كلمة وفاء – عبد الرحمن سوار الذهب

حالة فذّة في سجل الشرف العسكري الوطني

ولد ١٩٣٤م، نفذ وعده بتسليم السلطة للمدنيين بعد فترة انتقالية عسكرية من ١٣ شهرا، وتوفي عام ٢٠١٨م

95
ليسوا أبناء سوار الذهب رحمه الله، فهو لم يصنع ما صنعوه إذ مارسوا السياسة
التسجيل الصوتي للموضوع

النص الكامل للموضوع

يوم السادس من أيار / مايو، من عام ١٩٨٦م أقدم عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب على خطوة غير مسبوقة في معظم بلادنا، إذ ترك كرسي القيادة العسكرية والسياسية، منفذا الوعد الذي أعطاه قبل ١٣ شهرا، عندما وافق بعد الانتفاضة الشعبية في نيسان / أبريل ١٩٨٥م على استلام رئاسة المجلس الانتقالي الذي تشكل ليدشن إسقاط النميري، مشترطا أن ينتهي وجود العسكر في القيادة بعد عام واحد، يتم خلاله إعداد البلاد للانتخابات، وهو ما حدث فعلا، فأوصلت تلك الانتخابات الصادق المهدي (رحمه الله) إلى رئاسة الحكومة المنتخبة، وأوصلت محمد الميرغني إلى منصب رئاسة مجلس السيادة في الدولة. وأعلن سوار الذهب الذي كان قائدا للجيش برتبة مشير، خروجه من العمل السياسي، وهو ما يعبر عن شخصية تختلف عمن يعطون الوعود مع الانقلابات العسكرية، ويكذبون، فيبقون عشرات السنين حتى ينقلب عليهم غيرهم، وحتى تتخلى عنهم القوى الدولية التي تحتضنهم وتستخدمهم؛ أما قول من يقول إن الشعوب تلفظهم، ففيه خلل، فالشعوب لم تطلب أن يستلموا مناصب سياسية أصلا، بل إنها “تمجدهم” بقدر ما يشرّفون أنفسهم هم بأداء مهمتهم الوطنية العسكرية الأصلية خارج صالونات السياسة، ليكونوا في ساحات الدفاع حقا عن الشعوب والأوطان تجاه الأخطار الخارجية، ولكنها إنما “تلفظ” ميل من يميل منهم عن هذا الطريق، سواء حصلوا على ميزات مادية أم لم يحصلوا.

ما الذي تميزت به إذن شخصية سوار الذهب عن سواه من العسكريين من قبل ومن بعد، في السودان وفي سواه؟

عسكريا لا يوجد أمور استثنائية بارزة في سيرة المشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب، خامس رئيس للجمهورية السودانية، المولود ١٩٣٤ / ١٩٣٥م في مدينة الأبيض في السودان، والمتوفى يوم الخميس ١٨ / ١٠ / ٢٠١٨م في الرياض في السعودية.

ربما كان من الاستثناءات أن القسط الأكبر من تأهيله العسكري لم يكن في كليات عسكرية أجنبية بل في الكلية الحربية السودانية، فتخرَّج منها ١٩٥٥ / ١٩٥٦م، وتابع دراسة العلوم العسكرية في جامعة مؤتة الأردنية، وحصل على درجة “الزمالة” من الأكاديمية العسكرية العليا من كلية الحرب “أكاديمية ناصر العسكرية” في القاهرة.

ثم يلفت النظر في مسار سيرته العسكرية لاحقا أنه رفض تسليم حامية مدينة الأبيض العسكرية عندما كان قائدا لها، فأفشل بذلك انقلاب الرائد هاشم العطا عام ١٩٧١م، وكان ضد جعفر النميري، فاستعاد الأخير سيطرته على مقاليد السلطة بعد ثلاثة أيام. ويوجد من يأخذ ذلك على سوار الذهب رحمه الله، ويعتبره دعما للاستبداد العسكري، والأرجح أنه أقرب إلى رفض وسيلة الانقلابات العسكرية بحد ذاتها، وليس تأييدا لسياسات النميري الاستبدادية المتقلبة، فقد كان الخلاف بينهما واضحا، وأدّى بعد عام واحد إلى صدور قرار تعسفي من جانب النميري أخرج به سوار الذهب من الخدمة العسكرية، وألجأه إلى العيش في المنفى في قطر، وهناك لم يقعد عن مواصلة خدماته وفق تخصصه، فقد عمل مستشارا عسكريا لأمير قطر خليفة بن حمد آل ثاني، وساهم إسهاما رئيسيا في فصل أجهزة قوات الشرطة الأمنية عن أجهزة القوات العسكرية، وكانت مندمجة معا تنظيما وتسليحا وحتى من حيث اللباس الرسمي.

وعاد سوار الذهب لاحقا إلى السودان، وكأن النميري شعر بالحاجة إلى رجل مستقيم على رأس القوات المسلحة، بعد أن ضاقت به الأجواء الشعبية والسياسية في السودان، فاستلم سوار الذهب رئاسة هيئة أركان الجيش السوداني ثم وزارة الدفاع، إنما كان موقفه حاسما لاحقا في إسقاط النميري، عبر انحيازه إلى الانتفاضة الشعبية الكبرى ضد النميري أثناء وجوده في الولايات المتحدة الأمريكية، فنزل في القاهرة وعاش في المنفى من بعد.
كان ذلك يوم ٦ / ٤ / ١٩٨٥م – كما سبقت الإشارة – فاستلم سوار الذاهب منصب رئاسة المجلس العسكري الانتقالي في ٦ / ٤ / ١٩٨٥م حتى ٦ / ٥ / ١٩٨٦م أي مع نهاية عهد النميري حتى الانتخابات التي أوصلت الصادق المهدي وأحمد الميرغني إلى السلطة.

 وعندما وقع انقلاب البشير سنة ١٩٨٩م، أي بعد ثلاثة أعوام، كان سوار الذهب قد ترك ميادين المشاركة في الحياة العسكرية والسياسية على السواء، إنما كانت له لاحقا مواقف إيجابية لصالح البشير الذي نحا إلى تبني الاتجاه الإسلامي، وليس هذا مبررا مقبولا فمن المنطلق الإسلامي يجب رفض سلوك طريق الانقلاب العسكري إلى السلطة، ثم التشبث بها كما يصنع عامة المستبدين.

وعندما اندلعت الثورة الشعبية (١٩ / ١٢ / ٢٠١٨م) وأدت إلى إسقاط البشير بدأت جهود التحرك المضاد لها إقليميا بتأييد صامت دولي، ومحليا من داخل الصفوف العسكرية، ليس دفاعا عن البشير، بل دفاعا عن الاستبداد وحرصا على عدم تمكين الإرادة الشعبية الثائرة من السلطة، وبينما تحركت الجماهير الشعبية تعبر بالوسائل السلمية المستطاعة عن رفض التحركات العسكرية، بدأ التحرك على خطين متوازيين، أولهما البطش الإرهابي عبر القنص والاعتقال للناشطين والمتظاهرين سلميا، والخط الثاني محاولة الحصول على تأييد شعبي بأساليب تضليلية، كان منها إنكار وجود أي توجه سياسي، وزعم تبني المطالب الشعبية، وكان منها أيضا استمالة العواطف عبر استحضار اسم سوار الذهب على ألسنة العسكريين، وأشهر ما كان من ذلك ما ورد على لسان الفريق أول ركن، عمر زين العابدين، رئيس اللجنة السياسية المشكلة من جانب المجلس العسكري الذي اختطف الثورة، ومن ذلك القول “نحن أبناء سوار الذهب ولن نخون الشعب”.

كلا..
ليسوا أبناء سوار الذهب رحمه الله، فهو لم يصنع ما صنعوه إذ مارسوا السياسة، وسلكوا بسياساتهم وممارساتهم الداخلية والخارجية ما طعنوا به ثورة الشعب ، ولم يسلم من أفعالهم حتى إرث سوار الذهب نفسه في ميدان العمل الخيري، والذي وجد التقدير الكبير في السودان وفي كل مكان عالميا.

ومن ذلك قرارهم يوم ١١ / ٤ / ٢٠٢٠م إغلاق “منظمة الدعوة الإسلامية” ومصادرة ممتلكاتها، وكانت قد تأسست في السودان عام ١٩٨٠م، واستلم سوار الذهب المسؤولية فيها في موقع رئيس مجلس الأمناء، وساهم إسهاما مباشرا في انتشار أعمالها الخيرية في أكثر من أربعين بلدا إفريقيا، وكان إغلاقها بقرار عسكري يتنكر لمسيرة سوار الذهب نفسه.

ما ينكرونه عليه يقابله ما وجد سوار الذهب من تقدير واسع النطاق، ومن ذلك الكتب التي نشرت عنه، وذكره في مختلف المناسبات المعبرة عن الإرادة الشعبية والرافضة للتدخل العسكري في السياسة، فضلا عن الجوائز التي يعتبر حصول سوار الذهب عليها إسهاما غير مباشر في رفع قيمتها الذاتية، ومن ذلك جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، وجائزة الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم الدولية للخدمات الإنسانية، وجائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، والجائزة الدولية للأعمال الخيرية من مؤسسة “وقف الديانة” في تركيا، التي شهد سوار الذهب أكثر من مرة لصالح رئيسها رجب طيب إردوجان، لا سيما عندما زار السودان أواخر عام ٢٠١٧م.

والواقع أننا اعتدنا على أن نذكر في تقدير سوار الذهب حدث التخلي عن السلطة لصالح الإرادة الشعبية والتعبير عنها بالانتخابات، إنما لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان الجانب الخيري والجانب المعرفي في حياته، وقد ظهر للعيان من خلال دعوته لحضور مؤتمرات عديدة، حيث قدم العديد من المحاضرات والبحوث والدراسات، وكان من عناوينها:

الإسلام والسلام العالمي / الدعوة الإسلامية في أفريقيا / الأقليات المسلمة في أفريقيا / حقوق الإنسان في الإسلام / الإعجاز العلمي في القرآن / النظام العالمي الجديد / الصحوة الإسلامية / التحديات التي تواجه العالم الإسلامي.
كما كان من مؤسسي المجلس العربي للطفولة والتنمية في مصر، وعضو الهيئة التأسيسية للندوة العالمية للشباب الإسلامي في السعودية، وعضو الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية، ونائب رئيس مؤتمر العالم الإسلامي في كراتشي في باكستان.  

وظهرت آثار أنشطته الإغاثية والخيرية في فلسطين والشاشان والصومال وأذربيجان، وساهم في حل الخلافات التي وصلت لدرجة الاقتتال بين موريتانيا والسنغال، وكان عضوا في مجلس قمة السلام العالمي التي تضم عددا من الرؤساء السابقين والخبراء لتخفيف التوتر في مناطق الأزمات.

كما كان سوار الذهب عضوا في العديد من الهيئات الإسلامية العالمية، فكان نائب رئيس المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، وعضو مجلس رئاسة الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية بالكويت، وعضو لجنة تنسيق العمل الطوعي في منظمة المؤتمر الإسلامي، وشغل موقع رئيس مجلس أمناء جامعة كردفان، التي منحته درجة الدكتوراة الفخرية تقديرا لدوره في قيامها، وكان من وراء تأسيس كلية شرق النيل الجامعية، وشارك في تأسيس جامعـة أم درمان الأهلية، وحمل المسؤولية في رئاسة الصندوق القومي للسلام في السودان، ورئاسة هيئة جمع الصف الوطني التي اشتغلت بإيجاد حلول للقضايا السودانية الداخلية، كان له دور متميز في ميادين دعم التعليم والرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية.

رحم الله عبد الرحمن سوار الذهب ورحم كل من سار على طريقه بلباس عسكري أو لباس مدني.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب