خواطر
رغم الأسى والآلام مع كل طفل وشاب وامرأة وشيخ ممن تقتلهم آلة الحرب الأمريكية الغربية الإسرائيلية، ورغم ما ينشر من أرقام وصور وإعلانات موثقة مقابل الإنكار الهمجي والنفاق الهمجي والصمت الهمجي، رغم هذا وذاك نعلم من تاريخنا أن حصار شِعب مكة مضى وتحقق فتح مكة بعد أعوام معدودة، وأن غزوة الخندق انقضت ووصلت الفتوحات إلى بحر قزوين بعد أقل من جيل واحد، وهذا من السنن التاريخية في مجرى الحياة البشرية، ولهذا لم يكن من عايشوا حصار لينينغراد أثناء الحرب العالمية الثانية يتصورون أن الجيش الروسي الأحمر سيصل إلى برلين بعد فترة وجيزة؛ كذلك عندما بدأ اجتياح الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت لروسيا سنة ١٨١٢م، لم يكن أحد يتصور أنه سيتحول إلى المنفى سنة ١٨١٥م؛ وبالمقابل لا ينبغي إطلاقا اعتبار حصيلة ما يجري محتمة وفق ما يقول به الانهزاميون والمتشائمون وسط الآلام والأحزان، فيرددون في الواقع ما يقول به المعتدون من كل جنس ولون من داخل أرضنا المنكوبة وخارجها.
سيقول قائل: ولكن!
نحن نحب كثيرا أن نستخدم كلمة (ولكن) لصناعة الإحباط، والأصح هو أن نستخدمها لنستوعب أن التغيير، كل تغيير، يصنعه الإيمان بالقضية، مع سلامة التصور والتخطيط، والاستعداد للفداء، وإعداد أسباب القوة جميعا بقدر المستطاع، ثم العمل الصائب والصبر والمصابرة.
أما السؤال من سينتصر فيما نعايشه على ساحة فلسطين فجوابه:
إن النصر من نصيب الفئة الصابرة على مواصلة العمل الهادف المدروس، رغم قلة العدد والعدة، ومن ورائها شعب صامد صمودا لا مثيل له في عالمنا المعاصر، وقد تجمعت ضده القوى العالمية بنفاقها وقواتها في وقت واحد، وخذله معظم الدول وأشباه الدول العربية والإسلامية رغم كل ما تملكه من عدة وعتاد، طالما ظهر للعيان في قمع الشعوب والقوى المخلصة للشعوب ومصائر الشعوب.
وأما السؤال من سينهزم، فيتصدر القائمةَ الكيان الإسرائيلي، إذ لم يعد يصلح أداة لتنفيذ أهداف من صنعوه ودعموه، وإن واصلوا دفاعهم عن بقايا قوته التي لا تقهر! ولكن يدافعون بمنطق تخفيف الأضرار وليس بمنطق إنقاذه لمتابعة دوره، بل يرى من يتابع مجرى الأحداث أنه بدأ التمهيد للاعتماد على بديل، سيكون على غرار ما كان في عهد شاه إيران، أي سيرتكز على مشروع الهيمنة المنافس إقليميا، وقد أصبح إلى حد بعيد أشبه بالخطة باء بعد إخفاق الخطة ألف بمنظور الدول الغربية.
وفي الموقع الثاني بين المنهزمين الولايات المتحدة الأمريكية، فما انكشف أمرها كما انكشف الآن، على شناعته دون مساحيق مخادعة من دكان الديمقراطية وإنسانية الإنسان؛ فمن لا يملك ولو بقية باقية مغشوشة من هذه المساحيق لا يستطيع البقاء طويلا في موقع الهيمنة العالمية بالقوة، وفي مركز التوجيه الملغوم للتقدم العمراني والمادي والتقني؛ ثم كيف يجد المستهلكين لبضاعته ما دام طريق ترويجها هو استهداف الشعوب بالأسلحة الأمريكية عبر ارتكاب المجازر اليومية، للبشر والحجر والقيم والأعراف والمواثيق جميعا دون استثناء؟
وفي الموقع الثالث بين المنهزمين، الدول الأوروبية التي كانت في عقود ماضية على طريق التميز عن السياسات والممارسات الأمريكية، وسقطت في أهم امتحان حقيقي لها، إذ عجزت حتى عن مجرد أداء دور تجميلي عبر تمرير حملات إغاثية وإنسانية لاستبقاء بقية باقية من موازين القيم والمبادئ، تحت عناوين ضمير عالمي وقانون دولي؛ بل يعتبر مؤتمر باريس المستعجل، شاهدا مثيرا للرثاء على ذلك الإخفاق.
ووددت لو أقول إن الموقع الرابع بين المنهزمين محجوز لأنظمة بلادنا العربية والإسلامية، إنما كانت الغالبية العظمى منها في موقع المنهزم مسبقا، والموات المطبق، حتى إذا أعطاها طوفان الأقصى فرصة لتسترجع شيئا من رشدها وقيمتها أبت ذلك، حتى كتابة هذه السطور، وأصرّت على التشبث بهامش الهامش من مجرى التاريخ، فلم تحاول الانتقال الجادّ إلى ميدان المشاركة في صناعة المستقبل.
وأستودعكم الله مع جيل صناعة المستقبل على ضوء مشاعل أوقدها طوفان الأقصى ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب