خواطر
كما حدث مرارا من قبل، طرحت علينا أحداث الحرب العدوانية الروسية على أرض أوكرانيا أسئلة عبّرت عنها كتابات قيمة عديدة، وحاول بعضها الإجابة على تساؤلات مباشرة، تدور حول محور مجرى الأحداث وما يمكن أن يسفر عنه، وحول احتمالات تأثيرها على بعض قضايا بلادنا.
يلفت النظر في هذه المتابعات القيمة، الإعلامية أو الفكرية والسياسية، أنها تُطرح من زوايا نظر مستقلة عن بعضها بعضا، وغالبا ما ينطلق كل صاحب قلم من منظور الحدث الأقرب إليه؛ ومن ذلك الحديث بمنظور فلسطيني عن تباعد روسي – إسرائيلي محتمل، ومن منظور سوري من ترجيح تقلص قدرة القيادة الروسية على متابعة عدوانها الغاشم في سورية، ويوجد من تناول النتائج من زاوية تبدل مواقع النفط الخام والغاز الطبيعي في الخارطة العالمية لمصادر الطاقة، وهنا التركيز على منظور البلدان النفطية من بين بلادنا الأخرى، ويوجد من يركز على مستقبل الموقع التركي ما بين الغرب والدولة الروسية، هذا فضلا عن زوايا نظر أخرى لاستقراء نتائج وتطورات قد تترك أثرها علينا وعلى سوانا لاحقا، كمستقبل الأمن الغذائي، وخارطة العلاقات الأمريكية الأوروبية، وتوتر العلاقات الغربية الصينية، وغير ذلك مما يطول سرد عناوينه، فضلا عن إمكانية الخوض فيه.
كذلك يلفت النظر في تلك المتابعات القيمة لأحداث الحرب الروسية على أرض أوكرانيا، أن ما سبق تعداده من تطورات محتملة تتعلق بقضايانا، لم ينطلق من السؤال عن قابلية أي تأثير محتمل من جانبنا ولو كان ضئيلا، أي لا نكاد نطرح ولو من قبيل الاسترسال أن نؤثر على مجرى حدث كبير من الأحداث الدولية، بحيث تكون النتائج التي نحاول التنبؤ بها، في صالح قضايانا جزئيا على الأقل.
ببساطة.. نحن لا تأثير لنا، وجل ما نصنعه هو محاولة فهم ما يجري ومحاولة ترجيح نتيجة ما ينبني عليه، أما أن يكون لنا تأثير ما، فلا يخطر على بنات أفكارنا ولا مخيلتنا؛ فنحن غيرُ موجودين البته، غائبون حتى عن ساحة صناعة الحدث محليا وإقليميا إلا في صيغة وجود فريق مستهدف، فكيف نؤثر على صناعة الحدث دوليا؟
بل في أقصى حالات التفاؤل لدى بعضنا، ينحصر تفكيرنا وما يسكبه من كلمات عبر وسائل تقليدية ومستحدثة، لطرح كلمة الفكر والإعلام… ينحصر داخل حدود السؤال عن كيفية ملاءمة أوضاعنا مع ما يصنعه سوانا من قرارات وأحداث وتطورات ونتائج ومتغيرات.
نحن نتأثر، وغالب ما يكون التأثير سلبيا، وربما قاتلا لقضايانا، يسحق مستقبلنا ومستقبل شعوبنا وبلادنا، وقد نكشف لبعضنا بعضا عن وجود المخاطر، أما إذا تجرّأ أحدنا على طرح تصور فيه بعض بذور التمرد على هذا الواقع السلبي الذليل، فقد تنطلق حوله شرارات التأنيب والاستهزاء والتهكم؛ ألا يرى ذلك المجترئ على الكلام عن أهداف عزيزة جليلة، أنه لا حول لنا ولا قوة؟ ويسارع من يعتبرون أنفسهم من نخبة العقلاء إلى التساؤل: أين الموضوعية وأين العقلانية فيمن يكتب عن التطلع للخروج من نفق مظلم، ومنحدر لا نهاية لسقوطنا فيه؟
هيهات أن يكون لنا تأثير ونحن قد نذكر أنفسنا بصيغة نحن دون أن نستوعب ما تعنيه هذه الكلمة؛ نحن ممزقون لا نرى ما يصل بيننا أو بين قضايانا، قد أصبحنا أبعد تفرقة بكثير مما نقوله عن اتفاقية سايكس بيكو من باب الشتيمة، نحن فلسطينيون وسوريون ومصريون، نحن عرب المشرق وعرب المغرب، نحن أتراك وأكراد وأفغان، نحن في بلادنا مسلمون ومسيحيون، أثرياء وفقراء، عساكر ومدنيون، متعصبون ضد بعضنا بعضا بل حتى ضد أنفسنا، منشغلون بمواجهات بين أعلامنا وحدودنا وتفاهات واقعنا، منّا من ينبش الماضي بحثا عن خالد وصلاح الدين، أو ينبشه بحثا عمّا خلّفه كانط وفولتيير، منّا من يغوص إلى ركبتيه في كتب التراث ويمتنع عن استخراج أي خطوة مبدعة لما حوله كما صنع الأقدمون، ومنّا من يعزف على كل وتر من أوتار الحداثة القريبة والبعيدة، دون أن يعرف شيئا يُذكر عن واقع أهله من حوله واحتياجاتهم وتطلعاتهم المشروعة.
نحن غير موجودين في العالم لأننا لا نريد أن نوجد معا، إلى جانب بعضنا بعضنا بدلا من أن يتطلع كل فريق أن يكون فوق أعناق الفريق الآخر، وجميعنا مستهدفون، أنظمة وشعوبا، أصحابَ المصالح والمطامع وضحايا الحرمان من أبسط حقوق الحياة الكريمة.
من أين نستطيع سلوك طريق التأثير على عالمنا وعصرنا ونحن لا نعرف الطريق إلى بعضنا بعضا، بل كيف نعرف ما الذي ستصنعه نتائج حربٌ في أوكرانيا بقضيتنا في فلسطين وقضيتنا ضد الاستبداد، أو ما الذي سنصنعه بنا سباق سوانا على صناعة أحدث الأسلحة ونحن نستورد فتاتها بثروات شعوبنا وبلادنا ليقتل فريق منا تلك الشعوب ويغتال مستقبل تلك البلدان؟
كيف ندرك أين سيصل ما يصنعه سوانا من تقنيات حديثة ويطلقه من أقمار صناعية جديدة، ونحن ننفق ما ننفق من ثروات أهلينا على استيراد ما لا نكاد نستطيع استخدامه ناهيك عن فهم الطريق إلى صناعته؟
هل يعني ذلك كله أن نتخلّى عن متابعة الحدث الدولي أيضا؟
كلا.. إنما المطلوب أن نعرف من نحن، وأن نعرف كيف ينبغي أن نكون نحن، كي نرى نحن جدوى متابعة الحدث الدولي، بمنظورنا نحن، وليكون ذلك من أجلنا ومن أجل شعوبنا وبلادنا وقضايانا، أما من لا يحاول أن يصنع ذلك أصلا، فلا يفيد أن تشمله كلمة نحن وهو يأبى الانتساب لجنس الإنسان أصلا، ويأبى أن يصل إلى حياة إنسانية عزيزة كريمة.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب