مراجعات
ما الذي جعل معظم الجيوش العربية -أو جميعها- أداة عنف يستخدمها الاستبداد المحلي والدولي، عسكريا كان أو غير عسكري، ضد الإرادة الشعبية الثائرة من أجل تحقيق التحرر والعدالة والسيادة والتقدم؟
ما الذي جعلها في محور التحرك المضاد للثورات الشعبية، التي بدأت في تونس قبيل مطلع عام ٢٠١١م ، والتي استأنفت الطريق قبيل مطلع عام ٢٠١٩م، في السودان ثم الجزائر، وغدا في سواهما؟
الإجابة تحتاج إلى دراسات منهجية مفصلة، إنما يمكن الوقوف عند ثلاثة عناوين أساسية:
العقيدة العسكرية
هي عماد تعريف مهام الجيش في أي دولة معتبرة، وفي صياغتها دوما ما يؤكد حماية الشعب والوطن من أخطار عسكرية خارجية، فعلية أو محتملة، ولكن ليس في صياغتها وبالتالي في تطبيقها عبر بنية التشكيلات وتجهيز المعدات وفي برامج التأهيل والتدريب والمناورات.. ليس فيها إطلاقا ما يشبه من قريب أو بعيد المقصود اللغوي والتطبيقي في تلك المقولات التي تتردد مع كل تحرك عسكري داخلي في بلادنا، من قبيل إن الجيش يحمل مهمة الحفاظ على الاستقرار والأمن داخليا. هذا بديل مزور مرفوض يمهد للإجرام على حساب المهمة الجليلة الشريفة المناطة بأبناء الشعب في لباس عسكري، ويشهد واقع الحال أن هذا التزوير في مقدمة ما يوظف لتبرير استخدام العنف، ليس في خدمة الشعب، بل لفرض استمرار تسلط الاستبداد واستمرار البطش بالشعب لتأمين استقرار المستبد المحلي وتبعياته الأجنبية.
الإطار الدستوري
هو المواد الدستورية التي تحدد في دولة معتبرة آليات متكاملة لضمان مشروعية القرارات العسكرية من جانب قيادة الجيش وتبعيتها لمسؤولية قضائية، ولسلطة سياسية حقيقية، تشريعية وتنفيذية، مدنية منتخبة وفق ضمانات تحقق شروط تمثيل الإرادة الشعبية، وعدم تسلط فئة من أي اتجاه على سواها من فئات الشعب، وهذا الإطار الدستوري يحدد بالتالي منهجية المراقبة والمحاسبة على صعيد الشؤون المالية كالرواتب وثمن السلاح ونفقات التدريب، ومن أهم الضمانات هنا ألا يكون للقيادات العسكرية مجال للثراء المادي الذاتي، عبر مداخل الاستثمارات الاقتصادية والتجارية وما شابهها. أما أن تصبح حصص السيطرة على البنية الاقتصادية والمالية للدولة بنسب مذهلة في قبضة بعض القيادات العسكرية في جيوش بلادنا، فهذا من أخطر ما يجعل الاستبداد المحلي والدولي قادرا على التصرف بشؤون جيوشنا وتحريكها في خدمته، بدلا من أن يكون ذلك وفق إرادة شعوبنا، وشعوبنا فقط.
مفعول القيم
النصوص لا تكفي لقيام دولة مستقرة ووجود جيش لا يتجاوز الخطوط الحمراء بعيدا عن مهمته الدستورية الأصلية وبعيدا عما يقتضيه ما يوصف بالشرف العسكري، ولا يتحقق ذلك دون توازن الأنظمة المتعلقة بالجيش وقياداته وتسلسل المسؤوليات فيه وارتباطها بالقيادات السياسية التنفيذية والتشريعية، ووجود آليات رقابة ومحاسبة فعالة، خاضعة للقضاء المستقل فعلا، فضلا عن الحيلولة دون أن يكون للقيادات العليا سلطة الطاعة العمياء على قيادات وأفراد من مراتب أدنى، وألا يكون عند هؤلاء قابلية تمرير الطاعة العمياء. ولهذا لا يمكن الاستغناء عن القسط الخلقي القيمي في مختلف جوانب التعامل مع كل فريق توضع بين يديه وسائل القوة، كالجيش وما يوصف بالقوى الأمنية في البلاد، وكذلك على صعيد أي فريق توضع بين يديه سلطة الرقابة والمحاسبة من خارج نطاق تلك القوى، والنقيض من ذلك هو ما تصنعه جملة من المراسيم التي يطلقها المستبدون لإعفاء هذا الفريق أو ذاك من المحاسبة على ارتكاب الموبقات بأنواعها كالقتل والإخفاء القسري والاعتقال العشوائي ومواجهة الاحتجاجات السلمية المشروعة بوسائل العنف المفرط وغير المفرط.
* * *
لا يستهان بهذه الأمثلة الثلاثة نماذج على سواها لبيان حجم المطلوب لتحقيق إصلاح جذري للأوضاع ذات العلاقة بالجيوش وغيرها من الأجهزة المسلحة في بلادنا، كيلا يستمر تتابع المآسي سنة بعد سنة وعقدا بعد عقد وحقبة استبدادية بعد أخرى.
ومن هنا أيضا ينبغي تقدير أن المسؤولية التي يحملها حراك التغيير الثوري أو ما سمي موجات الربيع العربي، مهمة جليلة وكبيرة، لا تسمح بالاطمئنان إلى بيانات عسكرية وشبه عسكرية، بغض النظر عن نوايا من يضع صياغتها ومن يعلنها ومن يقسم على ضمان تنفيذها.
إن الحراك الثوري الشعبي العربي في بداية الطريق والمهام المطلوبة هائلة، ولهذا لا اطمئنان لحلول وسطية يتم تحويلها إلى أوضاع منحرفة مستدامة، بل يجب أن تكون الخطوة الأولى تنفيذية عملية مضمونة من اللحظة الأولى وبأيدي قوى الحراك نفسه والقوى المخلصة التي تولد من خلاله.
المهمة مهمة تاريخية وجذرية ومهمة أجيال، ومعالم ولادة طريق العمل لتحقيقها تحدد معالم مآلاتها ونتائجها.
الحراك الثوري الشعبي بالملايين في الجزائر قبل وبعد سقوط بوتفليقة، يذكر بأن بداية الاستبداد العسكري كانت تحت عباءة تحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي، ثم تحت رداء عمل حزبي، وانكشف الغطاء عن الانحرافات منذ زمن بعيد، وبدأت جماهير الحراك الشعبي تستعيد حقها الأصيل: صناعة السلطة بنفسها، فأسقطت كافة أشكال التماهي بادّعاءات تمثيل الشعب تسلّطا، وراء مسميات مدنية وانتخابات مزيفة، رئاسية وغير رئاسية، وهنا لا يستغرب أن يبرز صاحب السلطة الفعلية برداء عسكري في صدارة التحرك المضاد، بوعود لا تختلف عن تلك التي كانت تطلق في عهدة رئاسية بعد أخرى، منذ عشرات السنين وليس منذ عشرين سنة بوتفليقية فحسب.
وشبيه ذلك ما صنعته القوى العسكرية في السودان فيكاد بيانها الأول بصدد استلام زمام السلطة مباشرة يتطابق شكلا ومضمونا، وبفحوى الوعود المرافقة له، بفحوى بيان البشير في انقلابه قبل ثلاثين سنة.
هذا السلوك الانقلابي هنا وهناك وفي مصر من قبل وفيما يشبه الانقلاب في ليبيا، يذكر بأن أول ما كان من ابتداع الانقلابات العسكرية كان في سورية، فكان ذلك من الثمار الخبيثة التي بدأت أطراف أجنبية وداخلية تزرع بذورها الخبيثة مبكرا، لاستغلال التعددية – وهي موجودة في معظم بلدان العالم – للانحراف بها عبر أساليب طائفية دموية همجية بشعة لم تعرف بلادنا وجيوش بلادنا مثلها من قبل.
* * *
لقد ساهمت القوى الاستعمارية بقسطها في ذلك واستهدفت الجيوش، كما يشهد الوضع في مصر منذ توقيع ما سمي اتفاقات كامب ديفيد على الأقل، ومن ثمّ شغل القيادات العسكرية بالمال والترف بدعوى المشاركة في بناء الاقتصاد، ولكن لا تستطيع قوة خارجية تحقيق ذلك دون مرتكزات محلية، وقد صنعت القوى المحلية تلك المرتكزات فكانت البداية بتمييع العقيدة العسكرية وتمييع الانضباط الدستوري وتمييع منظومة القيم؛ وهذا بالذات هو الفخ الذي لا يصح للموجات المتتابعة من مسار الحراك الشعبي الثوري أن تسقط فيه على طريق التغيير المنشود.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب