رأي
رغم ارتباط التبعية بالولايات المتحدة الأمريكية منذ عقود، بقيت للسعودية مكانة تأثير ذاتي إقليمي كبير، وكان له مفعول إيجابي أحيانا، عندما يقترن بالتمرد على إملاءات أمريكية ولو لفترات قصيرة، كما حدث في عهد الملك فيصل الذي اغتيل عام ١٩٧٥م. وليس مستغربا أن تصبح هذه المكانة المحدودة نسبيا مستهدفة منذ ذلك الحين، وهو ما انعكس بقوة في لعبة صراع النفوذ الأمريكية المتقلبة ما بين إيران والسعودية، ومن أبرز عناوينها شرطي الخليج والاحتواء المزدوج وصفقة القرن، ومن أبرز محطاتها حديثا حرب احتلال العراق ودعم التحرك الدولي المضاد لثورات تحرير إرادة الشعوب العربية، لا سيما في اليمن وسورية.
لا تنفصل هذه الخلفية بخطوطها العريضة عما شهدته السعودية بانقلاب عام ٢٠١٧م، الداخلي المتعدد الوجوه، وهو في الدرجة الأولى عائلي ملكي وليبرالي حداثي بأبعاد خطيرة غارقة في صفقة القرن لتصفية قضية فلسطين مقترنة بالعمل على حصار الثورات الشعبية.
كذلك لا تنفصل جريمة اغتيال خاشقجي عن المسارات المتشعبة المرعبة التي سلكها ذلك الانقلاب، أو توزيع الضربات في جميع الاتجاهات، حتى أصبحت عملية اغتيال خاشقجي بطريقة تنفيذها وموقعها جغرافيا وديبلوماسيا بمثابة الضربة القاضية في مسار سياسي انتحاري.
المشكلة أكبر حجما وأخطر مضمونا من الاكتفاء بأساليب سطحية للتحليل لا سيما ما يعتمد على تسليط الأضواء على جانب واحد من الحدث مثل العلاقات التركية – السعودية المعقدة المتقلبة، بينما لا يفيد تجاهل الحقائق بمختلف الأساليب، إذ أصبح استهداف مكانة السعودية علنيا، لتحقيق أغراض مستقبلية أكبر من أغراض سابقة، ومن ذلك على المدى المتوسط والبعيد ما يسمّى صفقة القرن.
هذه الأغراض وأمثالها لا تتحقق على كل حال بأسلوب يدور الجدال حوله دون جدوى، أو بعيدا عن جوهر المشكلة، مثل إصدار أوامر مباشرة، أو التراجع أمام تهديدات علنية، إنما تتحقق تلك الأغراض -في مثال السعودية هذا- عن طريق دعم خارجي لصنع تغيرات داخلية على مستوى صناعة القرار، ثم التعامل الخارجي مع ما ينشأ عن التغيير الداخلي من فوضى سياسية واجتماعية ومالية.
أما عملية اغتيال خاشقجي، بالأسلوب الذي اتُبع ومكان التنفيذ، فقد بدا أنها حطمت هذا الإطار، بعدم تقدير أبعادها ونتائجها مسبقا، وباتخاذها شكلا من أشكال انتحار سياسي، لا يقوم على منطق وتخطيط، هذا ناهيك عن بشاعة الجريمة أصلا وشناعة اغتيال الحريات والحقوق وملاحقتها بالخناجر والمناشير.
سيان ما هي الصورة التي تدخل الجريمة بها في سجل التاريخ، ومنذا يوضع في موضع المسؤول عن ارتكابها، فإن الحصيلة المنظورة والمستقبلية هي ضياع البقية الباقية من المكانة الإقليمية للدولة السعودية، وهذا ما لا يمكن تعويضه عن طريق تبديل أشخاص من الدرجة الثانية والثالثة أو أخفض من ذلك في البنية الهيكلية للسلطة، بل يوجب أن يكون التبديل في بنية النهج السياسي والقانوني والاجتماعي والفكري، داخليا وخارجيا، وعلى جميع المستويات، بما يشمل العلاقة بين النخب المتعددة، وبينها جميعا وبين الفئات الشعبية، إذ لم يعد لأي صيغة من صيغ السلطة المطلقة مكان في عالمنا وعصرنا، ولم تعد معادلة التبعية مقابل الحماية كافية للتعامل مع مسارات الأحداث والتطورات في قضايا مصيرية، إقليميا ودوليا.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب