كلمة وفاء – رياج ططري بكري رحمه الله

أخ لا أتردد عن وصفه بصاحب النفسية الصافية والسلوك المهذب على امتداد عشرات السنين

80
رياج ططري بكري

ــــــــــ

لا أدري متى التقيته للمرة الأولى وأين، إنما لا شك أن ذلك كان في مطالع السبعينات من القرن الميلادي العشرين، فالأخ رياج ططري بكري، المعروف بكنيته “أبو إسلام” قدم إلى أسبانيا من مسقط رأسه (١٩٤٨م) في دمشق عام ١٩٧٠م، وكانت تلك بداية انتشار النشاط الإسلامي في أوروبا انطلاقا من مسجد بلال في آخن، لا سيما عن طريق الندوة الشهرية ثم مجلة “الرائد” وكانتا تستقطبان جيل الشبيبة المسلم، لا سيما من طلاب العلم مثل الأخ رياج آنذاك وقد درس الطب في شمال إسبانيا، إنما استقر لاحقا في مدريد حيث كان يلبي شعوره بالمسؤولية عن العمل لصالح الإسلام والمسلمين في إسبانيا وفي أوروبا منذ الفترة الأولى من غربته، وهو ما مارسه من خلال “الجمعية الإسلامية في إسبانيا” ولاحقا عبر اتحاد الجمعيات الإسلامية في إسبانيا، ثم منذ ١٩٩٢م عبر “المفوضية الإسلامية” التي شارك في رئاستها حتى وفاته رحمه الله، وكان من خلالها الجهة الرسمية التي تمثل المسلمين في إسبانيا وعلى المستوى الأوروبي، للحصول على حقوقهم لا سيما في ميدان التعليم المدرسي وبناء المساجد والتقنين.
لعل أهم ما ميزه في طريقه الإسلامي في المغترب أنه سبق سواه من “الوافدين” أشواطا وتبنى رؤية ظهرت لاحقا من بعده وانتشرت في أوساط المسلمين ذوي الأصول الأوروبية وكذلك من الجيل الثاني والثالث بمعني أولاد الوافدين الأوائل وأحفادهم، وهي رؤية تعتمد على أن يتعامل المسلمون مع المجتمعات حولهم باعتبارهم جزءا منها، لهم حقوقهم الدستورية وعليهم واجباتهم الدستورية، ومن ذلك عدم مخالفة الأحكام الثابتة عقديا انطلاقا من إسلامهم، باعتبارهم مواطنين وليس وافدين وأقليات وجاليات وما شابه ذلك من مسميات كانت أكثر انتشارا من قبل.
وقد دفع رياج ثمن هذه الرؤية المبكرة من خلال ما تعرض له من حملات مضادة، بعضها من أوساط “إسلامية” ووصل بعضها إلى مستوى اتهامات متعددة الأشكال والألوان، فكان سلوكه سلوك سكينة وهدوء وحسن معاملة مع الإصرار التام على المسار الذي شقه لنفسه وللمسلمين، لا سيما من الأجيال التالية، بحيث بات تعليم الإسلام مثلا جزءا من المناهج المعترف بها، وحقا من حقوق “المواطنة” وليس منحة تقدمها دول “مضيفة”.

. . .

لقد بلغني هذا اليوم خبر وفاته وسارعت إلى القلم رغم إدراكي أنني لا أفيه ولو نزرا يسيرا مما يستحقه، ومن ذلك أنني لا أستطيع في إطار كلمات على عجالة أن أسترجع يوم اللقاء الأول معه، هل كان في ندوة شهرية أو مؤتمر سنوي في ألمانيا أم كان عبر مشاركة في أحد المؤتمرات الطلابية الإسلامية في إسبانيا، حيث كنت أشارك في بعضها غالبا في لقاءات تتناول قضية فلسطين، ولكن أذكر -وكأنه أمامي في هذه اللحظات- بسمته المتميزة بعاطفة قلبية تؤثر على كل من يراها، ولا أذكر أنها فارقت وجهه مرة واحدة كلما التقيت به من بعد، وقد التقيت به عشرات المرات. ولم يخلُ بعضها من خلاف في الرأي حول قضية ما، ولكن بقدر ما كنت حادا (وليس هذا سلوكا مستحسنا) بقدر ما كان يحتفظ بهدوئه (وذاك هو السلوك المستحسن) دون أن يتخلّى عن رأيه ما دام مقتنعا به.
وفي مقدمة اللقاءات التي أذكرها معه، المؤتمر السنوي في أسبانيا أواخر تموز / يوليو ١٩٨٠م وكان مخصصا لمتابعة قضية سورية على خلفية أحداث الثمانينات، وكنت في إسبانيا لغرض آخر فطلب المسؤولون عن المؤتمر -وهو أحدهم- أن أشارك في كلمة عن القضية، لا سيما وأن المؤتمر تعرض لحملة مغرضة استهدفت كثيرا من الشباب المشاركين فيه. وكان أبو إسلام يفضل الأسلوب الهادئ في التعامل مع المشكلة بينما غلب الرأي على أن تكون المواجهة “الكلامية” شديدة لتتناسب مع الانزعاج من تلك الحملة وسط المشاعر المحترقة عموما نتيجة ما بدأ يرد حول مذبحة سجن تدمر التي ارتكبتها سرايا الدفاع بتوجيه رفعت الأسد في تلك الأيام.

ومضت الأعوام وكان اللقاء الأخير مع “أبو إسلام” في مقر الجمعية الإسلامية في إسبانيا، حيث دار الحديث حول دور الشباب، على خلفية كلمة ألقيتها في لقاء شبابي إسلامي في مدريد.
رحم الله الأخ الدكتور رياج ططري، وكتب له منزلة الشهداء وفق ما ورد في الحديث الشريف عمن يقضي ضحية وباء، كوباء كورونا الذي نعايش ويلاته، وأسأل الله لذويه ومحبيه الصبر والسلوان، وأن يكون لهم نصيب من السكينة التي تميز بها الفقيد في أشد الظروف صعوبة على أي إنسان.

نبيل شبيب