تحليل
(إن موقف التخلي أو العجز الرسمي من جانب الدول العربية والإسلامية بلغ مداه في التعامل مع تداعيات طوفان الأقصى ٢٠٢٣م، أما البداية فكانت من خلال سياسات وممارسات وقرارات رسمية من قبل نكبة ١٩٦٧م؛ ويطرح جانبا من ذلك هذا المقال التحليلي المنشور في مجلة الرائد في العدد الصادر في آذار / مارس ١٩٨٣م؛ والمطلوب من إعادة نشره هو تأكيد أهمية التعامل مع القضايا المصيرية وما تتعرض له، تعاملا مدروسا هادفا، مع بدايات الأحداث، وليس تعاملا ارتجاليا، عندما تتفجر التطورات لتفرض واقعا جديدا، ثم نزعم أن الإسرائيليين والغرب من ورائهم يفرضون واقعا جديدا، والواقع أننا نصنع نحن واقعنا على النقيض مما تفرضه مصالحنا، وما تتطلبه مواجهة المخاطر على المدى القريب والبعيد معا)
٠ ٠ ٠
مهما قيل عن استقلالية القرار الفلسطيني، وأن القضية قضية الفلسطينيين، وأن لهم الكلمة الفصل، وأن العالم كان ينتظر ما قرروه في الجزائر (الدورة السادسة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، ١٤-٢٢ / ٢ / ١٩٨٣م) وما سيكون عليه وضعهم بعد الجزائر، فالواقع يقول غير ذلك، والتاريخ يقول غير ذلك.
٠ ٠ ٠
خيارات متعدّدة جميعها أمريكية
أما الواقع..
– فهو أن المطروح على الفلسطينيين منذ سنوات هو الخيار بين مصيرين أسودين: إما التسليم، أو مزيد من المآسي بأيد عربية آثمة.
– وأن قرارات المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر ١٩٨٣م تبقى في إطار الإجماع العربي في فاس، على حد تعبير الأمين العام لجامعة الدول العربية في بداية المؤتمر، وقول رئيس منظمة التحرير الفلسطينية قبيل ختامه.
– وأن أبناء فلسطين في كل مكان مطالَبون بعد الضغط العسكري على مقاتليهم في لبنان طوال عشرة أعوام، وبعد الضغط السياسي على سياستهم، الذي بلغ مداه في قمة فاس ١٩٨٢م، التي ألغت قمم بغداد والرباط والخرطوم جميعا من قبلُ، وبعد غير ذلك من الضغوط المرئية وغير المرئية، العربية والدولية.. هم مطالَبون باختصار ووضوح: باتخاذ موقف من تصفية القضية عبر السياسة الأمريكية المهيمنة على المنطقة، أي بصريح العبارة: بالانضواء تحت المظلة الأمريكية إذا أرادوا البقاء، فيما لو صحت تسمية وضعهم آنذاك بالبقاء.
لقد أصبح السؤال المطروح بإلحاح: متى تقبلون مشروع ريجان (١٩٨٢م)؟ فعلى هذا السؤال تُسلَّطُ الأضواء من جانب المسؤولين، ومن جانب وسائل الإعلام على السواء. ومجال المناورة المسموح به: هل تقبلون هذا المشروع رسميا، أم ترفضونه شكليا مع قبول الجزء الأهم من محتواه؟
٠ ٠ ٠
مسؤولية التصفية مسؤولية عربية
في الوقت الذي تُرسَم فيه هذه الحدود للدور الفلسطيني الرسمي داخل إطار أمريكي، تُعطى الأدوار العربية الأخرى حدودا مشابهة، داخل الإطار نفسه.
ففي مفاوضات لبنان حول مصير الفلسطينيين فيه -على سبيل المثال- تتكرر المواقف الرسمية والإعلامية القائلة: لا بديل عن أمريكا أو الوسيط الأمريكي إلا أمريكا. وفي قضية كامب ديفيد وترسيخ نتائجه تتزايد أنباء إنهاء القطيعة الشكلية بسبب نكبة كامب ديفيد مع حكومة مصر، من جانب جهة عربية بعد أخرى وفي مجال بعد مجال، ويتحول الحديث عن كيفية استئناف العلاقات دون ضجة كبيرة أمام الرأي العام، عن طريق مؤتمر قمة عدم الانحياز مثلا، وعفا الزمن عن الشروط التي كانت تُذكر لإنهاء القطيعة، وعن الأسباب التي أدت إليها وما زالت قائمة. وحتى تكتمل حلقة الإطار الأمريكي لهذه التطورات يُستعرَض حجم الوجود الأمريكي في مصر استعراضا ظاهرا للعيان من خلال المناورات المشتركة، وطائرات آواكس، والأزمة المفتعلة أو الحقيقية مع ليبيا، والتي صادف توقيتُها فترة انعقاد المؤتمر الفلسطيني في الجزائر.
القول إن قضية فلسطين هي قضية الفلسطينيين (بذريعة صنعت من قبل للتخلي العربي رسميا تحت عنوان مخادع: الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا لشعب فلسطين) وإن القرار فيها هو قرارهم، ينطوي واقعيا على:
تقرر حل التصفية الأمريكي للقضية، أمريكيا وعربيا، ولم يبق سوى مشاركة الفلسطينيين لتوثيقه، وليس للفلسطينيين إلا تحديد شكل التوثيق، وإلا يفعلوا (وقد فعل أنصار التصفية من بينهم، وذلك من خلال إلغاء أهم بنود ميثاق تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية) فهم معرضون لمزيد من المذابح، في لبنان أو غيره، ولمزيد من التشريد، عن الأرض التي يحتلها الصهاينة، وعن سواها، ولمزيد من الضغوط، على اختلاف أشكالها ومصادرها، ثم يقال لاحقا: إن قرار التصفية قرار فلسطيني!
المطلوب هو مشاركة القرار الفلسطيني -المستقل كما يزعمون- في إرساء قواعد التصفية، حتى يقال من بعدُ إن الحكومات العربية لا تحمل المسؤولية، بل الفلسطينيون هم الذين قرروا لأنفسهم ما سيؤول إليه وضعهم في ظل التسوية الأمريكية الشاملة العادلة زعما.
ومن واقع القضية يجب أن نقول أيضا:
إن الدول العربية التي تزعم إن هذه القضية هي قضية الفلسطينيين، لم تترك للفلسطينيين منذ اللحظة الأولى لتاريخ القضية حرية الحركة من قريب أو بعيد، بل تحمل هي مسؤولية مباشرة عن كل ما شهدته القضية من تطورات خطيرة عاما بعد عام.
كذلك فإن خطر التصفية التي ترسخ للوجود الصهيوني الباطل في فلسطين، إمكاناتِ البقاء والقوةِ والتوسعِ في المستقبل، خطر لا يقتصر بحال من الأحوال على الفلسطينيين، بل يشمل سائر شعوب الأقطار المجاورة لفلسطين على الأقل من الناحية العسكرية، وأبعد من ذلك بكثير من النواحي الاقتصادية والفكرية والاجتماعية والثقافية.
المسؤولية فيما جرى ويجري هي مسؤولية الجميع إذن، وأخطار النتائج المترتبة على ما يتقرر الآن هي أخطار مهددة للجميع، والقضية بالتالي هي قضية الجميع، واقعا مشهودا.
٠ ٠ ٠
حكم التاريخ لصناعة المستقبل
وللتاريخ حكم آخر أبعد مدى ومغزى.
إن المنطلقات التي غلبت على تسيير أحداث قضية فلسطين منذ نشأة الاحتلال الاستيطاني، هي لحظة عابرة في عمر التاريخ، وتخالف منطق التاريخ ومجراه خلال أربعة عشر قرنا مضت، بل وخلال أكثر من ثمانية آلاف سنة مضت على عمران هذه البقعة المباركة.
وإن اقتلاع هذه القضية من جذورها الإسلامية الراسخة، لصَبْغِها صبغةً قومية، أو اشتراكية، أو علمانية، هو الذي أوصلها لقفص الأمركة.
ولا يمكن الصعود من هذا الحضيض الذي وصلت إليه القضية بمسؤولية الاتجاهات التي حكمت بلادنا إلى اليوم، إلا بالصعود بها إلى المستوى الذي ينسجم من جديد مع تاريخها، ويصدر أسس الحضارة التي صنعتها الديانة الخاتمة للأديان السماوية، والتي تجمع سائر سكان المنطقة بانتماء حضاري مشترك، وتجعل القضية قضية استمرار وجودنا من الأساس، أو اضمحلال وجودنا لنتمزق ونتفرق في كل سبيل.
إن النزاع القائم في هذه المنطقة من العالم، ما دام يُحصر في تعابير من قبيل أزمة الشرق الأوسط ومشكلة فلسطينيين ومعاهدات سلام وحدود وقوات دولية وما إلى ذلك، هذا النزاع لن يجد لنفسه بهذه الصور إلا اللباس الأمريكي، أو الروسي، أو الخليط المصطنع بينهما، وهو ما لا يقدم ولا يؤخر في مسارات الحق والعدالة للقضية.
إذا ما عاد استيعاب هذا النزاع على حقيقته، كنزاع حضاري مفروض على المنطقة، وصراع عقدي مفروض على أهلها، نضع أنفسنا وشعوبنا وقضايانا المتعددة في موضعها الأصيل، ونوجد الصيغة الواقعية التي تنطلق من حقيقة ما نملك من إمكانات كبرى، بهدف رفع الظلم وإزالة الباطل لا ترسيخهما، وإنهاء الاغتصاب والعدوان لا التسليم لهما، وبناء مستقبل يتصل بماضينا ولا يتحدد وفق الإرادة الأمريكية وتقلبات ظروفها السياسية والانتخابية والاقتصادية وغيرها.
إن الطريق إلى فلسطين بكل بساطة ووضوح هو طريق الإسلام، طريق الحق والعدالة والإنسانية، وإن أبناء فلسطين الذين جربوا الشرق والغرب، أول من يستطيع إدراك هذه الحقيقة وأول من يتوجب عليهم اتخاذ القرار التاريخي الكبير المترتب عليها. ولئن أدى اتخاذ مثل هذا القرار إلى تضحيات كبرى على مدى جيل آخر من الأجيال، فإن أي قرار آخر في اتجاه التصفية لن ينقذ أبناء فلسطين وسواهم من المسؤولين عن تقديم التضحيات، فالقضية قضية إبادة حتى لا تكون عودة، وقضية عيش ذليل مهدد بالخطر، أو عيش كريم يواجه الخطر، أما الخطر نفسه فلن يزول بمشاريع التصفية.
وإن أبناء بلادنا الذين عانوا ما عانوه من تجارب التبعيات الشرقية والغربية، يعيشون على مرجل يغلي، فإما أن ينفجر البركان ذات يوم، مكتسحا ما يقف في طريقه، أو أن نوجه الطاقات الضخمة الكامنة فيه، لاستعادة الكرامة والمقدسات والحقوق الكاملة الأصيلة، ولتشييد مستقبل حر آمن كريم نفرض فيه ما نريد بسلطان الحق والعدل والقوة، بدلا من الرضوخ للقوى الدولية، العاجزة كل العجز أمام قوى الشعوب، عندما تملك الشعوب زمام أمرها بنفسها.
ومهما صنعوا بفلسطين اليوم فلن يكون له مستقبل غدا، لأنه لا يقوم على جذور التاريخ بالأمس. ولن يستقر على التراب الفلسطيني الذي لفظ الصليبيين بعد مائتي عام، وضعٌ باطل صهيوني أو أمريكي، يتناقض وجوده مع طهارة رفات الأنبياء وسمو رسالات السماء، ويتناقض مع الحق والعقيدة التي أوجدته، ومع منطق التاريخ الذي صنعته، ومع إرادة الشعوب صاحبة الكلمة الفصل في هذه القضية، وكل قضية.
وأستودعكم الله وأستوعه فلسطين وأخواتها ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب