ذاكرة – د. محمد الهواري رحمه الله
لله درك يا أبا محمود رحمك الله وغفر لك.. أتعبت بما كنت تصنع من لم يتجاوز سن الشباب بعد، فكيف بالكهول والشيوخ
ــــــــــ
قبل سنوات.. علمت هاتفيا من بعض الإخوة في مدينة آخن، أن الأخ الكبير الأستاذ الدكتور محمد الهواري أدخل المستشفى، وأن التشخيص كشف عن إصابة في كليتيه، سترغمه على عملية “غسيل الدم” خمس مرات يوميا في قادم الأيام، وكنت أعلم أن هذه العملية ليست من الأمور العلاجية البسيطة، وغالبا ما تجري في المستشفى، وإن وجدت آليات حديثة لإجرائها في البيت.
بعد بضعة أيام أردت زيارة الأخ الكبير في آخن، فأعددت نفسي للسفر، وكل انتقال من مدينة إلى مدينة وإن كانت المسافة لا تزيد على ١٠٠ كيلو متر، هو سفر، والسفر مشقة، فنأخذ بقاعدة المشقة تجلب التيسير، كما نردد لأنفسنا دوما.. واتصلت هاتفيا لأذكر أنني أنوي القدوم، وفوجئت بإخباري أن أبا محمود “مسافر”.. لحضور مؤتمر في مصر كان قد التزم بحضوره.
مسافر! وماذا عن عملية الغسيل المضنية.. اليومية؟ الأجهزة تنتقل معه، ووزنها مع السائل المستخدم في هذه الحالات زهاء ٤٠ كيلو جراما.
قلت بيني وبين نفسي.. لعل التزامه بحضور المؤتمر ودوره فيه – وكان دوره رائدا وأساسيا في كافة المؤتمرات التي يدعى إليها، فيلبي ويعدّ نفسه ويشارك ويقدم الجديد باستمرار – لعل هذا الالتزام جعله يتحدى مشقة المرض مع مشقة السفر.
ومضت أعوام، وناهز محمد الهواري رحمه الله أيام اندلاع الثورات الشعبية العربية الثمانين حولا من عمره، وهي التي قال بشأنها زهير بن أبي سلمى: “ومن يعش ثمانين حولا لا أبالك يسأم”.. وكنت في زيارة للدوحة في قطر في مطالع الثورة في سورية، وفوجئت بالأستاذين الفاضلين إسماعيل الكيلاني وعمر عبيدة حسنة حفظهما الله، يرويان لي أن الأخ الكبير أبا محمود كان قبل يومين في قطر، ووقع خطأ في نقل الأجهزة لعملية الغسيل في الطائرة، فتعرضت حياته لخطر كبير، أمكن تداركه من جانب الأطباء في لحظة حرجة.
لله درك يا أبا محمود رحمك الله وغفر لك.. أتعبت بما كنت تصنع من لم يتجاوز سن الشباب بعد، فكيف بالكهول، وأنت لا تكف عن العمل والسفر ما بين السبعين والثمانين على تلك الشاكلة، وحتى وفاتك عن أربع وثمانين عاما، يوم ٦ / ١ / ٢٠١٥م في مدينة آخن.. على بعد يتجاوز ٤٥٠٠ كيلو متر من حي المهاجرين في دمشق، حيث عرفناك لأول مرة.. وفي جامعة دمشق، حيث بلغت من المكانة العلمية ما بلغت فيها، جنبا إلى جنب مع مكانتك الإسلامية في ميادين العلم والدعوة والحركة.
كانت المعرفة بالأخ الكبير في دمشق محدودة، فقد غادرت دمشق لألمانيا بقصد الدراسة، قبل بلوغ الثامنة عشرة من العمر، فلم أتعرف على من أصبح من بعد أستاذا في كلية الصيدلة، ومؤسسا للمختبرات فيها وفي مستشفى المواساة، كذلك لم أتعرف بعد القدوم إلى ألمانيا عام ١٩٦٥م عليه وقد سبق إلى التخصص في جامعة بروكسل في بلجيكا المجاورة، وحصل فيها على أكثر من شهادة تخصص، ومنها الدكتوراة في العلوم الصيدلانية، ولكن علمت منذ الأعوام الأولى أنه كان في مقدمة من عملوا على تأسيس “اتحاد الطلبة المسلمين في أوروبا”، وكان بعضهم ينتقل على الدراجة النارية من مدينة إلى مدينة لجمع كلمة أوائل الطلبة المسلمين في الديار الأوروبية للمشاركة في تلك المبادرة، وكان لهذا الاتحاد -بالتعاون مع المركز الإسلامي في آخن / مسجد بلال- دور يعرفه الكثيرون في ترشيد الصحوة الإسلامية التي انتشرت في البلدان الأوروبية مواكبة لانتشارها في البلدان الإسلامية، خلال السبعينات والثمانينات من القرن الميلادي العشرين، فكان للرواد الأوائل -ومنهم الفقيد الغالي والأخ الكبير أبو محمود- دور إطلاق الطاقة الشبابية الإسلامية من عقالها منذ ذلك الحين.
ولكن الدكتور المتخصص في الصيدلة والكيمياء محمد الهواري رحمه الله، كان حريصا عل العودة إلى دمشق ليؤدي دوره في وطنه، فأصبح أستاذا جامعيا، ورائدا في تأسيس المختبرات التحليلية في سورية، بين عامي ١٩٦٢ و١٩٧٩م، رغم ما طرأ من ظروف صعبة على أوضاع الوطن مع الانقلاب البعثي عام ١٩٦٣م ثم الانقلاب الأسدي عام ١٩٧٠م.. ومن آثار ذلك أنه تم فصله عن الجامعة سنة ١٩٧٩م، فخسرت سورية خدماته الجليلة، وكان في استطاعته أن يتبوأ مكانا مرموقا على المستوى العربي أو الدولي، فعلاقاته العلمية والتخصصية وكذلك علمه وعمله على المستوى الإسلامي، جعل له شبكة علاقات امتدت عبر القارات الخمس، وشارك منذ ذلك الحين وحتى وفاته في عشرات المؤتمرات العالمية، التخصصية والإسلامية، ولكنه آثر على تلك المكانة أن يقصد مدينة آخن، ويعمل للإقامة فيها منذ عام ١٩٨٠م، ففي آخن كان رفيق النشأة الأولى والشباب، ورفيق العمل الإسلامي الدعوي والحركي، الأستاذ الجليل عصام العطار، وقد استقر به المقام في إدارة المركز الإسلامي في آخن / مسجد بلال، بعد أن منع من العودة إلى سورية، واستحالت عليه الإقامة -دون شروط- في بلد من البلدان العربية، وكان أبو محمود صريحا بأن جوار عصام العطار كان قصده في اختيار مدينة آخن بعد أن أصبح غير قادر على أن يتابع أداء رسالته وواجباته في دمشق.
لا ريب أن كل من عرف الفقيد في ميدان علمي أو دعوي أو حركي عرف فيه “الإنسان”.. فلا يمكن لكاتب هذه السطور أن يصف “علاقة خاصة” متميزة نشأت مع د. محمد هواري الإنسان، عبر الأعوام الماضية، ولن يأتي بجديد، فقد كانت له “علاقة خاصة” مع كل من عرفه.
لا يمكن ذكر حدث نموذجي معبر عن “الإنسان” في شخصيته، فقد كان خلقه وسلوكه مع كل من عرفه، وفي كل يوم من الأيام يعبران عن “الإنسان”، العالم المتواضع، والأخ المخلص، والداعية السباق إلى المكرمات، والعامل بدأب صامت وهمة عالية -يشهد الله- أنني ما عرفت لهما نظيرا عبر عشرات السنين الماضية. إنما لا يزال في أعماق القلب مشهد لا أنساه.. فما زالت عيناه المغرورقتان بالدموع، تتحدثان مع كلمات الترحيب الأخوية، يوم دخلت داره ذات يوم، وقد امتلات بالمئات من الضيوف القادمين لمشاركته الفرحة بزواج إحدى ابنتيه، ورأيته آنذاك جالسا إلى جانب أستاذي الجليل عصام العطار، لا يقوى على القيام محييا، ولا أدري إلى اليوم هل كانت دموع الفرح بابنته، أم كانت – وهذا من صنع غرور ممزوج بالتمني أن تكون لي لديه مكانة متميزة – لحظة ترحيب ممّن يعلم أنني أقصر في حضور كثير من مثل هذه المناسبات، ولا أملك أن أكون مقصرا في تلبية دعوته في يوم زواج ابنته، فقصدت منزله قادما من المطار مباشرة ملبيا دعوة الأخ الكبير.
قبل أسابيع معدودة من وفاته رحمه الله، علمت هاتفيا من أستاذي الجليل عصام العطار حفظه الله، أن أبا محمود خرج من المستشفى، وقد كان المرض يحمله إليه مرة بعد أخرى في السنوات الماضية، ولكن الأطباء في تلك المرة -قبل الأخيرة التي استغرقت ساعات فقط يوم وفاته- قالوا له إنهم لم يعودوا قادرين على صنع شيء لوضعه الصحي، فأصبح الأفضل له أن يكون بين أهله في بيته بدلا من المستشفى، وكان لي بعد أيام معدودات حديث هاتفي معه، بطلب من قناة الحوار الفضائية، إذ حاولت ترتيب موعد للقاء تلفازي معه في داره، فقال بصوت متهدج: “لا أرفض.. ولكن لا أستطيع يا أخ نبيل، فقد أصبحت غالب الوقت تنقطع بي الأنفاس أثناء الكلام”.
لم أملك منع عيني من ذرف دمعة حزينة يومذاك، وكنت آمل أن ألقاه في زيارة تالية ومنعني عنها سفر طارئ بشأن قضيتنا السورية إلى “غازي عنتاب” جنوب تركيا، ولولا ما كان خلال اللقاء هناك مع عدد كبير من الإخوة والأخوات، لشعرت بالأسف الآن.. ولكن لا أملك بعد أن علمت بوفاته، سوى الدعاء من الأعماق أن يجزيه الله تعالى خير الجزاء، في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، وأن يتنزل بالسكينة على قلب زوجه وأولاده وسائر ذويه ومحبيه.. وما أكثرهم في أنحاء العالم كله.
نبيل شبيب