تحليل
ليست الهجمة الماكرونية الفرنسية على حرية المرأة في اختيار ملبسها هي الهجمة الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، ولا حاجة إلى الخوض في جدال حول تفاصيلها ما دامت الضوابط المنطقية للجدال غير ممكنة، إنما هي بعض الملاحظات:
١- ما الذي يعنيه التركيز المتزايد منذ عقود على اللباس النسائي المحتشم، مع استخدام الضغوط القصوى للتخلي عنه، سواء كان حجابا أو برقعا أو بوركيني كما سميت ألبسة ساترة للسباحة، أو عباءة، أو شادور، أو سوى ذلك؟
٢- ألا يعزّز هذا التركيز صواب قول من كانوا يعيبون على حداثة التقدم الغربي، ويقولون إنما تستهدف فيما تستهدف الانحلال والإباحية تحديدا، بعيدا عما يوضع من عناوين لذلك من قبيل حرية الملبس والفكر وتحصيل العلم وحرية التعبير والإعلام وتحصيل المال، وغير ذلك من فروع الحريات والحقوق، وحتى بعض الواجبات أيضا كواجب العمل مقابل الأجر، وقد بات دفع المرأة إليه مما يفرضه تفكك الأسرة وتشويه بنيتها الهيكلية!
٣- عندما انطلقت هذه الممارسة من جانب العلمانيين في بلادنا، لا سيما في تركيا وتونس ومصر ولبنان، كانت تحمل عموما عنوان تحرير المرأة، ولكن رغم جهودهم الهائلة انتشر اللباس المحتشم انتشارا واسعا في هذه البلدان الإسلامية وغيرها، وكذلك حيثما ارتفعت نسبة المسلمين في بلدان أخرى، عبر الهجرة وعبر اعتناق الإسلام، فما الذي يمكن رفعه من عناوين ترويجية لمواصلة ممارسات ودعوات تنطوي على إرغام الفتيات والنساء على ارتداء ما يريده العلمانيون وليس ما يردن هنّ، أليس هذا من قبيل استعباد المرأة؟
٤- لطالما زعم العلمانيون أن المسلمين لا يفكرون بالمرأة إلا عبر المنظور الجنسي، ولهذا يريد الرجال من النساء لباس الاحتشام؛ وهو تناقض عجيب، ولكن أليس ما يجري الآن في فرنسا، شاهدا على أن الدعوات العلمانية تدور وتدور بشأن المرأة حول طاحونة المنظور الجنسي، وأنهم لهذا يريدون منها ارتداء الألبسة الفاضحة!
٠ ٠ ٠
٥- تركيا بالذات مثال شاهد على نفسها وعلى سواها، فقد سبقت بلدانا أخرى على هذا الطريق، وما جرى ويجري فيها بهذا الصدد نموذج على ما جرى ويجري في سواها بصور مشابهة، وما يقال الآن عنها يمكن أن يقال عن سواها، وقد أصبح يدور محوره منذ بداية الألفية الميلادية الثالثة، حول أمر أساسي، هو ما أطلق العلمانيون عليه ووسائل الإعلام عليه وصف معركة الحجاب، وقد خسروا ما اعتبروه معركة.
٦- هم الذين جعلوا من الحجاب قضية، وهم الذين وضعوا أنفسهم بذلك في موقع لا يُحسدون عليه، بعد أن وصل خصومهم من حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عبر ثقة الناخبين، علما بأن زعماء الحزب لم يترددوا عن إدراج أسماء نساء علمانيات سافرات للترشيح باسمه.
٧- إن العنصر الأهم في التجربة التركية مع قضية الحجاب، أن الأقرب إلى الإسلام وإلى تبني احتشام المرأة اتخذوا مواقع العمل السياسي لإلغاء القوانين والممارسات التي تدور حول الإكراه عموما، إكراه الرجال وإكراه النساء، في قضية الحجاب وسواها، بما يشمل مثلا حق العلم الجامعي بحجاب ودون حجاب.
٨- ألا ينبغي أن تتعلم العلمانية الماكرونية في فرنسا حاليا من الدروس التي مرت بها العلمانية العسكرية في تركيا من قبل؟
٩- لقد انقلبت المعادلة رأسا على عقب، وتحوّل دعاة حرية المرأة إلى دعاة كسر إرادتها وظهر أن من كانوا متهمين بإرغام المرأة على الحجاب وسواه هم دعاة تحريرها. ألا ينبغي على الأقل أن تحترم العلمانية مبادئها الأولى قبل أن تقضي عليها الاتجاهات المنحرفة من عهد شيراك حتى عهد ماكرون؟
١٠- ألا ينبغي لهذه العلمانية أن تدرك أن تحرير طلب العلم والمعرفة والحقوق وحرية الإرادة يستحيل تحقيقه ما دام امتلاك قوة المادة مسيطرا على محاور الالتزام الحرّ بالقيم والأخلاق.
١١- إن قضية المرأة جزء لا ينفصل عن قضية الإنسان، ومحورها أن يصنع الفرد ما يريد وليس ما يريد من يسيطرون بقوة عسكرية أو مادية أو سواها. وأن يقتنع بما يريد، وأن يكيّف لباسه وطعامه وشرابه وسلوكه ومختلف جوانب حياته، كما يريد، وليس تبعا لأهواء من يسيطرون على أسباب القوة المادية، وهذا ما يعنيه رفض كل ضرب من ضروب الإكراه، العلماني وسواه.
١٢- إن ما شهدته تركيا وهي مثال نموذجي، هو تحوّل جماهيري، من الانصياع لِما سبق فرضه بوسائل الإكراه والتضليل معا، إلى التمسّك بالحقوق الأصيلة، ومن بينها مسألة لباس المرأة وحجابها. لم يصنع حزبُ العدالة والتنمية شعبَ تركيا والناخبين، بل الشعب هو الذي حقق التحول الجماهيري، على صعيد لباس المرأة وعلى صعيد مختلف الميادين الأخرى، بدءا بحرية التعبير، وصولا إلى إحباط محاولة انقلاب عسكري آخر.
١٣- لقد جعلوا من الحجاب قضية في تركيا وسواها وخسروها لأن المجتمعات من المسلمين وسواهم لا تتحوّل بأساليب الإكراه بل وفق التأثير العميق والطويل المدى لمنظومة العقيدة والقيم والأخلاق.
١٣- هذا ما يجعل قضية المرأة كبقية فروع قضية الإنسان هي في محور ما يجري باتجاه تحوّل حضاري شامل له جذوره وأسبابه ودوافعه ومساراته وقوانينه وسننه، فمن يراعيها يحقق النجاح ومن لا يراعيها إما أن يغير مساره، أو يكون الإخفاق نصيبه.
وأستودعكم الله وأستودعه شبابنا وفتياتنا وجنس الإنسان في كل مكان، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب