ذاكرة ثورية
تلقيت دعوة لحضور مؤتمر لرابطة أحرار سجن تدمر، انعقد قرب غازي عنتاب جنوب تركيا، وقلت لنفسي: بأي صفة تكون مشاركتي في ذاك؟
صحيح أنه يضم كوكبة من إخوة الشهداء الذين احترق القلب ذات يوم عند سماع أخبار استشهادهم في عملية إجرامية أسدية غادرة، وهم لا يملكون سلاحا يدفعون به الموت عن أنفسهم؛ ولكن أعترف أنني تركت القضية للتاريخ كما صنع كثيرون سواي، مع أحداث أخرى من تلك الفترة في مطلع الثمانينات من القرن الميلادي العشرين، وهذا مع أنها كانت حدثا يستحق وصف مأساة العصر، وهو الشعار الذي حمله ذاك المؤتمر الذي دعيت لحضوره.
حضرت، وتألمت، وشاركت بالحديث قدر ما استطعت، واستفدت كثيرا مما قدمه خبراء من السوريين والأتراك، حول الغاية من انعقاد المؤتمر برعاية اتحاد منظمات المجتمع المدني السوري، وهي أن يساهم الخبراء في أن تنتقل الرابطة، إلى مستوى مؤسسة حرفية لتحقيق أهدافها الحقوقية والإغاثية والخدمية، وقد كان مؤتمرا ناجحا بتوفيق الله تعالى.
ولا أتحدث هنا عن المؤتمر تخصيصا، إنما هي خواطر ساورتني وأنا أستمع لعدد من الضحايا، من النساء والرجال، ضحايا جرائم الاستبداد، بينما كنت أضع كلامهم مقابل ضحايا الركون إلى الاستبداد لفترة أطول مما ينبغي.
أتحدث هنا لنفسي بصوت مرتفع عن مشاعر خجل عميق صامت؛ خجل من نفسي أنني لم أكن أذكر مع مرور سنين عديدة، إلا القليل عن ضحايا تدمر، وكذلك ضحايا جسر الشغور، وحلب، وحماة، ودمشق، وأخواتها؛ عن ضحايا شعب سورية كله، وقد استشهدوا أو أصيبوا أثناء المحاولة الجادّة الأولى لإسقاط أخطبوط الإجرام الاستبدادي في سورية.
لم يسقط، ولكن الأخطر من ذلك هو انقطاع تدفق الآمال في قلوبنا وعيوننا زمنا طويلا، فلم نسترجع لزمن طويل قدرتنا على التفكير والعمل والصبر والتضحية لنتحرك مجددا، وقد أيقظتنا في لحظة لم يكن معظمنا ينتظرها شرارة من لهيب ثورة آذار/ مارس ٢٠١١م.
أخجل من نفسي أنني من جيل عايش تلك الأحداث وما سبقها وما لحق بها، وتشرد عدد كبير منه في المنافي والمغتربات، ولكن لم نعثر على طريق الثورة من قبل حتى شقه بين أيدينا ومن خلفنا جيل آخر لم يعرف داخل سورية سوى حياة القهر والحرمان والمعتقلات والتعذيب وانتهاك سائر الحقوق الآدمية.
أخجل من نفسي عندما تقتحم مخيلتي مشاهد من دفعوا على مرّ عدة عقود ثمن الركون إلى الاستبداد، أو العجز، أو القصور؛ سمّوه ما شئتم، ولكنه حالة مرضية امتدت طويلا وكان الثمن باهظا.
أخجل من نفسي لأنني أخشى في حال انتكاس الثورة أن يتكرر ما كان من العودة إلى الركون طويلا، سيان كيف نسوّغه، ثم تأتي ثورة أخرى، ولكن سيكون الثمن قبل ذلك عذابات متوالية تصرخ في قبور الصمت على امتداد حياة جيل أو أكثر.
أخجل من نفسي أنني أشعر أحيانا بالعجز والغضب المكبوت إذ أعايش هذه الأيام في مطالع مسار الثورة الشعبية ظهور بعض من كلّت بهم الأقدام سريعا، وبعض من انحرفت بهم الأقدام عن الغاية الأصيلة، وبعض من زاغت منهم الأبصار عن الرؤية المشتركة، وكأنهم ليسوا في بدايات طريق التغيير الثوري، فساهموا بقصد ودون قصد في نشر الإحباط في كل مكان، مع الشعور المؤلم بالعجز حتى عن مجرد دفعهم على الأقل إلى السكوت والعودة إلى ما كانوا عليه قبل الثورة، عندما لم تكن تصدر عنهم شكوى ولا إيماءة في اتجاه العمل للثورة والتغيير.
أخجل من نفسي أن أقف بين يدي الأحرار والحرائر الذين لم تمنع تجربة التعذيب في السجون والمعتقلات من أن يتحركوا وهم يتحدثون ويعملون للمستقبل، ليس من أجل التعويض لأنفسهم عما يستحيل التعويض عنه؛ بل هم يتساءلون أيضا كيف نعمل من أجل إرشاد من يتحرر من بعدهم ليقفوا على أقدامهم من جديل، وعن استعادة الأمن والأمان للإنسان في سورية، والأمن والأمان إلى وطن يتطهر من بقايا الإجرام الاستبدادي، وتكاد توصد فيه الأبواب والنوافذ والثغرات إلا عمن لا يعرف الإنسانية فيعمل على إحياء أخطبوط الاستبداد والفساد والظلم والطغيان والهمجية والإجرام من جديد.
* * *
واخجلتاه، ثم واخجلتاه يا أحرار تدمر!
واخجلتاه أن يوجد على وجه الأرض شخص ينتسب إلى بني آدم، سوري أو غير سوري، يتساءل: علام تستمر الثورة الشعبية رغم كل ما كان، علام تستمر في وجه من يتحالف ضد سورية من قوى الطغيان، علام تستمر فلا يقبل أهل سورية من تدمر ودرعا وحماة وحلب وإدلب ومعرة النعمان ودمشق وحمص ودير الزور وغيرها من بقاع السجن الكبير، علام لا يقبلون بما يعرض عليهم مقابل توقف ثورتهم، أن يحصلوا بالمقابل على معيشة يجدون فيها الماء والطعام؛ كسائر الأنعام!
وأستودعكم الله يا أحرار تدمر ويا أحرار ثورة الحق والحرية والكرامة ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب