هل تتبدل خارطة صراع الهيمنة عالميا؟

تعدد الأقطاب وبقايا الهيمنة

ألم نرصد أيها الكرام أن نهاية الحرب الباردة اقترنت بهدوء الجولات الثنائية، من صراع النفوذ، والمقصود: صراع الهيمنة والاستغلال، على حساب بلادنا وشعوبنا وثرواتنا.

ولعلنا نرصد معا في هذه الأثناء أن الهدوء كان لفترة وجيزة، قصيرة تاريخيا، وكان محصورا في العلاقات المباشرة بين الشرق والغرب، حيث بدأ تعاون ثنائي اقتصادي، عبر الاستثمارات المالية والتجارة الثنائية. أما الحروب بالنيابة والاقتتال البيني فبقي جاريا متواصلا في الرقعة الجغرافية العربية والإسلامية، وهي الرقعة الكبرى مما سمّي العالم الثالث منذ الحرب العالمية الثانية.

انتهت فترة الهدوء الدولي النسبي إذن وأصبح المشروع العملاق تحت عنوان طريق الحرير رمزا مرئيا لتحرك الصين وتوسعها اقتصاديا وماليا، كما ظهر للعيان تحرك روسيا عبر ارتفاع ميزانيات التسلح، واستخدام موارد الطاقة كأذرع الأخطبوط لنشر نفوذها عالميا، علاوة على التدخلات العسكرية وشبه العسكرية في سورية وليبيا وحتى شرق إفريقية واليمن، كما أظهرت نشأةُ مجموعة العشرين تحولا ملحوظا في الموازين الاقتصادية عالميا.

بالمقابل ارتفع نذير الخطر في الولايات المتحدة الأمريكية فهي تريد أن تنفرد وحدها بالهيمنة العالمية؛ وقد شاع وصف ذلك بالزعامة الانفرادية، وكلمة زعامة مضللة، فهي تعبر في الأصل عن الرضى بينما تفرض الهيمنة الأمريكية نفسها بالإكراه وإن قيل بمفعول المصالح، وكم مورس الخداع العالمي تحت عنوان المصالح.

جميع ذلك من معالم تجدد الصراع دوليا، والمفروض أيها الكرام، أننا رصدنا هذه المقدمات قبل أن تشتعل الحرب في أوكرانيا، فلم تكن هي البداية لجولة جديدة كما يقال، بل هي محطة لتضخّم الأحداث في جولة جارية على قدم وساق. ولكن ما أعطى حرب أوكرانيا وضعا متميزا، هو أن صراع الهيمنة على بلادنا يتعاملون معه كأمر طبيعي، بل مشروع، أما أن تصل جولات الصراع إلى رقعة جغرافية داخل الشريط الشمالي، فيصبح آنذاك جريمة في نظر الغرب تجاه الشرق أو الشرق تجاه الغرب.

السؤال المطروح الآن هو: هل تعود المواجهات الدولية بنا إلى صراع ثنائي كما كان أثناء الحرب الباردة، أم تنفجر المواجهات عبر حرب نووية، أم تتطور الأحداث نحو تعدد الأقطاب عالميا؟

لا نجيب بعجالة، فهذا سؤال تتطلب إجابته الدقيقة دراسات محكمة وبحوثا عميقة، إنما توجد مؤشرات تسمح للمراقب أن يرجح احتمال تعدد الأقطاب، بل واتساع نطاقها لتشمل دولا ناهضة كتركيا والهند، فلن تقتصر على المثلث الأمريكي – الروسي – الصيني، ولا على خماسية مجلس الأمن العتيق.  

ولننتبه أن مثل هذا التطور يتطلب سنوات عديدة وينطوي على جولات متعددة الميادين، عسكريا وسياسيا واقتصاديا، لا سيما وأن الخسارة المسبقة بدأت ماليا، كما يشير الورم المتضخم باسم المديونية الأمريكية إلى أخطر التداعيات، وقد سقطت الدولة الأمريكية أخلاقيا وقيميا من قبل، فكان من أبرز محطات السقوط احتلال أفغانستان لعشرين سنة، فشهد التقتيل والإجرام والتدمير ولكن لم يشهد أي محاولة جادة تبرر مزاعم البناء والعمران والتطوير، كما كان من أبرز محطات السقوط الأمريكي حضاريا احتلال العراق، فقد كان احتلالا همجيا بذريعته الكاذبة وبأدواته الإجرامية وبنتائجه الكارثية، وهذا ما يعطي أوكرانيا مكانتها الفعلية كمظهر آخر لسقوط الطرفين، الروسي والأمريكي قيميا، على حساب الإنسان في الشمال أيضا.

الواقع أن ما يجري منذ أعوام عديدة يعكس التطور باتجاه نهاية عصر الهيمنة الانفرادية الأمريكية في ميادين عديدة غير المواجهات العسكرية، ولا يكفي الحديث خلال دقائق معدودات لمجرد تعداد العناوين، فيكفي التنويه إلى المساعي المتكررة في مواقع متعدد من العالم، للتخلص من هيمنة العملة الأمريكية، وقد كانت وما تزال هي العنوان الأبرز للبنية الهيكلية للهيمنة الأمريكية عالميا من قبل الحرب العالمية الثانية في أواسط القرن الميلادي العشرين، إلى ما بعد حرب أوكرانيا قبل أوساط القرن الميلادي الحادي والعشرين.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب.

الصراعالعالمالهيمنةتعدد الأقطاب