايشها عدنان وحود بطريقته “العملية” عبر نشاطه المبكر الهادف لإقامة مراكز طبية في شمال سورية، والتي يتفقدها بنفسه ويزودها باحتياجاتها في جولات دورية عابرة للحدود مرة كل شهرين، وأضاف إليها أكثر من مشروع، في المناسبات كمشروع الأضاحي، ودون ارتباط بمناسبة مباشرة مثل كفالة “الأسر” التي تضم أيتاما، ممن فقدوا آباءهم، أو الآباء والأمهات.
ويتميز هذا العطاء في عالم “الإغاثة” الذي نعرفه بدرجة عالية من الدقة والضبط والشفافية، مما ساهم إلى حد بعيد في توسيع نطاقه، فبعد أن كانت البداية بتمويل ذاتي في الدرجة الأولى، أصبحت نسبة عالية من الاحتياجات المالية تجد تغطيتها من تبرعات شعبية وشبه رسمية في ألمانيا في الدرجة الأولى، لا سيما وأن عددا من وسائل الإعلام نشر تقارير مصورة ومقابلات مباشرة ومعلومات موثقة حول المنطقة التي تشملها هذه الأنشطة، وليس حول الجانب الإغاثي فقط.
نبيل شبيب