تحليل
ميدفيديف شخصية سياسية تثير الشفقة، لا سيما عندما يدلي بتصريحات وكأنها تحال إليه لأنها غير لائقة بسيده بوتين، وكان ميدفيديف الرئيس الروسي السابق أو من شغل هذا المنصب لبضع سنوات أثناء غياب بوتين عنه، فكان أقرب إلى دور المحلل القانوني، بمعنى الكلمة، أي لمجرد تمكين بوتين من الحصول على ولاية رئاسية ثالثة وفق تأويل نص دستوري؛ ويشغل ميدفيديف منذ فترة منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي؛ وقد خرج مؤخرا بتصريح يقول فيه إن قرار بريطانيا تدريب الجنود الأوكرانيين على أرض أوكرانيا، على أسلحة جديدة من صنع بريطانيا، خطوة تدفع في اتجاه حرب عالمية ثالثة.
ليس هذا التلويح بحرب عالمية ثالثة هو الأول على لسان ميدفيديف، ولكن هل يوجد ما ينذر بذلك حقا؟ هل يمكن أن يتهور زعماء روسيا أو البلدان الغربية فيسلكوا طريق التصعيد إلى درجة نشوب مواجهة مباشرة من قبيل حرب عالمية ثالثة؟ ثم هل يمكن ذلك رغم استمرار مفعول الردع المتبادل، أي هل يمكن استبعاد استخدام أسلحة نووية للدمار الشامل والاكتفاء بما يسمى أسلحة نووية تكتيكية؟
كل الاحتمالات واردة، لا سيما مع (١) غياب منظومة فاعلة تشمل معايير مستمدة من القيم والأخلاق والمبادئ (٢) غياب قضاء دولي فاعل لا يقف على عتبات الدول الكبرى متجنبا تجاوزها لأداء واجبه، إذا كان فيها مسؤولون عن ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
كل الاحتمالات واردة في عالمنا المعاصر المجنون، أما إذا تجاهلنا صفة المجنون وانطلقنا من منطق سياسي متوازن أو من منطق بقايا حكمة سياسية من فوق المصالح المادية، فالدلائل الحالية تسمح باستبعاد حدوث تطورات جادة باتجاه حرب عالمية ثالثة.
الحرب الجارية على أرض أوكرانيا والتي تجاوزت ذلك جزئيا إلى عمق الأرض الروسية أيضا، هي حرب استنزاف، وقد بلغ مداه على حساب الطرفين الروسي والغربي، وهذا ما يضعف المعادلات السياسية الداخلية لاتخاذ قرارات بشأن الحرب والسلام، وأصبح الاستنزاف مشهودا على صعيد روسيا إنما أصبح مشهودا في الدول الغربية أيضا، ومن علاماته الاختلافات الأخيرة على هامش المناقشات المتعلقة بميزانية مالية أمريكية جديدة، ومن علاماته أيضا ما يمكن رصده في الدول الأوروبية، وقد وصل في هذه الأثناء إلى الانتقاد العلني المباشر لسياسة الأبواب الأوروبية المفتوحة دون قيد ولا شرط أمام اللاجئين والمهاجرين من أوكرانيا إلى الدول الأوروبية وقد بلغ عددهم ثلاثة ملايين حاليا.
كما يخشى الساسة الأوروبيون أيضا من أن يتركهم الأمريكيون في منتصف الطريق في الصراع مع روسيا، ويخشون من ازدياد شعبية ما يوصف بالأحزاب اليمينية المتطرفة، كما ظهر في بعض الجولات الانتخابية في شرق أوروبا مؤخرا؛ وجميع ذلك نقاط ضعف تدفع إلى تجنب التصعيد العسكري.
الجدير بالدراسة هو ما يمكن أن تكون عليه الحرب العالمية الثالثة إن وقعت، فهي لن تأخذ صورة مشابهة للحربين العالميتين الأولى والثانية، بعد أن شهدت المعطيات السياسية والعسكرية والاقتصادية تطورات جذرية؛ وبهذا المنظور يمكن التساؤل ألم تبدأ الحرب العالمية الثالثة بالفعل في المنطقة العربية والإسلامية، لتمزيق الممزق من بقايا أنظمة لا تملك صناعة قرارها بنفسها، هذا ناهيك عن التحرك المضاد لتحرير إرادة الشعوب كيلا يفضي آجلا أو عاجلا إلى ولادة أنظمة مستقلة، ومع استبعاد المواجهات المباشرة وازدياد انتشار ما يسمى الحروب بالنيابة، قد تتطور إلى حروب طاحنة، وربما انتحارية لمن يشارك فيها، على سائر الجبهات.
وأستودعكم الله سائلا إياه أن يحفظ الإنسان رغم ما يصنع بيديه، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب