رأي – العنصر الحضاري في الربيع العربي

نحن نعيش خارج قوسين من منطق عجلة التاريخ الواحدة ونتصرف في زنازن متفرقة نتوهم أنها أحداث قائمة بذاتها

68
أعلام الثورات الشعبية

ــــــــــ

في فلسطين والعراق، في مصر وسورية، في سائر الجولات الأخرى من قبل الغزو السوفييتي لأفغانستان إلى ما بعد الأزمة الخليجية، يزداد ظهور عنصر الصراع الحضاري في حركة عجلة التاريخ، ما بين إرادة شعبية متوثبة للتحرر من قضبان التبعية والهيمنة وبين همجية عدوانية “تدافع” عن بقايا المنظومة القيمية المهترئة في حضارة مادية، يطلق عليها المفكرون من داخل حدود سيطرتها وصف “الليبرالية المتوحشة” حينا، و”هوة الفقر والثراء” حينا آخر، وهكذا مما يكشف عن محورين اثنين للعلاقة العرجاء بين شعوب العالم لصالح بضعة دول تطلق على نفسها وصف المجتمع الدولي، وللعلاقة العرجاء بين الفئات الشعبية داخل كل دولة على حدة يزداد فيها الخلل بين فئة مسيطرة تستغل وفئات شبه مستعبدة ضحية الاستغلال.

إن جوهر التغيرات التاريخية الكبرى عالميا هو عنصر صراع حضاري حول منظومة قيم وتبدل من يمسك بزمام التطورات العلمية والتقنية والمادية في نهاية كل جولة كبرى، وهذا من قبل انهيار الامبراطوريات الرومانية والإغريقية والفارسية القديمة، وعبر محطات انهيار آخر مراكز الخلافة الإسلامية في الأندلس غربا ثم في الدولة العثمانية شرقا، وحتى اليوم.
نحن نعيش خارج قوسين من منطق عجلة التاريخ الواحدة ونتصرف في زنازن متفرقة نتوهم أنها أحداث قائمة بذاتها.

لا نزال في تداعيات الثورات الشعبية فيما سمّي الربيع العربي نعايش مرحلة من مراحل الطريق، وهو ما يراه الغرب الأمريكي بمنظور صراع الحضارات وفق مخاوف صموئيل هينينجتون، ويراه الشرق الروسي بمنظور مطامح القياصرة والمياه الدافئة، ويراه الغرب الأوروبي بمنظور شباك “المركز والأطراف”، وهكذا مع الصين والهند في توثب تطلعاتهما نحو القمة، بينما لا نزال ننظر إلى مجرى التطورات والأحداث متشبثين بمواقعنا في القاع، عبر التجزئة القطرية جغرافيا، واللامنهجية توجّها.
لا نزال نفرق أنفسنا بأنفسنا في ألف شُعب وشُعب، من خلال التعامل “التجزيئي” مع مسلسل الأحداث مع تسمية قضيتنا في فلسطين فلسطينية وفي العراق عراقية وفي مصر مصرية وفي الخليج خليجية وهكذا ما بين المغرب عبر الشام حتى إندونيسيا، ونصنع شبيه ذلك مع مسلسل تشغيل صراعات قديمة وجديدة، حقيقية ومفتعلة، عقدية بنكهة علمانية، وطائفية بصبغة إيرانية، وقومية بحقوق كردية أو أمازيغية، ولا نكاد نستوعب استحالة أن يتجاور النصر المفترض لصالح أي فريق في أي محور من هذه المحاور على حدة، مع الهزيمة في محور آخر هو بمثابة المرآة المعكوسة للأول، فهي جميعا محاور في نسيج واحد ممزق، لا يمكن أن “نعيش” في ظله إلا “تعايشا” يتجاوز الحدود وعوامل التفرقة وترسّخه قواسم مشتركة في منظومة قيمية حضارية، موجودة.. ونهملها، أو نوظفها في الصراع بدلا من التلاقي، ولإراقة الدماء في تربة توارث الأحقاد بدلا من استصلاح تربة المصلحة المشتركة.
مرة أخرى: نحن نعيش خارج قوسين من منطق عجلة التاريخ الواحدة ونتصرف في زنازن متفرقة نتوهم أنها أحداث قائمة بذاتها.

لا يصنع شبيه ذلك المتصرّفون بقضايانا، وبعضنا يستنجد بعدوانيتهم الهمجية ضدنا!
عندما انطلقت موجة التمرد في عدد من بلدان المعسكر الشرقي الشيوعي، أمكن استيعابها في “معبد لعبة الأمم” بترويضها تحت عناوين انسياح “الرأسمالية والديمقراطية” على الطريقة الغربية شرقا.
ولكن عندما انطلقت ثورات شعبية للتحرر في قلب المنطقة العربية والإسلامية، والتي يستخدمون لترسيخ تمزيقها تسميات من قبيل الشرق الأقصى والأوسط والأدنى وشمال إفريقية، لم يمكن استيعابها وترويضها حتى الآن، وهذا رغم ارتفاع منسوب الهمجية في التحرك المضاد للثورات ولطاقة الإرادة الشعبية المتفجرة من خلالها، أهم الأسباب هنا هو صلابة إرادة الشعوب.

المخرج من الزنازن الانفرادية إلى الأفق الحضاري التاريخي الواحد المشترك هو بوابة التغيير التي فتحتها الثورات الشعبية، وقد بدأت آثار ذلك بالتجلي في ارتفاع نسبي لمستوى الوعي لدى قطاعات يمتد توزعها جغرافيا ويزداد عددها من قلب جيل صناعة الثورات، وهو الوعي المتنامي بمجرى الأحداث وحقيقة القوى الصانعة للقرار في توجيهها، محليا في كل قطر على حدة وإقليميا ودوليا.

لن تعود عجلة التاريخ إلى الوراء، ولكن ارتباطنا نحن بها – بغض النظر عن جيل قادم – وبالتحرك الجماعي معها، رهن بالتركيز على هذا الوعي والقواسم المشتركة التي يقوم عليها، وهذا في مقدمة مهام أصحاب الفكر المتجدد في المراكز الجديدة للبحوث والدراسات، التي ولدت في رحم الثورات، وآنذاك تصبح مراكز بحوث ودراسات حقا، بقدر ما تستشرف معالم المستقبل، وما تستخلص من نقاط الثقل التي يجب التركيز عليها، في مسيرة الوعي والتغيير، والكفاءة والتأهيل، والتخصص والتشبيك، والتعاون والتنسيق.

المهمة كبيرة، وتتطلب بذل جهود متميزة كبيرة، ولكن الرسالة الملقاة على عاتقنا كبيرة أيضا، وجليلة لا نرتفع دون أدائها بحقها إلى مستوى شعوبنا وبلادنا وعالمنا وعصرنا ومستقبل الإنسان وحضارته في عالمنا وعصرنا.

نبيل شبيب