كلمة وفاء
أستاذي الجليل أبا أيمن، قد ترددت قبل تسجيل هذه السطور؛ وكم ذا تجنبت الحديث إليك ولو عبر الهاتف في مثل هذه اليوم من كل عام، أو تجنبت الحديث عنها في أي يوم ألقاك فيه وينساب ذكرها دون قصد إلى اللسان، إنما تغلبت على ترددي ليقيني أن هذه الكلمات لن تكون سببا في إثارة ذكرى أليمة، فهي ثائرة على الدوام على كل حال، وما زلت أراها من وراء كل كلام بأي قلم وعلى أي لسان، في دمعة تغالبها على امتداد السنين، ونبضة حية ترافقك في غدوك ورواحك، وإحساس بفقد رفيقة الدرب في منتصف الطريق، وأمل في أن يجمع الله بينكما في مستقر رحمته.
ولا يخفى عليك أن قد خابت الأمنيات -أو محاولات التمنّي- عند كثير من إخوانك وأخواتك، أن يكون في مرور الزمن عاما بعد عام ما قد يهوّن عليك الفراق فيشغلك عن الشهيدة وذكراها ولو قليلا، وأعلم أن لو كان ذلك لما كنتَ أبا أيمن الذي نعرف، إخلاصا للقريب والبعيد، والصغير والكبير، والصديق وغير الصديق، ولَما كنت أبا أيمن الذي يقول:
بَنَانُ يا أُنْسَ أَيّامي التي انْصَرَمَتْ
ولَيْسَ يومُكِ في قلبي بِمُنْصَرِمِ
ويا رفيقَةَ دَرْبي والدُّنا ظُلَمٌ
نَشُقُّ دَرْبَ الهُدَى في حالِكِ الظُّلَمِ
ويا ثَباتَ فُؤادي في زَلازِلِهِ
وبَلْسَمَ الجُرْحِ في نَفَسٍ وفي أَدَمِ
ويا وِقَائي إذا ما كُنْتُ في خَطَرٍ
ويا يَميني ويا سَيْفي ويا قَلَمي
يا واحَةَ الأَمْنِ في ظِلِّ الوَفاءِ ويا
نَبْعَ الحَنانِ وبَرْدَ السَّلْسَلِ الشَّبِمِ
يا بَهْجَةَ الحُبِّ يا نُعْماهُ في كَبِدي
وزَهْرَهُ الحُلْوَ في كُوخٍ وفي أُطُمِ
ويا جَنَاحي إذا حَلَّقْتُ مُنْطَلِقاً
يَسْمُو بنا العَزْمُ فَوْقَ النَّجْمِ والسُّدُمِ
حق لك ألا تنسى أم أيمن لحظة واحدة، وحق لك أن تحمل الأحزان في جوانحك مذ فارقت هذه الدنيا، وحق لك أن تراها في كل وجه من الوجوه الحبيبة حولك، وأن تذكرها مع كل كلمة تكتبها أو تقولها، وأن تستشعر وجودها معك في كل نسمة تستنشقها، وأن تجدد النداء لها مع كل عبرة همّت أن تكشف مكنون فؤادك، وتريد أن تمنعها عن الأبصار فتأبى.
تمضي الأعوام وما زلت أسمع عنها ما لا أسمع مثله عن سواها، كلما ذُكرت، وكم ذا ذكرت، بين أخواتها ممن عرفها بعضهن لبضعة أيام وعرفها بعضهن لبضع سنوات، وفارقتْهن، فتركت عند هؤلاء وهؤلاء مكانا لم يملأه سواها من بعدها، ولم تعوض عنها صحبة كصحبتها، وهيهات هيهات، فقد كانت الأخت الحنونة الشفوقة الصديقة البارّة بكل من عرفت، والأخت الحنونة الشفوقة الصديقة البارة بكل من لم تعرف معرفة مباشرة، ممن تسمع شيئا أو تعلم به عن آلامهن وأحزانهن… لقد أراد الله لي أن أَسْعَدَ بسعادةِ غيري، وأشقى بشقائهم، كما أسعدُ وأشقى من خلال زوجي وأولادي وأسرتي ونفسي؛ فما أعظمَ سعادتي وأوسعَها، وما أشدَّ ما ينطوي عليه صدري من آلام الأشقياء والبؤساء... كما كانت تقول.
عرفنا أم أيمن رحمها الله فيما كانت تلقيه في اللقاءات الإسلامية فتلمس كلماتها الصادرة من شغاف القلب حنايا القلوب، وتترك أثرها في واقع الأخوات اللواتي صاحبنها فتأثرن بكلماتها المتجسدة في واقع حياتها، داخل بيتها ومع كل من تعرف، وكم سمعت عن أخت أتت إلى بلاد الغربة فخففت ببسمتها وصحبتها غربتها، وواجهت من مشكلات الحياة ما واجهت فوجدت ملجأ الأمان لديها، واعترضتها الصعاب فهونتها عليها، واحتاجت إلى حنان الأهل فوجدته عندها، وطلبت المعرفة فانسابت انسيابا منها إليها، وأرى اليوم من بعدها بعض آثارها في أخوات مؤمنات عاملات، وأرى خطاها في خطى هادية وأيمن وأولادهما من بعدها، فيتضاعف يقيني بأن ثواب الله تعالى يغمرها بعد شهادتها كما كان يغمرها في حياتها.
وما زلت أذكر يوم شهادتها وكأنه كان يوم أمس، وأذكر كلماتك وسط العبرات أن قد قتلوها… قتلوها. قتلوها اغتيالا لم يسبق له مثيل في عالم السياسة رغم كل ما فيه من جرائم يندى لها الجبين. وما سمعت عن شهيد أو شهيدة من أطفالنا ونسائنا ورجالنا إلا وذكرت يوم شهادتها، ولا عرفت أحدا من ذوي الضحايا إلا وتذكرت معهم ذويها، واستحضرت في نفسي كلمات أبيها الشيخ الجليل علي الطنطاوي رحمه الله: كلّمني رجل أحسست أنّه يتلعثم ويتردّد، كأنه كُلِّف بما تعجز عن الإدلاء به بلغاء الرجال، بأن يخبرني… كيف يخبرني؟؟؟ ثمّ قال: ما عندك أحد أكلمه؟ وكان عندي أخي. فكلّمه، وسمع ما يقول ورأيته قد ارتاع ممّا سمع، وحار ماذا يقول لي، وأحسست أنّ المكالمة من ألمانيا، فسألته: هل أصاب عصاماً شيء؟؟ قال: لا، ولكن…. قلت: ولكن ماذا؟؟ قال: بنان، قلت: مالها؟؟ قال… وبسط يديه بسط اليائس الذي لم يبق في يده شيء…
وفهمت وأحسستُ كأن سكيناً قد غُرس في قلبي، ولكنّي تجلدتُ وقلت هادئاً هدوءاً ظاهريا، والنار تضطرم في صدري: حدِّثْني بالتفصيل بكلّ ما سمعت. فحدّثني… وثِقوا أنّي مهما أوتيت من طلاقة اللسان، ومن نفاذ البيان، لن أصف لكم ماذا فعل بي هذا الذي سمعت…
كنت أحسبني جَلْداً صبوراً، أَثْبُت للأحداث أو أواجه المصائب، فرأيت أنّي لست في شيء من الجلادة ولا من الصبر ولا من الثبات.
رحمك الله أم أيمن رحمة واسعة، ورحم الله ذويك في الدنيا والآخرة، وأجزل لك العطاء كما وعد عباده المؤمنين الصادقين المخلصين العاملين، وأنزلك منزلك في جنة الخلد، منزل الشهداء مع الأنبياء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وأستودعكم الله رب العالمين ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب