رؤية – جيل المستقبل العربي.. وجامعة الماضي العربي

الثورات الشعبية تتحرر من القيود، وستتحرر من القمع أيضا، أمّا دعم الجامعة لها لو حصل، فمن شأنه أن يحرّر الجامعة من قيودها وأغلالها

40

جامعة الدول العربية بيت من بيوت الماضي في واقع المنطقة العربية وإن كانت أوهى تلك البيوت، كمنظمة مؤتمر العالم الإسلامي في المنطقة الإسلامية.

تصرّفت بشأن سائر الثورات كبيت من بيوت الماضي، وفق معايير ما بقي من هيكلية سياسية في المنطقة ووفق ارتباطاتها الدولية، وتتصرّف الآن بشأن سورية وفق ذات المعايير..

ليست الثورة العربية في حاجة إلى جامعة الدول العربية لتحقق أهدافها، إنما تحتاج الجامعة إلى الثورة العربية كي تصبح منظمة على مستوى واقع الشعوب واحتياجاتها وتطلعاتها، وعلى مستوى العالم والعصر، بدلا من بقائها على مستوى حكومات الماضي، وشبحا من أشباح الماضي.

. . .

لقد اخترق جيل المستقبل بهذه الثورات الجدران التي حبست الإنسان العربي وراء أبواب أنظمة ومنظمات نسجت علاقاتها وشيّدت مقرّاتها وأملت سياساتها أحداثٌ عتيقة، بدءا من سايكس بيكو وإسقاط الخلافة العثمانية، مرورا بالحربين العالميتين، انتهاء بتحويل المنطقة بأسرها إلى حجر من أحجار اللعبة الدولية في عصر العولمة.. وكان من آثار هذا الاختراق التاريخي أنّ جيل الشبيبة في أنحاء العالم بدأ يتحرّك بروح جيل الشبيبة في المنطقة العربية، على طريق التغيير.

وعندما نستوعب مسلسل الثورات الشعبية العربية أنّه حركة تغيير جذري تاريخي عميق المضمون واسع النطاق بعيد المدى، نستوعب أنّ الذين يصنعون المستقبل، هم شباب وفتيات المستقبل، وقد وجدوا ثقة الشعوب من مختلف الفئات والأعمار، وأنّ الذين يتشبّثون بالماضي ويسبحون عكس تيار التاريخ، هم الذين يجلسون في المباني الرسمية الحكومية في العواصم العربية وفي عاصمة جامعة الدول العربية، ولا ينبغي أن يُعقد أمل المستقبل على حبال الماضي العتيق، ومن يصنع ذلك سرعان ما يخيب أمله.

وكما خلّد سجلّ التاريخ أسماء صانعي الاستقلال قبل زهاء قرن من أمثال عبد الكريم الخطابي، وعبد القادر الجزائري، وعمر المختار، وإبراهيم هنانو.. وأقرانهم، ولم يكونوا معروفين من قبل، كذلك سيخلّد سجلّ التاريخ أسماء صانعي التحرّر من الاستبداد هذه الأيام، ممّن لم يكونوا معروفين من قبل، ممّن يوصفون بالقيادات الشبابية في تونس ومصر واليمن وسورية وليبيا وسواها.. وممّن تنعقد عليهم الآمال لينضموا إلى ركب القادة الثائرين وصانعي المستقبل من الشباب والفتيات في هذا الجيل.

إنّ أمل المستقبل -يا أبناء جيل المستقبل وبناته- معلّق عليكم أنتم، حيثما كنتم، وهو الأمل الأكبر، الذي لا بد أن يتحقق، فهو ما يمثل إرادة الشعوب، ولطالما ردّدنا هذه الأيام كما لم نصنع من قبل قصيدة أبي القاسم الشابي، إذا الشعب يوما أراد الحياة… فلا بد أن يستجيب القدر… ومن يتهيّب صعود الجبال… يعش أبد الدهر بين الحفر… وإنّ في ذلك تعبيرا مباشرا عن استيعاب السنة الربانية في خلقه، أنّ الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، ولئن ساهم أفراد عمالقة من جيل الماضي في بذر بذور النقلة الكبرى نحو المستقبل، فأنتم من تصنعون النقلة بأـنفسكم وبتضحياتكم وبطولاتكم وإنجازاتكم الكبرى.

. . .

لقد صنع جيل الشبيبة ثوراته، وانتصر أوّل ما انتصر، على محاضن الماضي في نطاق الاستبداد والتجزئة والفساد والانحراف، فلم ينشأ على ما سعت لغرسه في النفوس والسلوك، من الطاعة العمياء، والعداوات الفئوية، وموات الوجدان، والانحلال الخلقي.. لم ينشأ جيل من الإمعة الخانعين كما أرادوه، بل ظهر جيل الثورة.

جيل لا يطلب الحرية فقط، بل يصنعها بتضحياته، ولا يتطلع إلى الكرامة فقط، بل يمضي إليها ببطولاته، ولا يرفع الوحدة شعارا فقط، بل يمارسها في واقع ثوراته، ولا يسأل عمّن يبني المستقبل ويقوده وينتظر، بل يبنيه بنفسه ولهذا تمضي الشعوب من ورائه.

. . .

لم تدرك جامعة الدول العربية -كمعظم الأنظمة المتهالكة بين يدي الثورات العربية- أنّها “هرمت” كما قالها أحد أفراد جيل عايشها لعشرات السنين من العمر، واستوعب أنّ عليه أن يعيش “اللحظة التاريخية” التي يصنعها جيل الشبيبة، ولم تستوعب، فبقيت كما هو حال تلك الأنظمة مرآة لواقعٍ انتهى، وينادي من يتشبّث به خارج نطاق واقع البشرية في العالم المعاصر تحت وطأة التخلّف المطلق: هل ستلحقون بركب التغيير قبل أن تطوي صفحة وجودكم دورة الحياة؟

هذا التغيير الذي يصنعه جيل المستقبل، تغيير تاريخي حضاري، ولا يمكن لعنصر من عناصر التخلّف في العقود الماضية، كجامعة الدول العربية، أن يكون لبنة فيه، إنّما يبقى أحد الهياكل التي سيشملها التغيير الحضاري التاريخي، فيتحوّل هو أو ينشأ بديل عنه، ينسجم مع الإرادة الشعبية المنتصرة، وثورة جيل المستقبل.. ولهذا يجب أن نقول بوضوح:

ليس موقف جامعة الدول العربية من ثورة شعب سورية هذه الأيام سوى صورة واحدة من الصور المتتابعة، الشاهدة على أن الشعوب تمضي نحو المستقبل لتحقق التغيير بنفسها، وأن الجامعة جزء من الماضي الذي يجري تغييره.

قضية فلسطين منذ مؤتمر فاس في ثمانينات القرن الماضي إلى ملحمة انتصار غزة وسط الحصار على العدوان العسكري الإسرائيلي.. شاهدة على ذلك.

قضية العراق من اللحظة الأولى لتنفيذ مخطط تحويل الجبهة العربية من قضية فلسطين إلى منطقة الخليج حتى لحظة احتلال عاصمة العباسيين.. شاهدة على ذلك.

استبقاء العلاقات التجارية والمالية والاقتصادية والفكرية وغيرها بين كل قطر عربي عضو في الجامعة وبين القوى الدولية لتكون هي الأصل، وضمور العلاقات البينية العربية على كل صعيد بدلا من التكامل والتعاون والتكتل.. شاهد على ذلك.

ومزيد من الشواهد التاريخية معروف عبر أنين الصومال لعدّة عقود، ومشكلة الصحراء الغربية / المغربية لعدة عقود، ومشكلات السودان لعدة عقود، وكذلك تفكيك عرى معاهدة الدفاع العربي منذ عقود.. والقائمة تطول، وجميعها يشهد على أنّ المسألة ليست مسألة “أخلاقيات متدنية” الآن، فموقف الجامعة الآن من مسلسل الثورة البطولية الأبية في سورية، مسلسل تقتيل الأطفال والكبار، وتدمير الأحياء والقرى، وتحصّن الفساد والاستبداد في الدبابات والمعتقلات وأقبية المخابرات.. هو الموقف المنتظر لا المفاجئ، وليس ما يبدّل موقف الجامعة -حسب واقعها الراهن- حقّ الشعوب في الحياة وتقرير المصير، بل قد يبدّل مواقفها تحوّل ما على صعيد خارطة اللعبة الدولية والهيمنة على المنطقة العربية، لأن وجود جامعة الدول العربية ارتبط بذلك، ليس بسبب ضخامة قوّة الهيمنة وعنفوانها، بل لأنّ الجامعة هي التي ربطت حياتها وبقاءها بها، فساهمت في تعزيزها، وفقدت معالم الحياة في عروقها ومواقفها.

. . .

لا ينبغي أن تتجاوز علاقة الجيل الثائر وهو يصنع المستقبل بجامعة الدول العربية أكثر من علاقة وضع المسؤولين في الحكومات العربية -وهي الجامعة.. ما دامت الجامعة تمثلها ولا تمثل الشعوب- أمام مسؤولياتهم التاريخية، وهم يعلمون أنّ هذه الثورة الشعبية المنتشرة في “زنقة بعد زنقة” وبلد بعد بلد، ثورة على الواقع الذي صنعوه ويتشبّثون به، ولا يريدون حتى الآن أن يستوعبوا أنّ الثورة في الوقت نفسه فرصة تاريخية ليستعيدوا حياتهم أولا، فحياة حكوماتهم ثانيا، فحياة جامعتهم ثالثا، وآنذاك قد يقفزون فوق أنفسهم وماضيهم، ليكونوا جزءا من مستقبل يصنعه جيل المستقبل، سواء شاركوا في صنعه أم لم يفعلوا.

. . .

إنّ ثورة هذا الجيل هي الثورة التاريخية الأكبر في المنطقة العربية، لأنها ثورة الإنسان العربي، وثورة الحضارة العربية، وثورة الوحدة العربية، وثورة التقدّم العربي.. مع جميع ما يرتبط بذلك ارتباطا وثيقا لا ينفصم من الدائرة الحضارية الإسلامية الشاملة للمنطقة العربية.

وهذا ما يوجب على الثوار أن يتلاحموا من وراء حدود الماضي وأسباب التجزئة فيه، وأن يدعم بعضهم بعضا من خلال ما يصنعونه محليا ويتضامنوا عليه إقليميا وعالميا، وهذا بالذات ما يتجلّى في تطابق المعالم الكبرى لثوراتهم الشبابية، القطرية، السلمية، الحضارية، البطولية، المنتصرة بإذن الله.

الشعارات واحدة.. والدماء فتحت بوابة التغيير

السواعد واحدة.. والإنجازات قادمة متراكمة

لأنّ المنطلقات مشتركة.. والأهداف مشتركة

كذلك الماضي الذي انطلقت هذه الثورات لتحطّم أغلاله، والمستقبل الذي انطلقت لترسّخ دعائمه

ولأن الثورات العربية تمثل ثورة واحدة، فلا بدّ أن تعقد آمالها على الشعوب الثائرة، سواء في ذلك تلك التي تفجّرت طاقاتها الكامنة في ثوراتها، أو تلك التي لا تزال في مرحلة الغليان.. وتريد التغيير أيضا.

ولأن الثورات العربية تصنع مستقبل الأمة، فإنّ على هذه الشعوب أن تتحرّك معها، وأن تتحوّل من خلال الإعلان عن إرادتها ومواقفها وتطلعاتها، إلى وقود للثورة المشتركة، ومصدر قوّة تضع الأنظمة القائمة أمام مسؤولياتها.

الثورة في سورية الأبية لا تنتظر بالضرورة أن تؤدّي الجامعة واجبها، بقرار ينطوي على نصرة الشعب الثائر، ومحاصرة الاستبداد الجائر، فالثورة الشعبية تحررت من القيود، وستتحرر من القمع أيضا، أمّا ذلك القرار -إن صدر- فمن شأنه أن يحرّر الجامعة من قيودها وأغلالها.. ولكن الثورة في سورية الأبية -كما في أخواتهما- تنتظر أن تتحوّل نصرة الشعوب لها، في كل قطر من الأقطار، وبمختلف أشكال النصرة، من مستوى الإحساس المشترك بالألم والأمل، إلى مستوى الدعم المباشر والعمل.

وسيتحقق ذلك بإذن الله قريبا.. ومن لا يصدّق عليه أن يعود بالذاكرة بضعة أعوام.. عندما كان لا يصدّق أن الشعوب قادرة على الثورة والتغيير، وصناعة المستقبل، وأن الثورة العربية يمكن أن تتحوّل إلى طاقة تزرع بذور الثورة على الانحراف والفساد في واقع البشرية بأسرها.

نبيل شبيب