تحليل – تغييب الوعي التاريخي
الوعي التاريخي من مصادر صناعة المستقبل
يجب أن نخرج أولا من النكبة الذاتية في أنفسنا لنخرج من نكبات نصنعها في واقعنا
الذاكرة التاريخية تحفظ الأحداث ونتائجها، وتبني على ما سبقها في صناعة ما يليها، فسنن التاريخ باقية سارية المفعول، يسير معها من يعيها ويتفاعل مع نتائجها ويتحرك بموجبها، وينفصل عن التاريخ مَن يفصل نفسه عنها ويغفل عن مغزى أحداثه على وتيرتها، فيتجاوزه واقع يصنعه سواه.
والذاكرة البشرية، الفردية والجماعية، مخيرة بين إحيائها بالذاكرة التاريخية كيلا تتكرر الهزائم، ولا تضيع الإنجازات، أو أن تضل عنها فتتحول دروس التاريخ إلى مجرد أيام للذكرى، بأمجادها أو نكباتها، والاحتفاء بها أو تجاهلها.
الذاكرة التاريخية تصنع الوعي بالواقع وتستشرف المستقبل، وبدونها يتناسى المرء ما مضى لمرارته، أو يشيد بإنجازات مضت ولا يستفيد منها، ومثال على ذلك حاليا تعامل ذاكرتنا البشرية مع نكبة ١٩٦٧م؛ ما الذي انتقل من الجيل الذي صنع تلك النكبة إلى الجيل الذي يرجى له أن يضع حدا لصناعة النكبات؟
سيان ما يقال عن الحقبة الماضية تبقى الحصيلة التاريخية أن الطريق التي سلكها صانعو القرار هي طريق النكبات. ولنذكر كيف كانت قضية فلسطين بندا لا يمكن تصور غيابه عن مناهج التدريس والتعليم والتوعية والإعلام والسياسة والاقتصاد والفكر والفن والثقافة والتأليف وحتى ألعاب الأطفال وأناشيدهم وما ترسم أناملهم من صور وتتخيل أحلامهم من معالم المستقبل، أي كانت بندا لا يغيب عن الوجدان وأحاسيسه والعقل واجتهاداته، وبالتالي عن الوعي الحي التاريخي في الحاضر المعاصر، فبدأ تغييب ذلك كله بإعطاء الأولوية لما صنعته سايكس بيكو وأخواتها من أقطار متمزقة متفرقة ومتنازعة متناحرة أو من خلال تزييف تاريخ القضية نفسها وتزييف مصطلحاتها، وبالتالي ما تعنيه مفردات الصمود والمقاومة والتحرير والتضامن والمقاطعة والتصدي وعبارات الحق والعدالة والشرعية.
لم تكن النكبة الكبرى في تاريخ المنطقة نكبة الهزيمة عام ١٩٦٧م، فما من أمة إلا وشهد تاريخها من الهزائم العسكرية ما هو أكبر منها أو أصغر، وأشد بعواقبه أو أخف وطأة، إنما كانت النكبة الكبرى في تاريخ المنطقة هي ما صنعته الأنظمة التي نأت بنفسها عن مقتضيات المصير المشترك وأرادت الحفاظ على بقائها، فبدأت جميعا تصنع عمدا كل ما من شأنه أن يستبعد القضية عن الذاكرة التاريخية المشتركة، حصارا للقضية المختزلة في صراع فلسطيني-إسرائيلي، واستبعادا للقضية عن الوعي المشترك، والعمل المشترك، مع تحويل الهدف الطبيعي للوحدة في حياة أي أمة من الأمم، إلى أضغاث أحلام، وتحويل حياة الأمة إلى الانشغال بصرف طاقاتها في صراع مع فقر قاتل أو ترف قاتل وفي استخذاء بتبعية قاتلة أو خنوع لهيمنة قاتلة.
وليس الخروج من صناعة النكبات هدفا مستحيلا، فقد فرضت مسيرة الصمود والمقاومة والصحوة الحديث عنه مجددا، إنما لا يتحقق الخروج من النكبات وما صنعت من خلال نسخ أفكار وتحركات تتطابق أو تتشابه مع ما كان قبل نكبة ١٩٦٧م وأدّى إليها. المطلوب أن تنبثق رؤى وقيادات جديدة عن الإرادة الشعبية المتلاقية مع الصمود والمقاومة في أكثر من مكان، والمطلوب لذلك أن نجدد في ذاكرتنا البشرية، الفردية والجماعية، ما كان من أسبابها ومقدماتها، وأن نعمل لتجنبها، وأن نجدد في وعينا ما أوصلت إليه سياسات المحاور، والانحرافات، وصراع التيارات المتعددة، والانفصام بين التصورات التي حكمت ذلك كله وبين الإرادة الشعبية، والوعي الشعبي، والذاكرة التاريخية الصادقة، لنتجنب تكراره.
يجب أن نخرج أولا من النكبة الذاتية المترسخة في أنفسنا لنخرج من نكبات نصنعها بأيدينا في واقعنا.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب