مناجاة
يا سيدي يا رسول الله..
سلام عليك يوم مولدك.. ويوم بعثتك.. ويوم هجرتك.. ويوم وفاتك.. ويوم تشفع لأمتك..
يا سيدي يا رسول الله.. يا ذا الخُلُق العظيم كما شهد لك خالقك جل وعلا..
يا سيدي يا خاتم النبيين مصدقا بما جاؤوا به من قبلك ومتمما لرسالاتهم على صراط مستقيم..
يا سيدي يا سيد الخلق ورسول الخالق رحمة منه مهداة إلى الخلق..
يا سيدي يا رسول الله.. يا أرحم الناس وأرأف الناس وأصدق الناس وأوفى الناس وأعظم الناس وأبر الناس.. يا من صنعت أمة يمكن أن تكون خير أمة أخرجت للناس، إن التزمت بدربك، كما أمر رب الناس..
الناس كلهم – لا قريش فقط – كانوا من قبلك في جاهلية استنسر فيها الطغاة وبغوا، واعتدوا فأجرموا، وحاربوا فبطشوا، يستذل قويهم الضعفاء، ويستغل غنيهم الفقراء، يستعبدون النساء ويحرقون العلماء، يبيدون البشر ويؤلهون الحجر.. ظلمات بعضها فوق بعض، من أقصى الأرض إلى أقصاها، وما شذ فعدل إلا قليل، ولا بر وعقل إلا أقل من قليل، فحملتَ أنت يا سيدي يا رسول الله نور السماوات إلى الأرض، ونشرت رحمة الرحمن، وبينت هدي الهادي، وفتحت بسيرتك أبواب الكرامة والعزة والحق والعدالة والحرية للإنسان، كل إنسان، وانطلقت من قلب مكة والمدينة فطويت صفحة سوداء من تاريخ البشرية، وفتحت صفحة ناصعة على محجة بيضاء، لا تزال تُكتب سطورها إلى يوم القيامة، فمن كان على نهجك فاز بخيري الدنيا والآخرة، ومن كان على غير ذلك فهو إلى ما أراد لنفسه.
* * *
يا سيدي يا رسول الله
قد بلغت الرسالة وصدقت، وحملت الأمانة ووفيت، وأرشدت وبينت.. وبشرت وأنذرت، فما عذرنا وما عذر البشرية من بعدك يا سيدي يا رسول الله؟
أناجيك مناجاة مؤمن بالله عز وجل، بمن خلقك وبعثك لنكون على صراطه المستقيم، وهو القائل في كتابه العزيز {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَئِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} – آل عمران ١٤٤ -.. فواخجلتاه من انقلابنا على أعقابنا من بعدك يا سيدي يا رسول الله؟
كنا أمة واحدة فصرنا شراذم متفرقين، وكنا أعزة أباة، فصرنا أذلة خانعين، وكنا الكماة الغزاة فصرنا في عقر دارنا خائرين، حملنا رسالة الحق والعدل للناس أجمعين وصرنا لا نملك أن ندفع عن أهلينا عدوانا وعن أرضنا ظلما.. صرنا يا سيدي يا رسول الله عاجزين.. عاجزين، صرنا غثاء كغثاء السيل ونحن نعد مليارا ونصف المليار، وتراكم في قلوبنا الوهن على الهوان، والاستكانة على الاستخذاء، فصار ألفُ ألفٍ منا بواحد منهم، وما جرّأهم علينا إلا ما نحن عليه.. فهل نعتذر إليك يا رسوال الله ونحسب ذلك كافيا؟
هل يكفينا أن نذكرك ونمدحك فيما جعلناه “احتفالا” بيوم مولدك حينا، ويوم هجرتك حينا، ونحن على مدار العام مشغولون ومتشاغلون عن التأسّي بما حفلت به كل لحظة من لحظات ليلك ونهارك، يوما بيوم، وعاما بعام، إيمانا صادقا، وعبادة راشدة، وعملا دؤوبا، وأخلاقا عظيمة، وشمائل مضيئة، ومعاملة على البر والإحسان، وعطاء وبذلا بلا كلل ولا ملل ولا منّة ولا انقطاع.. ثم نقول علام نحن على ما نحن عليه، فما صنعنا بأنفسنا من بعدك وما صنعنا بما بلّغتَنا به من كلمات ربك جل وعلا { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} – الأحزاب ٢١ –
نتألم أشد الألم ونغضب ممن يسيئون إليك غضبا عظيما.. وحق علينا أن نتألم ونغضب، فهل نغضب من أنفسنا وقد أسأنا إليها أشد إساءة، فابتعدنا عما أرشدتنا إليه، وأقصيناها عما هديتنا إليه، وقصرنا في تنفيذ أوامر الله كما بلغتها، وتنكبنا كل طريق سلكتَها، من طرق العمل مع الإيمان، والعبادة مع الإحسان، وطلب الآخرة مع عمران الدنيا..
أفلا نغضب أننا لا نعد العدة في أنفسنا ولا نغيرها، في كل ميدان نستطيع أن نحقق التغيير فيه.. ثم نزعم أننا أصبحنا هوانا على الناس، ونحن المؤمنون المسلمون.. فواخجلتاه من ذاك الإيمان والإسلام يا سيدي يا رسول الله
* * *
كم ذا نردد دعاءك العظيم العظيم وقد وجدت ما وجدت في الطائف من بعدما وجدت ما وجدت من الأقربين من قريش مكة (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهَّمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكنَّ عافَيَتَك أوسعُ لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك أو يَحِلَّ عليَّ سخطُك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)..
ولقد نصرك الله وفتح لك فتحا عظيما وغفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر..
نردد الدعاء.. فهل نصنع مع الدعاء مثل ما صنعت.. أو بعض ما صنعت؟
لم تكن تجد يا سيدي يا رسول الله يوم مولدك ويوم بعثتك ويوم هجرتك على الحق من البشر أعوانا إلا القليل، وصنعت من قلب ظلمات الدنيا أمّة عظيمة ووضعت أسس البنيان لحضارة عظيمة.. وجئنا من بعدك، فأبينا أن يعين بعضنا بعضنا، وافترقنا على ألف وجهة ووجهة، وقوّضنا ما ورثناه من حضارة وعمران، وتسولنا على أبواب أعدائنا الموصدة في وجوهنا، وصرنا في ذيولهم أتباعا وفي دروبهم على أهلنا أعوانا، حتى اقتحموا علينا بيوتنا وانتهكوا حرماتنا ومقدساتنا.. ونحن نقول: إننا نحب الله تعالى ونحبك يا رسول الله، وأنت مَن بلغتنا قوله عزّ وجل {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} – آل عمران ٣١ –
* * *
معذرة يا سيدي يا رسول الله.. كيف أحتفل حقا مع من يحتفلون ونحن لرسالتك متنكرون..
معذرة يا سيدي يا رسول الله.. كيف أدعي الانتساب الحق إلى أمتك ونحن عن السير على دربك قاعدون..
معذرة يا سيدي يا رسول الله.. كيف أطلق لساني كما أريد بالدفاع عن مقامك تجاه مَن إلى مقامك يسيئون.. ونحن المسيئون لأنفسنا من بعدك بقدر جهلنا بحقيقة قدرك..
معذرة يا سيدي يا رسول الله.. أصبحنا في عالمنا هذا على هامش الأمم وليس هذا مكان أمة الإسلام التي أردتَ وصنعتَ والتي تفاخر بها الأمم يوم القيامة..
نحن في عصرنا هذا عن دروب العلم والمعرفة متنكبون، وعن راية الوحدة الصادقة في صفّ مرصوص عَمون، وعن حبل الله غافلون ومتغافلون، وعن العمل لجليل الأهداف في طريق مَن أُرسل رحمة للعالمين متخاذلون، وبالصغائر والتفاهات والنزاعات مشغولون وفيها غارقون.. غارقون.. غارقون.. وكلّما قال قائلنا “إلا من رحم ربي” أراد كل منا أن يكون من تلك الزمرة، دون أن يعمل ويسعى ويعطي ويبذل ويصبر ويصابر ويدعو ويجاهد.. حتى أصبحنا نحسب ألسنتنا سيوفا، ونحيبنا تكبيرا وتهليلا، واقتتالنا ونشر الفتن في صفوفنا صراطا مستقيما..
يا سيدي يا رسول الله.. أسأل ربّ العرش العظيم.. أسأل من بعثك بالحق.. ألا يتشبث بالسير من ورائنا، على دروبنا المتفرقة المتشعبة، أولئك الذين خرجوا من أصلابنا، من جيل تدمع عيون فتيانه وفتياته لذكر الرحمن، ويرجو أن يكون على خطى عباد الرحمن، ويبحث عن دروب العمل كما يريد الرحمن.. فإن آمن وعمل، وعبد واتقى، واهتدى وهدى، وعلم وتفوق، وصنع وأبدع، واعتصم بحبل الله قلبا واحدا وصفا واحدا وأمة واحدة، فعسى تشهد له يا سيدي يا رسول الله يومَ القيامة أنه خرج بأمتك من الحضيض إلى قمة الرشاد من جديد، وأعاد لها رسالتها في واقع البشرية حقا وعدلا وخيرا وهديا ورحمة وإحسانا.
ثم عسى ينالنا من دعاء هؤلاء بظهر الغيب ما يرتفع بنا إلى مقام نوال العفو من الله تعالى، وعسى ننال من مغفرته ما وعدنا به، فما نزال رغم قصورنا وخجلنا من قصورنا، نتمتم -كلما ذُكرْتَ- في أعماق قلوبنا وعلى أطراف ألسنتا، ونردد كما أُمِرْنا: صلى الله عليك يا رسول الله وسلم تسليما كثيرا.. صلى الله عليك يا رسول الله وسلم تسليما كثيرا.. صلى الله عليك يا رسول الله وسلم تسليما كثيرا.. ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب