كلمة وفاء – محمد الدرة شهيد انتفاضة الأقصى

هذا من جيل ما بعد النكبات

جيل حيّ تجاوز الروح الانهزامية التي رافقت صناعة النكبات على كل صعيد في قضية فلسطين وسواها

81
محمد الدرة انتفاضة الأقصى

يتساءل كثيرون عام ٢٠٢٠م بمرارة: أين التحرك الشعبي العربي والإسلامي والإنساني ضد جريمة “صفقة القرن” ومن يرتكبها مقابل ما كان من تحرك جماهيري سابق أكثر من مرة، مثل ما واكب انطلاق انتفاضة الأقصى يوم ٢٨ / ٩ / ٢٠٠٠م واستشهاد محمد الدرة بعد يومين فقط، وكان في الثالثة عشرة من العمر. ويحتاج الجواب الموضوعي إلى مراجعات سياسية وثورية مستفيضة، فلسطينية وعربية وإسلامية وعلى المستوى البشري الإنساني المشترك، إنما تقتصر الفقرات التالية على محاولة استعادة أجواء ما كان آنذاك في موجز لمقالتين تناولتا في حينه ما أحدثه انتشار صورة الشهيد محمد الدرة من ردود أفعال واسعة النطاق، والمكانة التي وصلت إليها فيما يشبه جولة شبكية بين أنصار الحق وأتباع الباطل. وقد نشرت المقالة الأولى يوم ١٣ / ٣ / ٢٠٠١م تحت عنوان “الطاقة الشعبية.. صورة محمد الدرة نموذجا” في موقع “الجريدة الإلكترونية”، والمقالة الثانية يوم ٢٣ / ٣ / ٢٠٠١م تحت عنوان “الاستفتاء على صورة درة الشهداء” في مجلة “فلسطين المسلمة”، وقد نشرتا في مداد القلم أيضا، ولعل في تجديد نشر موجزهما هنا ما يساعد على استيعاب أهمية العمل لاسترجاع ما ينبغي استرجاعه من مكانة القضية الفلسطينية المحورية على كل صعيد تاريخي وجغرافي وسياسي وإنساني.

٠ ٠ ٠

موجز “الطاقة الشعبية.. صورة محمد الدرة نموذجا

الصورة التقطتها عدسة مصور فرنسي لحظة قتل الشهيد الطفل وهو يحتمي بأبيه دون جدوى، وقد حركت المشاعر في أنحاء العالم، فأقدم موقع شبكة (MSNBC) التليفزيونية الأمريكية، على وضعها ضمن حوالي خمسين صورة في تصويته التقليدي المفتوح على اختيار “صورة عام ٢٠٠٠م” كما يصنع مع نهاية كل عام. وكان من الطبيعي بمختلف المقاييس الصحفية المهنية والبشرية الإنسانية وكما ظهر في الأيام الأولى للتصويت أن تكون المرتبة الأولى لصورة الشهيد الطفل محمد الدرة وهو تحت جنح أبيه، كصورة شاهدة على ما يجري على الأرض الفلسطينية المغتصبة منذ النكبة الأولى، وصورة جامعة لمعاني الشهادة، والتضحية، والأبوّة، والطفولة، فاحتلت سريعا المرتبة الأولى بالفعل، وإذا بعدد المشاركين في التصويت يرتفع فجأة ارتفاعا غير اعتيادي، مع ازدياد توزيع الأصوات لصالح صور أخرى، فتراجع موقع صورة الطفل الشهيد يوما بعد يوم، ووصل إلى المرتبة الثانية بفارق ناهز خمسين ألف صوت مقابل صورة أخرى قفزت إلى المرتبة الأولى.

وكشف “مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية” عن أبعاد حملة صهيونية مركزة من وراء ذلك، استهدفت منع وصول صورة الطفل الشهيد وصولا تلقائيا إلى موقع يجدّد تأثيرها على الرأي العام العالمي، وشارك في تلك الحملة ديبلوماسيون إسرائيليون، كما كتبت عنها صحف يومية أمريكية، وناشد بيان المجلس المذكور المسلمين في أنحاء العالم الردّ على هذه الحملة بحملة مضادة، وتبنت عدة جهات هذه الدعوة مثل موقع “إسلام أون لاين” وموقع “مركز الإعلام الفلسطيني” وغيرهما.

الشاهد هنا هو التجاوب الكبير مع هذه النداءات، فكان قويا واضحا للعيان، وخلال أقل من أسبوعين انضاف أكثر من 100 ألف صوت لصالح الصورة الشاهدة على الجرائم الإسرائيلية، فعادت إلى موقعها الطبيعي على حدّ تعبير بيان آخر لمجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية، باعتبارها أهم لقطة صحفية شهدها عام ٢٠٠٠م.
وبغض النظر عن النتائج الأخيرة، لفت النظر في التجاوب مع النداء أنه كان في صورة تحرّك فوري واسع النطاق، رغم تدنّي معدل انتشار الوصلات الشبكية في العالم الإسلامي (عام ٢٠٠٠م) إلى أقل من واحد في المائة مقابل انتشارها في مراكز التجمعات اليهودية عالميا بنسب تتراوح بين ثلاثين وخمسين في المائة. إنما يرمز هذا التحرك إلى وجود قوة شعبية مستقلة عن الجهات الرسمية، على مستوى عالٍ من الوعي، وتمتلك إرادة فعالة محركة. ولعل في مقدمة ما تحتاج إليه ليتسع نطاق تأثيرها هو أن يتحرك أفراد هذه القوة الشعبية وفئاتها، كل حيث يوجد وعلى الثغرة التي يمكن أن يملأها، ليوجدوا ويبتكروا بأنفسهم “الفرص” المناسبة للتحرك إذا لم تتوافر من تلقاء ذاتها، ثم أن يبرز من بينهم أفراد يجمعون إلى العلم والمعرفة والإخلاص والوعي والجهاد والصبر والمثابرة، القدرة والكفاءة لممارسة التوجيه والتفاعل الإيجابي مع سواهم.

محمد الدرة
محمد الدرة

إن التفاعل مع صورة الشهيد الطفل عبر شبكة العنكبوت، صنع غضبة شعبية واسعة النطاق فدفعت دونما شك إلى عقد قمة عربية طارئة بعد طول انتظار كان خنوعا للاعتراضات الأمريكية، وقد أعطت القمة لونا يختلف ولو قليلا عن قمم سابقة، وأدّت أيضا إلى تعديل جدول أعمال قمة الدوحة للدول الإسلامية، كما ساهمت في كشف الانحرافات المتسللة إلى التعامل الفكري والثقافي والطاغية على التعامل الإعلامي مع قضية فلسطين.
هذا تطور ينذر المسؤولين الرسميين بأن حصيلة العقود الماضية من التخاذل قد انكشفت، وأن الاستمرار عليه يمكن أن يؤدي إلى انفجار شعبي لا يقف عند حدود المظاهرات والتجمعات والبيانات، كما أعادت الغضبة الشعبية التي صنعتها صورة محمد الدرة قضية فلسطين المحورية إلى مكانها الطبيعي من الوعي الشعبي، لا سيما عند جيل الشباب، فسجلت إخفاق جهود مكثفة سابقة للقوى الرابضة وراء دعوات سلام موهوم وشرعية مزيفة، في إحداث قطيعة بين جيل المستقبل وبين هويته وقضاياه المصيرية. 

إن الشعوب قادرة على صنع الكثير، وإن الاستهانة بما يمكن أن تصنعه الشعوب إذا ما تحركت، خطأ يرتكبه الاستبداد بمختلف أشكاله المحلية داخل الحدود، وأشكاله العالمية عبر العلاقات الدولية.

إن الذين مضوا من قبل على مسيرة كامب ديفيد ومدريد وأوسلو أوهموا أنفسهم بالقدرة على التحرك بمعزل عن الشعوب وإرادتها، ومضوا على ذلك إلى جانب عمليات القمع والتزييف والتضليل عدة عقود متوالية، ثم وجدوا أنفسهم أمام ما كشفته انتفاضة الأقصى – بصورة مفاجئة بمنظورهم – من أن الشعوب حية لا تموت، وأن إرادتها قوية، يمكن أن تغضب، ويمكن أن تنفجر أيضا، فتفجّر الأحداث حول من يستهين بها، وإذا بهم أمام حطام ما اعتبروه منجزات ثابتة كافية لصنع واقع “شرق أوسطي” جديد يلغي الثوابت الدينية والقومية والحضارية بجرّة قلم غادرة مشؤومة على اتفاقات باطلة “تطبيعية”.

إن أخطر ما يمارسه الملوك والأمراء والرؤساء في بلادنا، هو التصرف وفق ما تمليه الضغوط الأمريكية والجرائم الإسرائيلية بدلا من الاستجابة للإرادة الشعبية، وتقوية أنفسهم بالشعوب تجاه الأخطار الخارجية، فهذا من توهم مخادع أن تصعيد الضغوط المعادية وهدوء الضغوط الشعبية يعبر عن قوة أمريكية وضعف جماهيري!
بالمقابل بقدر ما تزداد الثقة بالقوة الشعبية، ويتضاعف العمل والجهد من أجل تحريكها وتوظيفها والاستفادة منها والتجاوب معها، يمكن أن يتحول ما يبدو اليوم آمالا وأحلاما مستقبلية إلى حقائق مشهودة قائمة على أرض الواقع، وآنذاك فقط نكون واقعيين، عبر صناعة واقع مشروع نريده دون انتظار انتخابات أمريكية، وأخرى إسرائيلية، وانتظار إجراءات معادية، وضغوط خارجية، والأصل أن نتفاعل معها وما يشابهها كما يصنع سوانا، أخذا وعطاء وقبولا ورفضا، وليس تسليما وخنوعا وانصياعا وتزويرا للحقائق، فهذا شأن من لا يحترمون أنفسهم، ولا يثقون بالشعوب، وليس هو قطعا من شأن أمة تشعر بكرامتها وعزتها ومكانتها بين الأمم، هذا ناهيك عما تؤدي إليه تلك الواقعية المزيفة من عواقب وخيمة على حساب حقوقنا وأرضنا ومقدساتنا، وعلى حساب حاضرنا ومستقبلنا، وعلى حساب دماء شهدائنا وأرواحهم.

٠ ٠ ٠

موجز الاستفتاء على صورة درة الشهداء

ما أحوجنا في هذه الأيام للعودة إلى تلك الفترة الأولى من أيام انتفاضة الأقصى، وأثرها في الانتقال بالقضية إلى مستوى التفاعل الشعبي عالميا، إضافة إلى انتقال البطولات الفلسطينية بها من منحدر التسليم والتخاذل، إلى درب المقاومة للتحرير.
من تابع مجرى عملية الاستفتاء على “صورة العام” ثم إنهاءها دون الأخذ بالنتيجة التي وصل التصويت إليها يوم ٢١ / ٣ / ٢٠٠١م، يصل إلى الاقتناع بأن الشهيد الطفل محمد الدرة انتصر على الصهاينة وأنصارهم عبر ذلك الاستفتاء، فكان استشهاده معلما من معالم الطريق إلى الانتصار في معركة تحرير الأرض المغتصبة، وشعلة من الأمل في جيل جديد كسر قضبان هزيمة نفسانية موروثة على امتداد عدة عقود ماضية.
لقد تحول الاستفتاء واقعيا إلى معركة شبكية بين شباب مخلص للحق والعدالة وبين منظمات صهيونية متعصبة، لم تستطع رغم ضخامة القوى المالية والسياسية والتنظيمية من ورائها، تحقيق مبغاها التضليلي تجاه فريق قليل العدد نسبيا ولكنه وافر العزيمة، محدود الإمكانات قياسا إلى سواه ولكنه قادر على حسن توظيفها، وبين يديه ميزة بالغة الأهمية، وهي القدرة على التحرك خارج قيود السياسات الرسمية المسيطرة على صناعة التنازلات داخل بلادنا وعالميا.
من ثمرات ذلك كسبُ ما عرف بحرب المواقع الشبكية مثل طرح القضية في منتديات الحوار الشبكي باللغات الأجنبية، حيث ارتفع في هذه الأثناء عدد أصوات منصفة بين زوارها من الغربيين ارتفاعا ملحوظا، وهو ما شمل مواقع حوار تابعة لكبريات الصحف، بل من ذلك – كمثال يلفت النظر – منتدى للحوار يخدم منذ فترة طويلة أغراض الجالية اليهودية الشديدة التنظيم في ألمانيا، وبدأ بعض أفرادها يدعون إلى إلغائه، بعد أن تبدلت وجهات الحوار فيه وبات حافلا بانتقاد الجرائم الإسرائيلية وإدانتها.

لا حاجة إلى التأكيد أن الانتصارات الشبكية لا تغني عن الانتصارات المطلوبة على أرض الواقع مباشرة، وعلى ساحة صناعة القرار محليا ودوليا، ولكن ينبغي التأكيد بالمقابل أن من الخطأ التهوين من قيمتها في عصر باتت فيه الشبكة ووسائل الاتصال المتطورة تمثل أحدث الوسائل التقنية القابلة للتوظيف – وبدأ يجري توظيفها بالفعل – لتحقيق الأهداف المطلوبة في مختلف الميادين، بما في ذلك الميدان السياسي.
ويستدعي ذلك أيضا عدم الاكتفاء ببهجة الإحساس بالانتصار، وهو ما رأيناه في الأيام الأولى بعد وقف الاستفتاء، بل نحنتاج إلى نظرات موضوعية هادئة، تكشف نقاط القوة والضعف، فنحن مع آمالنا المستقبلية الكبرى المعقودة على جيل الشبيبة، نقف على العتبة الأولى من طريق طويل نحو الهدف الأصيل، هدف تحرير الأرض المغتصبة، واستعادة الكرامة والمكانة الحضارية الجديرة بأمتنا في المنطقة بمجموعها.

بمنظار التقويم الموضوعي يمكن تسجيل نقاط أساسية:
إن القوة الحاسمة في هذه الجولة كانت قوة المشهد الذي تعبر عنه صورة الشهيد تعبيرا مباشرا، وبالتالي لم يكن فوزها يحتاج في الأصل إلى حملة غير اعتيادية من جانب المسلمين، أي يمكن رفد المناضلين في قضايا العدالة بكثير من الدعم من خلال جهد محدود نسبيا، للوصول بها إلى مواقع التأثير عربيا وإسلاميا وعالميا، في الرأي العام ومراكز صناعة القرار.

ولا يكمن المحور الرئيسي في صورة الشهيد الصغير في كونها “لقطة صحفية مصورة” لمشهد حيّ من مشاهد حدث مأساوي، بل يكمن أيضا في أنها ألقت في لحظة من لحظات التاريخ أضواء كاشفة على مسار الأحداث، فأزالت حجبا كثيفة تواري رايات منحرفة وحملات تزييف كبرى لحقيقة القضية وواقعها وتاريخها، وإذا بالانتفاضة تطرح القضية مجددا كما هي: قضية احتلال إجرامي وشعب يناضل لتحرير نفسه وأرضه.

كذلك فقد ظهر دليل عملي على أن الجيل الجديد لا يمكن تطويعه بوسائل التيئيس والتخذيل التقليدية. ويترتب على ذلك أمور عديدة في مقدمتها:

– ضرورة إسقاط نظرة القنوط الغالبة حتى الآن على كثير من الأقلام والأصوات تجاه القضية وتجاه أوضاع العرب والمسلمين، فرغم تراكم الآلام يوجد أمل كبير ينبثق عنه استشراف المستقبل المنظور انطلاقا من أسباب موضوعية نرصدها في تطور تفاعل الشبيبة مع الأحداث، بمضمون يتناقض مباشرة مع ما خططت له حملات غسيل الدماغ الجماعي وثقافات عصر سلام استسلامي، وانحرافات التفكك والانحلال الاجتماعي، ومحاولات “تطبيع” كل ما هو غير طبيعي، من موبقات كامب ديفيد وكبائر مدريد وأوسلو.

– هذا.. مع ضرورة عدم الركون والاطمئنان الخاطئ إلى هذا الأمل الكبير فليس مجهولا أن كل ما لا يقترن من الآمال الكبار بما يوازيه من المواظبة على التوعية والتخطيط والعمل والتضحية والصبر والمثابرة، يبقى مجرد آمال فحسب ولزمن طويل.

إن النصر الشبكي الذي تتحدث عنه أقلام بعضنا ليس – وفق النظرة الموضوعية الهادئة – سوى تفوق جزئي محدود في جولة واحدة وساحة واحدة من ساحات العمل لقضايانا، له مغزاه، ولا ينبغي التهويل من شأنه، بل يجب طرحه كما هو بحجمه الفعلي، مع التذكير بأن ما يوصف بالمعركة في الساحة الإعلامية، مجال واسع النطاق، وتتطلب تغطيته جهودا متواصلة ومتعددة ومتكاملة، وهنا نجد في جولة “صورة الدرة” نموذجا يساعد على استخلاص العبر والدروس، وعلى وضع الصيغ المناسبة لمتابعة العمل في اتجاه قويم.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب