ورقة – تصنيف السوريين.. أرضية معرفية

(سبق نشر نصوص هذا التقرير التحليلي في ثلاث حلقات في أيلول / سبتمبر ٢٠١٣م)

 

كلما دار الحديث عن سورية وثورتها الشعبية من خارج نطاقها الثوري والشعبي، تكرر استخدام عناوين من قبيل "الأقليات"، "المجموعات المتطرفة"، "التقسيم"، "الطائفية".. وما شابه ذلك، ولا ينبغي التعامل من قلب الثورة مع هذا الطرح الخارجي دون تصور ذاتي مشترك، من مكوّناته الضرورية وجود أساس فكري معرفي لضبط المصطلحات المتداولة، لا سيما مع تحولها من "ضوابط" للكلام والتفاهم إلى "أدوات" للصراع السياسي وغيره. ومن شأن المنطلق "المعرفي" المشترك أن يعزز الوعي الذاتي بالقضية وأبعادها السياسية، فيساعد في البحث عن خطوات عملية لمواجهة الإشكاليات المعنية.

هذا ما يتناوله هذا البحث في ثلاثة عناصر:

(١) عناصر الإشكالية (٢) رؤية معرفية (٣) إطار لتحرك عملي

 

(١) عناصر الإشكالية

عمومية معطيات الواقع – خصوصية الوعي المعرفي

 

عمومية معطيات الواقع

في سورية وبلدان أخرى في المنطقة العربية والإسلامية عدد من الفئات المصنفة وفق المعتقد الديني، أكبرها المسلمون السنّة، ولو أردنا حصر تلك الفئات فربما وصلت إلى عشرين أو ثلاثين فئة، في نطاق ما يناهز مليارا ونصف المليار نسمة، يقطنون في بضع وخمسين دولة "إسلامية بغالبية سكانها" وفي دول أخرى.

للمقارنة.. في قارة أوروبا حوالي خمسمائة مليون نسمة يقطنون في بضع وأربعين دولة، ويوجد أكثر من مائتين وخمسين طائفة دينية كاثوليكية، وزهاء مائة وخمسين طائفة دينية بروتستانتية، فضلا عن مئات الطوائف الدينية الأخرى.

ما يسري في المقارنة على هذا التنوع الديني يسري على التنوع العرقي والتوجهات السياسية وغيرها بما في ذلك ما يوضع في خانات تعصب وتشدد وتطرف وإرهاب، بل يتجاوز هذا التنوع الجغرافيا الإسلامية والأوروبية وينتشر في أنحاد المعمورة دون استثناء.

لا خصوصية إذن لمعطيات التنوع البشري في سورية، ولا يصح الزعم القائل إن الفارق يكمن في استخدام العنف هنا وغيابه هناك، فالنزاعات موجودة في أوروبا أيضا بأشكال متعددة، كما تشهد بلجيكا وبريطانيا وإسبانيا وإيرلندا الشمالية والبلقان والبلدان الشيوعية سابقا كأمثلة، وغالبا ما بلغ استخدام العنف في كثير من هذه المناطق درجة الاقتتال.

المهم أمران:

(١) رفض التعامل مع التنوع البشري عبر التمييز والمظالم، في حالة السلم وحالة العنف على السواء.

(٢) رفض الازدواجية في توظيف عنصر التنوع البشري أثناء التعامل مع النزاعات عندما تقع.

ونحن نرصد بوضوح:

في نطاق النزاعات في أوروبا مثلا لا تُطرح الحاجة إلى "وصاية دولية أو أجنبية" لصالح أقلية ما -إلا نادرا- سواء تمردت سياسيا أو تمردت عسكريا، وسواء كانت موضع ظلم فاضح أم لم تكن، والشواهد ماثلة بين أيدينا من كاتالونيا والباسك في إسبانيا، وكورسيكا في فرنسا، وإيرلندا الشمالية، وشمال إيطاليا، وويلس واسكوتلاندا وغيرها، فالأمثلة كثيرة، أما الاستثناءات فكانت في منطقة البلقان تخصيصا.

بالمقابل لا ينقطع اتباع أسلوب الوصاية الخارجية (وأبرز تطبيقاتها في القرنين الماضيين: حصيلة مؤتمرات السلام الدولية حول نزاعات إقليمية عديدة) للتعامل مع مستقبل هذه الفئة أو تلك في بلدان أخرى، غير الغربية غالبا، وشبيه ذلك ما طرح تحت عنوان "مؤتمر جنيف" في التعامل مع ثورة شعب سورية.

وهذا ما يسري عموما على التعامل الدولي مع سورية عند الحديث عن المسيحيين، والعلويين، والأكراد، وغيرهم، وكثيرا ما يقترن بتزوير الحقائق، كالقول إن هذه المجموعة أو تلك لا تعاني من الإجرام الاستبدادي الأسدي، وقد تعاني بعد سقوطه القريب.

من يأخذ بذلك من خارج سورية ومن السوريين يساهم من حيث يقصد أو لا يقصد في ترسيخ تلك الازدواجية المرفوضة.

الاستبداد لا دين له ولا مبدأ، وإن كان يعمل -دوماً- على استغلال التعددية الدينية وغير الدينية أداة لتبقى "الفئة الاستبدادية" مسيطرة على الجميع، حتى وإن غلب اعتمادها على فئة بعينها أكثر من سواها كما هو الحال في سورية خلال الحقبة الأسدية المظلمة.

 

خصوصية الوعي المعرفي

هل يطرح الغربيون خاصة -وبعض من يتبنّى ما يقولون- أسلوب التعامل مع ما نضع له هنا عنوان "تصنيف السوريين" بسبب جهل بالواقع، أو انحياز متعمد، أو أي دافع آخر، ممّا يأتي الردّ التقليدي عليه غالبا: "هذا فكر المؤامرة" أم أنّ لهذا الطرح جذوره التي تجعله في نظر أصحابه بدهيا؟

أسلوب التعامل مع التنوع البشري مرتبط تلقائيا بالمنظومة الفاعلة (قيم.. مثل.. مبادئ إلى آخره) في مسيرة حضارية معينة، في إطار تعاقب الحضارات البشرية زمانا ومكانا، فلا ريب في تأثير هذه المنظومة على الغربيين وعلى من يتبنّى ما يقولون بصدد أسلوب التعامل مع "التصنيف" المذكور للسوريين، وسواهم أيضا.

فلننظر في بعض المحطات المعرفية الحاسمة التي يستشهد بها الفكر الغربي في مسيرة تكوين الحضارة الغربية الحديثة، وسنجد: 

١- مدينة "فاضلة" أفلاطونية تقوم على ثلاث طبقات، الحكام والعسكر والدهماء..

٢- صورة مشابهة فيما عرفته الامبراطوريات الرومانية والجرمانية وغيرها..

٣- ما سمي "اكتشاف" العالم الجديد واقترانه بإبادة غالبية "سكانه" من الهنود الحمر..

٤- ما كان من صور مشابهة فيما سمي "الاكتشافات الجغرافية" مع انتشار الاستعمار الأوروبي..

٥- حروب أوروبية قارّية ارتبط تعليلها بالتنوع البشري، كحرب المائة عام وحرب الثلاثين عاما وحرب الفلاحين..

٦- اقتتال القوميات الأوروبية الناشئة حتى بلغ ذلك الحضيض الأدنى في الحرب العالمية الثانية..

٧- ارتباط التاريخ الأمريكي بالقهر والعنف في التعامل مع السود والملونين والأمريكتين الوسطى والجنوبية..

والسؤال:

هل استطاعت مسيرة "التنوير" و"الحداثة" أن تتخلص من مفعول "العنصرية" و"الطبقية" و"صراع القوة" في تلك المحطات التاريخية وغيرها، لترسّخ بدلا من ذلك منظومة الحريات والحقوق وما انبثق عنها في التعامل مع التنوع البشري؟

لا شك في العمل من أجل ذلك ولا شك في تحقيق قسط كبير من النجاح، ولكن تسرّب أيضا قدر لا بأس به من إرث الوعي المعرفي التاريخي للعنصرية والصراع إلى قلب البنية الهيكلية للحياة الديمقراطية الغربية الحديثة، وهو ما تناول محورين:

١- محورا داخليا.. عنوانه القاعدة السائدة وكأنها "بدهية معرفية": الحقوق تنتزع انتزاعا، أي بالقوة، بمختلف أشكالها، وهذا رغم تناقضها مع العنوان الأشمل: "العقد الاجتماعي"، ومن الشواهد على نتائج ذلك في واقع الحضارة الغربية: مسارات الحركات العمالية والنسوية والمدنية الحقوقية، وكذلك جولات الصراع الأحدث تاريخيا مع هيمنة المال ورؤوس الأموال.

٢- محورا خارجيا.. عنوانه الفكر المركزي الأوروبي أو ما يصفه المفكرون الغربيون بأن أوروبا هي المركز الحضاري -أي المصدر للمنظومة القيمية- وما سوى ذلك هو "أطراف" العالم، وسورية كجميع البلدان الأخرى غير الغربية، هي الأطراف التي ينبغي أن تكون في موقع المتلقي.

ويقتضي ما سبق تأكيد الحاجة إلى رؤية معرفية ذاتية للتعامل من داخل نطاقنا مع معطيات قائمة لدينا.

 

رؤية معرفية

مخاطر متنوعة – "شيطنة" الوعي المعرفي الذاتي

 

مخاطر متنوعة

إلى أين يصل بنا الحديث عن كون الواقع القائم بشأن التنوع البشري في سورية جزءا من واقع قائم في كل مكان، وعن خصوصية الوعي المعرفي وما لهذا من أثر في التعامل "الخارجي" مع التنوع البشري في سورية، واتباع أسلوب "تصنيف السوريين" في هذا الإطار وفق معايير معرفية خارجية؟

في حدود الحديث من المنظور الثوري والشعبي السوري عن مسألة التنوع البشري أو "مسألة تصنيف السوريين" نحتاج إلى التمييز بين الأخطار المحيطة بمسار الثورة الشعبية في سورية، الآن، وبعد إسقاط بقايا النظام، وبالتالي إلى تمييز أشكال التعامل معها أو مواجهتها.

أولا..

نواجه خطرا خارجيا، سيان هل نرصده تحت عنوان "عداء مستحكم" أو نرصده تحت عنوان "مفعول إرث حضاري مسيطر".

إن نسبة عالية من الغربيين، تشمل العامة وفريقا من المثقفين والمفكرين، لا يتصورون أن تقوم العلاقات داخل نطاق الشعوب الأخرى، كشعب سورية، ما بين الفئات المتعددة على أساس "حرص الجميع على حقوق الجميع" -مع أن هذا ما يُفترض فهمه عبر مصطلح المواطنة- بل يتوقعون "الصراع" أمرا حتميا.. ويتوقعون أيضا أن يكون مجراه وفق المألوف تاريخيا لديهم، أي:

لا يحصل الطرف الأضعف على حقه مهما صنع.. بل يجب انتزاعه انتزاعا، بالقوة بأشكالها المختلفة، والقوة غير متوافرة للأضعف، وهم في حالة سورية -بنظرهم- الفئات الشعبية الأصغر، دينيا وعرقيا وتوجها سياسيا..

ووجه الخطر في هذا التصور:

ما داموا يتعاملون مع شعوب "أطراف العالم"، فالحل في نظرهم هو التدخل بجميع أشكاله (من التدخل الفكري حتى التدخل العسكري) لصالح فئات بعينها ضد الغالبية المتهمة.

ثانيا..

نواجه خطرا داخليا يكمن في صيغتين:

١- وجود من يتبنّى الرؤية المعرفية الخارجية وربما الحلول التي تطرحها، وهذا ما لا يقتصر على الفئات الأضعف عددا في التنوع الشعبي، وقد يبلغ ذلك درجة وصمهم بأنهم "الطابور الخامس"، فتتحول علاقات المواطنة الداخلية نفسها إلى علاقات "صراع" تستند إلى رؤى التمييز والعنصرية والتعصب.. 

٢- وجود من تأثر خلال الحقبتين الاستعمارية والاستبدادية بغلبة نشر الرؤية المعرفية الخارجية، تأثرا واجهه بردة فعل خطيرة، فتبنّى تصورات يغلب عليها مفعول "العنصرية والصراع" تجاه الآخر، وهو ما يصل إلى درجة التطرف والعنف وإن بقي ذلك إجمالا محدود العدد والانتشار.

ثالثا..

نميّز عن خطر الفريقين السابقين، الذي يحتاج التعامل معه إلى وسائل معرفية سلمية، خطر فريق ثالث من الخارج، تمثله القوى المهيمنة عالميا، ومن الداخل، يمثله من يرتبط معها ومع القوى الاستبدادية الداخلية، ارتباطَ تحالفٍ منفعي مرفوض، وهؤلاء يتعاملون مع أحداث التغيير التاريخي -من قبيل الثورة الشعبية في سورية- باستخدام عوامل "التنوع البشري" عمدا، كأدوات لنشر الفوضى الهدامة -وهذا سرّ تسميتها: الفوضى الخلاّقة- فالمطلوب عندهم: إيجاد أوضاع مضطربة جديدة تنسجم مع ما يريده أصحاب تلك المقولة، بهدف التمكين للهيمنة الأجنبية والاستبداد الداخلي معا.

هذا محور ما تواجهه الثورة الشعبية في سورية قبل تحقيق هدفها الأول: إسقاط بقايا النظام، وسوف تواجهه بعد ذلك أيضا، وهو عين ما تواجهه الآن بلدان ثورات الربيع العربي الأخرى، حيث سقط "رؤوس" أخطبوط الاستبداد فحسب.

ينبني على ذلك:

قد تتعدد أساليب التعامل مع واقع التنوع الشعبي أو إشكالية تصنيف السوريين، ويجب أن تتعدّد في إطار ما يجب صنعه أثناء مسار الثورة، ولكن ينبغي أن يقترن ذلك بما يمكن وصفه برؤية بعيدة المدى، فكل إشكالية ذات عمق معرفي وثقافي تتطلب حلولا مستدامة تتجاوز حدود "إجراءات" و"تطمينات" و"اتفاقات" وتقترن بجهود فكرية ومعرفية وتربيوية وسلوكية شاملة وواسعة النطاق نوعيا وزمنيا.

 

شيطنة الوعي المعرفي الذاتي

جزء من الإشكالية موضع الحديث "معضلة" يعرفها علماء الاجتماع، فهم عندما يدرسون حدثا تاريخيا مضى، يستندون إلى "مناهج وقواعد علمية" سبق أن استقرت وظهرت صلاحيتها للوصول إلى نتائج سليمة نسبيا، أما عندما يدرسون "حدثا تغييريا جاريا" فلا تصلح معه تلك المناهج والقواعد، لأن التغيير الجاري -كما هو الحال مع الثورات- يوجد عوامل جديدة تؤثر عليها ولم يسبق اختبار مدى سلامة تلك المناهج والقواعد السابقة في التعامل مع المستجدات ليؤخذ بها في دراستها.

نطبق ذلك على حالة "الثورة" الشعبية في سورية فنجد:

١- الثورة تصنع وضعا مستقبليا جديدا، "سوف" يستند إلى مناهج وقواعد جديدة، تصنعها الثورة وتسود وتنتشر تدريجيا، ولنطلق عليها وصف "المنظومة القيمية الثورية“..

٢- لا تزال الأطراف المتعاملة مع حدث الثورة تنطلق من منظومة كانت سارية المفعول قبل الثورة، ولم تعد صالحة بالضرورة للتعامل مع المتغيرات من خلالها..

٣- "المنظومة القيمية الثورية" هي الآن في طور "التكوين"، عبر مسار الثورة، فلم تكتمل ولم تستقر بعد، ولكن لا غنى عنها وعن مفعولها لاستيعاب المتغيرات والتعامل معها "الآن" على طريق انتصار الثورة نفسها..

لعل هذه "المعضلة المعرفية" في مقدمة أسباب قصور العامل السياسي عن استيعاب الثوري، وإلى حد لا بأس به قصور "النخبة المثقفة" عن التعامل الإيجابي مع الحدث التغييري التاريخي الجاري.

هذا جانب من الجوانب العديدة المعروفة في مسار الثورة الشعبية في سورية، ولكن يتضاعف أثره السلبي على هذا الصعيد وعلى أصعدة أخرى لأسباب عديدة، محورها:

كل ثورة "شعبية" بمعنى الكلمة، تنشأ منظومتها القيمية المعرفية من قلب الوعي المعرفي الحضاري والتاريخي الذاتي.

الواقع القائم الذي تريد الثورة تغييره ينطوي على جوانب عديدة يمكن تسميتها وفق التعبير السائد حديثا: "شيطنة" مفاهيم معرفية من وعينا المعرفي الحضاري والتاريخي الذاتي.

من الأمثلة ذات العلاقة بموضوع الحديث، لاسيما ما يرتبط بالإسلام و"الأقليات الدينية"، مفهوم كلمة "الرعية"، من "الرعاية"، وهي شاملة لميادين عديدة منها ميدان السلطة، المرتبط بالعدل بين الناس، وليس بين المسلمين فقط، ومقتضى مفهوم كلمة الرعية بهذا المنظور لا يختلف عن مقتضى كلمة "المواطنة" الحديثة نسبيا، ومن الشواهد على ذلك مسؤولية الفاروق رضي الله عنه عن الرعية، إذ شملت التعامل بالحق والعدل مع "مظلمة قبطي من مصر" كسواه، كما شملت فرض التأمين التقاعدي لصالح فرد يهودي من الرعية، لأنه "مواطن" بالمفهوم الحديث.

ويجسد المثال الأول المساواة في المحاسبة والمثال الثاني المساواة في الحقوق.

يوجد من يمارس "شيطنة" مفاهيمنا المعرفية بأسلوب التهكم والسخرية فحسب، ويكفي إهماله ردا عليه، ويوجد من يربطها فلسفيا بمفاهيم مرفوضة، ولكن لا علاقة لها بوعينا المعرفي الحضاري والتاريخي، مثل ربط مفهوم "الرعية" بمفهوم كلمة "الأبوية" ذات الجذور الكنسية والفلسفية الأوروبية.

ويوجد من رأى الجواب المنهجي على "شيطنة المفاهيم المعرفية" عبر "أسلمة المعرفة"، التي تتجاوز حدود إعطاء لباس إسلامي لمصطلحات حديثة من قبيل المواطنة والديمقراطية والحريات العامة والدستور وفصل السلطات وسيادة القانون واستقلال القضاء، وتشمل ربط المضمون اللغوي والفلسفي التاريخي للمصطلحات بالمضمون الإسلامي معرفيا.

لعل المطلوب مع استكمال نشأة المنظومة القيمية الثورية في سورية (وعموما) أبعد من ذلك، وجوهره: إعطاء أي مصطلح قديم أو حديث للعلاقات البشرية مضمونا حضاريا إنسانيا شاملا، وهذا ممّا يرسخه الإسلام بنصوصه الشرعية ذات العلاقة بالتعامل الحقوقي والسياسي بين البشر، إذ يجعلها شاملة للمسلمين وسواهم، أي لجنس الإنسان.

ويتطلب ذلك فيما يتطلب تجريد المفاهيم ذات العلاقة من مؤثرات معرفية تاريخية سلبية، وربطها بالمؤثرات المعرفية التاريخية الإيجابية، لتحديد الموقف المطلوب إزاءها، تبنيا أو رفضا، مثل مفاهيم "العنصرية" و"الصراع" و"العنف"، وكذلك "الأقليات" و"الطائفية" و"التعصب"، وسيان في هذا المجال أين ولدت ونشأت تلك المفاهيم وكيف ترعرعت وهيمنت، في تاريخ البشرية زمنيا وفي أنحاء المعمورة جغرافيا.

وهذا في صميم ما نحتاج إليه في التعامل المعرفي مع مسألة التنوع البشري في سورية وسواها، لنتمكن من التعامل الهادف عبر وضع إطار مناسب لخطوات عملية مع ما يطرح من صور مرفوضة في "تصنيف السوريين".

 

إطار لتحرك عملي

بين واقع ثوري وضعف فكري وسياسي – إطار ثوري لخطوات عملية

 

بين واقع ثوري وضعف فكري وسياسي

لا أحد يستطيع معالجة إشكالية "تصنيف السوريين" أثناء حقبة الثورة، كما لو أنها دراسة "أكاديمية"، فهي واقع قائم وجزء من الحاجة إلى عناصر أساسية لبناء المستقبل المنشود، إنما لا بد من اقتران أي إجراءات عملية بمعالجة الضعف الآني فكريا وسياسيا، بحيث تتضافر الشروط الضرورية لتحديد الخطوات العملية وفق أبعاد الإشكالية المعرفية والواقعية والمستقبلية معا.

وليس مجهولا عند الطرح الفكري أنّ الثورة الشعبية في سورية تميزت بالعفوية الشعبية انطلاقا، وبمفعول الحقبة السابقة على الواقع الشعبي تاريخيا، وبالعمق المنتظر لتأثيرها حضاريا وجغرافيا.. ولجميع ذلك إيجابيات وسلبيات عديدة، لبعضها علاقة مباشرة بموضوع الحديث عن "تصنيف السوريين".

كل خطوة عملية تطرح للتصرف في أي جانب من جوانب الثورة الشعبية يجب أن تراعي بصورة موضوعية لا مبالغة فيها سلبا أو إيجابا، أنّ الثوريين أصبحوا في واد أو أكثر، والسياسيين في أودية متشعبة، والمفكرين تحت تأثير تناقضات شتى بين الماضي والحاضر والمستقبل، إلى جانب المعاناة التي أصابت النسبة الأعظم من الشعب بأكمله، وجميع ذلك وسط تغوّل دولي وإقليمي على فرض صيغ مستقبلية للوطن وأهله.

يمكن بصدد إشكالية "تصنيف السوريين" طرح مثال على المقصود بما سبق، وهو الحملة المعروفة ضد وجود "أفراد غير سوريين" في ساحة الثورة الشعبية في سورية.

نحن هنا أمام عامل معرفي تاريخي من جوانبه: "شيطنة" مفاهيم الوحدة والأخوة الإسلامية والقومية والإنسانية جميعا.. علما بأن كثيرا ممّن يمارسون "الشيطنة" هم أنفسهم "من خارج الثورة" وخارج نطاق الشعب الثائر، فيتناقضون مباشرة مع ما يطرحون، وكذلك مع ممارساتهم التي تصنع "شراكة" تتجاوز الحدود السياسية أو الوطنية دوما..

لا يقتصر الأمر في المثال المذكور على جانب "معرفي" ذاتي ولا أجنبي، بل يتعدّاه إلى اتخاذ مواقف وإجراءات، من خارج نطاق الثورة والشعب الثائر، ويتجاوب معها فريق من السوريين أنفسهم، لا سيما في القطاع السياسي..

بالمقابل نجد أنفسنا أمام عوامل واقعية عديدة من بينها أنّ فريقا ممن يعرّضون أنفسهم للشهادة من أجل "تحرر سورية شعبا ووطنا" انطلاقا من الإيمان بأن هذا شكل من أشكال الجهاد في سبيل الله، قد تجاوز حدود الرسالة السامية التي ندب نفسه لحملها، سواء من حيث طرح ما يراه من تصورات "حتمية" لصياغة مستقبل شعب سورية ووطنه ودولته، أو من حيث ما يمارسه من تصرفات يتوهّم أنه يطبق من خلالها تلك التصورات "الحتمية" كما يقررها لنفسه ويفرض نتائجها العملية دون وجه حق على سواه.

نحن بذلك أمام "مقدّمات" توجب القول بعدم وجود "خطوة عملية بسيطة" للتعامل مع هذا الجانب -كمثال على سواه- إذ يجب الجمع في وقت واحد بين عوامل عديدة يبدو للوهلة الأولى أن الجمع بينها ضرب من المستحيل، منها على سبيل المثال لا الحصر:

١- إصلاح الخطأ بخطوة عملية واجب.. على ألا تسبب ضررا أكبر من الضرر الناجم عن الخطأ نفسه.

٢- التوقيت السليم ضروري.. كيلا توظف أي خطوة عملية في خدمة أغراض تناقض الهدف منها.

٣- لا بد أن تقوم الخطوة العملية على أساس أن علاج "انحراف التصور" يتطلب "طرح التصور السليم" وليس تصورا منحرفا مضادا، ناهيك عن تصرف منحرف، وأن علاج "انحراف التصرف" يتطلب التصور السليم والتصرف المضاد السليم" معا.

٤- لا بدّ أن تكون الخطوة العملية المطلوبة خطوة من قلب الثورة، فليس "تصنيف السوريين" ولا تقرير ما هو التطبيق العملي الأصلح لشعب سورية وثورته، من صلاحية أي جهة خارجية، معادية أو داعمة، دون استثناء، ولا يمنع هذا الاستماع إلى رأي ونصح، ولكن في صيغة "رأي الآخر ونصحه".

 

إطار ثوري لخطوات عملية

قبل طرح أي خطوة عملية، يجب التنويه:

يظهر حجم المهمة الكبيرة المطلوبة تحت عنوان صغير "إطار لتحرك عملي" بالإشارة إلى أن الحديث عن "ثوار من خارج سورية" ليس إلا مثالا واحدا، وبين أيدينا أسئلة عديدة لا تحصرها قائمة قصيرة في بحث فكري قصير، مما يرتبط بالتعامل مع "تصنيف السوريين" عقديا، وعرقيا، وتوجها سياسيا، وارتباطا جزئيا بالاستبداد والفساد، وتورطا في جرائم الاستبداد والفساد، فضلا عن تصنيفات لا حصر لها للثوار أنفسهم وفق تسميات لا تعتمد على أسس قويمة في عالم الفكر ولا السياسة ولا القانون، من سلميين ومسلحين وجهاديين ومتطرفين ومعتدلين وقاعديين ومتهورين ومخترقين.. وتصنيفات أخرى للسياسيين، بين إسلاميين وعلمانيين وهواة ومحترفين ومستقلين ومرتبطين بقوى أجنبية ومخلصين ومتسلقين.

١- لا يمكن حلّ إشكالية مرتبطة بمسار الثورة عن طريق "نقل" صيغ عامة كما هي وإن ثبتت صلاحيتها في حالات معينة، مثل العدالة الانتقالية، دون اختيار التوقيت المناسب وتفصيلها على المعطيات الخاصة بالحالة السورية، ولا يمكن الحل أيضا عن طريق إسقاط مبادئ قويمة مثل "التسامح" على حالة لا يمكن الخروج منها دون "العدالة" و"التسامح" معا.

٢- لا يمكن أن "يتفضل" بحلّ إشكالية مرتبطة بواقع الثورة أي طرف، فردا كان أم هيئة، من وراء أبواب مغلقة، في فندق فخم، أو مكتب شخصي متواضع، بل ينبغي الجمع -رغم الظروف الصعبة للغاية- بين التفكير النظري عن بعد، والواقع الميداني على الأرض.

٣- الثورة الشعبية في سورية بالذات إبداع شعبي تاريخي غير مسبوق، وكل إشكالية من الإشكاليات في نطاقها أو ذات تأثير على مسارها أو مرتبطة بها، تفرض حلولا "إبداعية" بعيدة عن الأساليب التقليدية المعتادة من حقبة ما قبل الثورة.

هذه العناصر الأساسية وعناصر أخرى ترتبط بالموضوع، تجعل أي طرح عملي، من جانب أي فرد أو جهة، لا يتجاوز حدود "اقتراح" يمليه الإحساس بالمخاطر المترتبة على غياب محاولة حل الإشكاليات، ولا يكتمل دون المتابعة بما يستكمله ويستكشف ثغراته، مع التصحيح والتقويم والتجربة العملية.

قد نحتاج في مسار الثورة مثلا إلى هيئة من قبيل ما طرح في مطالعها كهيئة حكماء، ولكن لا يجهل أحد أن الدعوة إلى ذلك لا تجد صدى إن صدرت عن جهة من الجهات، لها راية معينة، أو غلبت على اسمها شبهات ما، أو كانت منفصلة عن واقع الثورة نفسه، أو كان "الحكماء المقترحون" أنفسهم موضع اتهام ثوري وشعبي وربما تاريخي أيضا.

رغم ذلك لا بدّ من صدور الاقتراح العملي عن "جهة ما" وسيفرض نفسه بمقدار ما تتوافر في تلك الجهة وفي مضمون الاقتراح نفسه الشروط المراعية للعناصر الأربعة المذكورة، وآنذاك سيكون المعيار الحاسم هو حجم التجاوب معه، وربما انتقاله إلى حيّز التنفيذ، عبر السؤال:

ما هو حجم انتشار الاقتناع بأنه اقتراح يخدم الثورة، والوطن، والشعب، في وقت واحد، بمنظور مستقبلي مفروض، فآنذاك يؤخذ به سيان عمّن صدر، وبأنه لا يلحق الضرر بالثورة أو الوطن أو الشعب، بمنظور مستقبلي مرفوض، فآنذاك لن يؤخذ به سيان عمّن صدر.

نبيل شبيب