تنظيمات – محكمة العدل الدولية
عدالة تتحدى التقييد
أفكار فردية متحررة تحولت إلى منظمة دولية عام ١٩٢٢م وبدأت تتحدى قيود الهيمنة المفروضة دوليا
بطلب من دولة جنوب أفريقية تحركت محكمة العدل الدولية للنظر في قضية الإبادة الجماعية عبر الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة (وبقية فلسطين) ضمن تداعيات طوفان الأقصى، فما هو موقع محكمة العدل الدولية من منظومة العلاقات الدولية وكيف نشأت؟ وهل يمثل هذا التحرك (بين عامي ٢٠٢٣-٢٠٢٤م) تحديا مباشرا لمعادلة الهيمنة والتبعية، التي سبق أن استكملت سيطرتها على شبكة العلاقات الدولية؟
إن طلب النظر بأسلوب التحكيم القضائي في النزاعات العالمية مطروح منذ زمن طويل، وتقول مصادر توثيقية غربية إن أول من طرح ذلك كان المحامي الفرنسي بيير دوبرا (المتوفى سنة ١٣٢١م) وكان ذلك في حقبة الملكية في فرنسا، وتكرر الطرح من جانب الكاتب السياسي الفرنسي إيمريك كروسو (المتوفى سنة ١٦٤٨م) بعد أن اشتهر بكتاباته المتميزة عن العلاقات الدولية وتطويرها، وقد انطلق في طرحه من تعليل الحروب والأزمات العالمية بأنها نتيجة سوء الفهم المتبادل، فهي تحتاج إلى المعالجة قضائيا.
أما الطرح المباشر لتشكيل صيغة أولية لمحكمة دولية فكان عام ١٨٩٩م أثناء ما عرف بمؤتمر لاهاي الأول للسلام الذي صدرت عنه أولى النصوص الحديثة المتعلقة بتقنين جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وانطلقت عام ١٩٠٠ الخطوة المؤسساتية الأولى بتشكيل المحكمة الدائمة للعدل الدولي مع اعتماد اتفاقية التسوية السلمية للنزاعات الدولية، وبدأت الإجراءات العملية للمحكمة بعد عامين لتحديد صيغة العمل وطريقة تعيين القضاة؛ وانعقد مؤتمر لاهاي الثاني للسلام عام ١٩٠٧م، ثم تعطلت الإجراءات العملية مع نشوب الحرب العالمية الأولى، وعاد الحديث حولها مجددا في عصبة الأمم، فدعا مؤتمر باريس للسلام عام ١٩١٩م في ميثاق عصبة الأمم إلى دراسة إنشاء محكمة دولية لفض النزاعات وطرح الفتاوى القانونية الدولية، وتبدلت صيغة التحكيم إلى صيغة تحقيق العدالة، فتقرر تشكيل محكمة العدل الدولية، واعتماد دستورها الأساسي يوم ١٣ / ١٢ / ١٩٢٠م في جنيف. كانت النشأة الأولى هذه دون إلغاء وجود المحكمة الدائمة للعدل الدولي، فاتخذت المحكمة الجديدة مقرها في قصر السلام في لاهاي أيضا، وأصدرت في العقدين التاليين أحكامها القضائية في ٢٩ قضية عُرضت عليها، كما أصدرت ٢٧ فتوى قانونية بطلب من عصبة الأمم، وانقطع عمل المحكمة سنة ١٩٤٠م عقب نشوب الحرب العالمية الثانية، ثم كانت ولادتها التالية عام ١٩٤٦م عقب تأسيس هيئة الأمم المتحدة.
وسبق إيجاد عدد من الهيئات الإقليمية تحت مسمّى محاكم عدل، إلا أن محكمة العدل الدولية قامت على أسس متوافق عليها على مستوى عالمي شامل، وتميزت بديمومة علاقتها القانونية بالدول الأعضاء، كما أنها تتمتع منذ تأسيسها بدرجة عالية من الشفافية نتيجة علنية المرافعات وعرض الأدلة التوثيقية، فضلا عن أن تشكيل هيئة قضاتها يرقى إلى مستوى الشمولية عالميا.
كان هذا الوضع نتيجة مفاوضات استغرقت ٦ سنوات بين ١٩٤٠ و١٩٤٦م، دارت على مستوى ثنائي بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وعلى مستوى رباعي بإضافة دولتي الاتحاد السوفييتي والصين من بين الدول التي أصبحت دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي. وكان من النتائج إلغاء وجود المحكمة الدائمة للعدل الدولي وإقرار وجود محكمة العدل الدولية بصيغتها الأولى، وهو ما اقترن بتغييب عصبة الأمم وتأسيس منظومة الأمم المتحدة.
وقد ظهرت في وقت مبكر معالم تقييد محكمة العدل الجديدة بما نجم من موازين القوى بعد الحرب العالمية الثانية، والمحور الرئيسي للتقييد هو استبعاد الولاية الإلزامية للمحكمة تلقائيا، وفتح ثغرات لقابلية الاعتراض بذريعة تجاوز الاختصاص القانوني إلى السياسي، فضلا عن تجريد المحكمة من صلاحية اتخاذ قرار تنفيذي يكلف هيئات تابعة للأمم المتحدة بتحقيق ما تحكم المحكمة به، رغم أنها أحكام ملزمة، للدول الأعضاء فيها، ولكن في حالة عدم تنفيذها طوعيا، يبقى اتخاذ الإجراءات الضرورية للتنفيذ مقيدا بمجلس الأمن الدولي، وهذا ما يؤخذ من المادة ٩٤ في نطاق الفصل الرابع من ميثاق الأمم المتحدة وهو الفصل المخصص لمحكمة العدل الدولية؛ تقول المادة 94:
١- يتعهد كل عضو من أعضاء الأمم المتحدة أن ينزل على حكم محكمة العدل الدولية في أية قضية يكون طرفا فيها.
٢- إذا امتنع أحد المتقاضين في قضية ما عن القيام بما يفرضه عليه حكم تصدره المحكمة، فللطرف الآخر أن يلجأ إلى مجلس الأمن، ولهذا المجلس، إذا رأى ضرورة لذلك أن يقدم توصياته أو يصدر قراراً بالتدابير التي يجب اتخاذها لتنفيذ هذا الحكم.
وهكذا يمكن أن يتخذ مجلس الأمن الدولي قرارا يفرغ الحكم من مضمونه وغايته، هذا مع العلم أن محكمة العدل الدولية هي مثل مجلس الأمن الدولي إحدى ستة أجهزة أساسية في قيام منظومة هيئة الأمم المتحدة، فضلا عن ابتكار ما يسمى حق النقض / الفيتو في لائحة نظام عمل المجلس، أي حصر الصلاحيات الحاسمة، في نطاق توافق الإرادة السياسية لخمس دول دائمة العضوية، وهو بذلك نظام ينتهك مبادئ أساسية في ميثاق الأمم المتحدة، مثل المساواة بين الدول.
ويوجد من يواسي الأسرة الدولية والدول المعنية في التفاعل مع قضية الإبادة الجماعية في فلسطين بعد طوفان الأقصى، يوم السابع من تشرين أول / أكتوبر ٢٠٢٣م، بأن مجرد صدور قرار الإدانة يمثل نصرا أدبيا وعقوبة معنوية وفضيحة سياسية للجهة التي ارتكبت وترتكب تلك الجريمة الكبرى جهارا نهارا؛ وهذا عزاء للتحرك في اتجاه صحيح، ولكنه لا يكفي، فلا أحد يجهل أن الأدبيات المعنوية والقيم الأخلاقية لم تكن كافية دون عقوبات رادعة في قضايا سابقة من عناوينها هيروشيما وناجازاكي ودرسدن وأخواتها وفيتنام والشاشان وأفغانستان والعراق والبلقان وكشمير؛ والقائمة طويلة، وبقيت العلاقات الدولية وتطوراتها وبقي واقع الأسرة البشرية حافلا بالمآسي والمعاناة والجرائم، تحت مفعول ما تصنعه معادلة الهيمنة والتبعية وتغليب شرعة الغاب أو ما يسمونه موازين القوى، على ما سواها.
وأستودعكم الله تحت مظلة القيم والمبادئ والعدالة ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب