ــــــــــ
من أخبث ما أشيع حول العربية الفصحى عبر الحملات الضارية عليها لصالح لهجات عامية مفرقة، أو تغريب لغوي خطير، ذلك الزعم القائل إن الفصحى ثقيلة على اللسان، عسيرة على العوام، مستهجنة لا يتقنها الناشئة والأطفال، وإن الإبداع أسهل وأيسر إذا ما اقتحمت العامية والألفاظ الأجنبية المستوردة لغةَ الأدب والشعر والإعلام، بعد أن بات جل جامعاتنا، بتوجيه حكوماتنا، ونتيجة انسلاخ مهين عن إسلامنا وعروبتنا، جامعات عربية العناوين، “إنجليزية” المضامين، متغربة الوجدان، نتيجة حملة ضارية أخرى، أشد خبثا وخطورة، زعمت أن لغة العلم والتقنية في العالم المعاصر “يجب” أن تكون دون جدال هي اللغة الإنجليزية!
ذرائع وهمية
من حجج أصحاب تلك المزاعم مثلا حديثهم عن ضرورات التقدم، وما ازددنا إلى جانب التمزق والفرقة خلال عشرات أعوام مضت على الفتك بالعربية الفصحى إلا تخلفا، وإهمالا للبحث العلمي، واستيرادا لمنتجات سوانا ممن يمارسه اعتمادا على لغته الوطنية، وما كانت اللغات الوطنية في دول متقدمة تحترم نفسها وجامعاتها وطلبتها ومراكزها العلمية عائقا دون تقدمها.
ومن حججهم المزعومة أيضا لنشر “إبداع أدبي وثقافي” بغير الفصحى مثلا آخر، حديثهم عن ضرورة طرح ما لديهم بلغة مفهومة للجماهير، التي ساهموا هم في إبعادها عن الفصحى ابتداءً فأبعدوها حتى عن قراءة ما ينتجون، وتخلفت بلادنا من حيث عدد الكتب والمطبوعات فيها إلى مؤخرة الركب العالمي، هذا مع بقاء الإقبال الجماهيري الأكبر باستمرار على كتب التراث بلغتها العربية الفصحى، واستمرار الإدبار عما لم يرقَ إلى مستواها، وكذلك عن الكتب الحديثة التي التزمت هذا النهج، فبقيت الفصحى – رغم ما يزعمون – هي لغة الأدب الأرقى مضمونا وأسلوبا، والثقافة الأسمى عطاء ومقصدا، وانتشرت العامية لتكون – إلا في القليل النادر – هي لغة المجون باسم الفن، وأحد عوامل التباعد الحاسمة بين أبناء الأمة الواحدة وأقطارها المتعددة، فساهمت في تعرض الجميع لأخطار ونكبات لا يمكن ردّ بأسها دون وحدة الفكر والصفوف، وتلاقي الغاية والمناهج ورقيّ التوجيه والوسائل.
من هنا وجب التحذير من انزلاق بعض الفضائيات ذات التوجه الإسلامي – كما وقع فعلا – إلى إنتاج إعلامي وبرامج تلفازية مع استخدام العامية أكثر من الفصحى، بدلا من اقتصار ذلك على حالات الضرورة القصوى، مقابل التركيز على اللغة الجامعة للأمة على طريق واحد.
إنتاج هدّام موجّه
لم يكن نشر مزاعم “صعوبة” الفصحى على اللسان العربي وتغليب اللهجات العامية في عالم الكتابة والإنتاج – خارج نطاق وجودها الطبيعي في عالم التواصل المعيشي البشري – تطوّرا تلقائيا أو اعتباطيا، إنّما كان نتيجة مباشرة لجهود مركزة لغاية مقصودة، فمن يتأمّل مثلا في موجة الأفلام المصرية واللبنانية التي سبقت سواها في الخمسينات والستينات من القرن الميلادي العشرين، يدرك حجم الجريمة المرتكبة عمدا، لا سيما – وهنا أحد وجوه المفارقات العميقة المغزى – أنّ تلك الموجة “السينمائية” إلى جانب ما واكبها كتابة ونشرا، انطلقت في حقبة ما زالت توصف إلى اليوم بأنها “حقبة العصر الذهبي للقومية العربية”، فما الذي يبقى من الدعوات القومية دون اللغة العربية الفصحى، وهي أحد المحاور الرئيسية الجامعة لتكوين الأمة؟
آنذاك كانت كل شخصية تمثيلية في تلك الأفلام، بدور يتضمن استخدام الفصحى لسبب ما، يوضع لها الحوار، ويُقرّر لها أسلوب الأداء، بصيغ حافلة بألوان التقعّر في الكلام، والمغالاة والتنطّع في الحركات العبثية، وسط مشاهد مثيرة للاستهزاء والسخرية والتهكّم، لتترك في نفوس المشاهدين أثرا مطلوبا ابتداءً، فما كان القائمون على الإنتاج والإخراج “أغبياء” جاهلين بأنهم يوجهون بذلك خنجرا آخر من الخناجر المسمومة في ظهر اللغة العربية، وهي عماد “القومية العربية”، وليس المسؤولون الذي يعيدون بث تلك الأفلام عاما بعد عام وعقدا بعد عقد أغبياء أيضا، مما يدفع دفعا إلى الاستنكار: ماذا يريدون بذلك بعد؟
حتى كلمة “السلام عليكم ورحمة الله” على بساطتها، كان الممثل يلقيها بأداء يمدّ فيه الحروف مدّا معوجّا، كأنه يتقيؤها حرفا حرفا، أو كما لو خرج لتوه من لحده، تلاحقه نظرات شزرة وابتسامات صفراء وقهقهات ساخرة، وهو لا يشعر بشيء من ذلك أيضا، لشدة غبائه، وفق ما أراده منتج الفيلم ومخرجه وكاتب قصته وحواره، وما يحمل المسؤولية عنه صانع “القرار السياسي-الثقافي” في بلده.
ولو قارنّا تلك الصور المضحكة المبكية المصطنعة عمن يتكلم بالفصحى، بواقع ما كان عليه استخدام تلك العبارات من الفصحى التي لا تخلو منها اللهجات العامية، على ألسنة “العامة من الجمهور” في مصر ولبنان وسواهما، آنذاك وحتى اليوم، لأدركنا الفارق الكبير بين أوضاع اللسان العربي بتلقائيته، وبين ما يشوهه من إنتاج فني وغير فني بزعم “الاستجابة” لرغبات الجمهور وواقعه المعيشي!
واقترن ذلك الإنتاج “الفني” بحملات مشابهة على صعيد الرواية والمسرحية، وباتت الجوائز الثقافية تُبتكر ابتكارا لتشجيع كلّ إنتاج ينشر العامية، بدعوى قربه من الجمهور “المسكين”، أو علوّ كعبه في “إبداع” جريء على الثوابت، وتُحجب تلك الجوائز نفسها، مثلما تحجب “مناصب صناعة القرار الثقافي” الرسمية، عن كبار الأدباء والشعراء والمثقفين في تلك الحقبة، كالرافعي والزيات والعقاد وأقرانهم، ممن التزموا العربية وقدموا لها خدمات جلّى، وهو ما يصعب تفسيره دون الإشارة إلى اقتناعهم بأن خدمة العربية جزء من خدمة الإسلام وحضارته، وهذا ما يشير إليه تكريم المبدعين بالفصحى، ما داموا يجمعون إلى ذلك التنكر للإسلام.
إبداع “سياسي”
إن هذا التوجيه المدروس كان من وراء نشوء ما بات يُوصف بتعبير “النخبة” من المبدعين المحدثين، وكان منهم من اشتط في استخدام الأسلوب الأصعب بلاغيا على فهم العامة مثل طه حسين، أو من جمع بين الفصحى والعامية مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، أو من كان منذ ذلك الحين من الصغار إنتاجا وعطاء وما زال يظهر من يسلك مسلكه، فلا يجد إقبالا جماهيريا ولا غير جماهيري، إنّما كان العنصر الجامع بين الكبار والصغار هو مواقف التشكيك في الإسلام حاضناً للعروبة والعرب ولغتهم وحضارتهم وماضيهم ومستقبلهم، فكانت “النخبة” بذلك فئة عزلت نفسها عن الجمهور رغم مزاعم الاستجابة لرغبات الجمهور، وتلاقت على هدف “سياسي” في الدرجة الأولى، ساهم في توجيه ضربات علمانية إلى دعوة الإسلام، وبالتالي إلى العروبة نفسها باسم العروبة، فبات ذلك “الهدف السياسي” هو العنصر الأول لتزوير هوية الانتماء إلى “النخبة” من المبدعين، وسيان بعد ذلك هل ارتقى القلم فعلا بلغة عربية فصحى إلى مستوى مبدع كما كان مع القبّاني والبياتي وغيرهما ممن وجه مواهبه لضرب ثوابت أخرى في حياة الأمة، أم بقي القلم دون مستوى هذه اللغة الشاعرة المرهفة والقادرة على استيعاب كل جديد وتليد، إذ يكفي الإسهام في ضرب الثوابت، كما صُنع مثلا مع صاحب رواية “وليمة أعشاب البحر”!
أصبح “الهدف السياسي” لمن وضعوا أنفسهم في موقع “النخبة” هو المقياس، بدلا من أن يكون مقياس الإبداع في إنتاج أدبي وثقافي هو اللغة نفسها، وتطويع حروفها عطاءً وإبداعا، والقدرة على أن يجعل منها صلة وصل بين فكر كاتب يعطي ويتفاعل، وفكر قارئ يتلقى ويتفاعل، وهذا ما جعل تلك “النخبة” وجوائزها ومحافلها بعيدة عن المبدعين حقا ممّن وصلوا بأقلامهم الراقية وألسنتهم العفيفة إلى قلوب العامة والخاصة من الجمهور وعقولهم، مثل صاحب القلم السهل الممتنع الأديب العلاّمة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، أو الناقد والكاتب القصصي نجيب الكيلاني رحمه الله، وسواهما ممن نجد أسماءهم فيمن تتواصل معهم “رابطة الأدب الإسلامي” منذ حين في أرجاء العالم العربي والإسلامي.
دعوات التجزئة
حتى اختيار الأساتذة والمعلمين في المدارس لم يسلم من تلك الحملة التي رافقها تقليص متزايد عاما بعد عام لميادين استخدام العربية (الفصحى والعامية على السواء) في الجامعات والمعاهد العليا، في جل الأقطار العربية، فكانت جهود تطويع “العقل العربي” الناشئ للتغريب، تؤازر تطويع “اللسان العربي” الجماهيري للضياع والتفرقة، وتعاضد تطويع “الوجدان العربي” لتطبيع العلاقات مع من يستحيل أن تقوم معهم علاقات طبيعية من أعداء الأمة.
إن هدم حصن اللغة العربية الفصحى لا ينفصل عن هدم حصون أخرى، للصمود والمقاومة، والتي يُقال الآن إننا “نفتقدها” بعد أن أصبح العدو الصهيوأمريكي داخل الديار في حقبة “الاستقلال” بعد الاستعمار!
كان المطلوب صناعة “انفصام” بين الفرد العربي، المسلم وغير المسلم، وبين تاريخه، مسلما وغيرَ مسلم، لأن تاريخه هو التاريخ الحضاري الإسلامي، فكانت الحصيلة صناعة انفصام مماثل بين الفرد العربي، ومكامن القوة الحقيقية لانتمائه إلى العروبة نفسها. حتى إذا أصبحت وسائل الإعلام “الموجهة” في مقدمة أدوات تحطيم اللغة بدلا من نشرها، وتمزيق شمل الأمة بدلا من جمعه، ومحاربة اللسان المبين بدلا من صيانته، ظهرت دعوات جديدة أبعد مدى، تنادي بالحفاظ على “التراث الوطني” – وهو حق – ولكن على حساب التراث “العربي” المشترك، وليصبح التركيز تدريجيا عند أهل الخليج على نبطيتهم، وأهل وادي النيل على فرعونيتهم، وأهل الشمال المغربي على فرانكفونيتهم، ولا تزال وقائع الجريمة متوالية.
إننا لا نواجه في مسألة الفصحى والعامية قضية من قضايا “الاختلاف في الرأي” حول وسيلة أفضل للوصول إلى هدف كريم، إنما نواجه في هذه القضية، معولا من المعاول الهدامة لبعض شروط وجودنا وبقائنا، على حساب الإسلام والعروبة معا، وعلى حساب الجميع دون استثناء، وبما يشمل مختلف الميادين التي تساهم اللغة عادة – في حياة أي أمة من الأمم – في إعطائها دفعة إلى الأمام على طريق البناء والتقدم والوحدة، على مختلف أصعدة العلم والأدب والثقافة والفنون، عبر نهج حضاري لا يفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل.
مستقبل مشترك
لقد رصدنا كيف أمكن لبعض عمالقة القلم العربي في حقبة ماضية أن يصونوا حصن اللغة رغم الهجمة الضارية عليه آنذاك، وكان قد انفرد بهم الميدان إلى حدّ كبير، كما نرصد أن جيل الشبيبة وهو المستهدف أكثر من سواه بهذه الهجمة المتواصلة، قد بدأ يتحرك حركة مضادة، وأصبحت فئات منه تتحدى القيود المفروضة على محاضن الألسنة والأفكار والأحاسيس والأذواق، فمن خلال استعادة الوجدان الإسلامي وما يصنعه تلقائيا من الحرص على لغة القرآن الكريم، فأصبحت تلك الفئات قادرة على تجاوز العقبات المزعومة ما بينها وبين الفصحى، وصار الفرد منها أقدر بالإمكانات المحدودة المتوافرة بين يديه، أن يعوض كثيرا مما حرمته منه سياسات منحرفة في ميادين اللغة، في المدرسة والجامعة، في الكتاب ووسيلة الإعلام، في الفيلم والمسرحية، ويرجى ألا يمضي وقت طويل إلا وقد اتخذ هذا التطور على مستوى جيل المستقبل مداه، وأن يفرض نفسه على صناعة القرار، السياسي وغير السياسي، في مختلف مجالات العطاء الفكري والأدبي والثقافي والفني.
ولا يعني ذلك دعوةً إلى اتخاذ موقف الترقب والانتظار، ولا يخفى أن المرحلة الراهنة من الهجمة الصهيوأمريكية المتصاعدة، تنطوي على أخطر الجهود المباشرة من أجل توجيه مزيد من الضربات إلى مكامن القوّة الأولى لوجودنا الإنساني.. تحت عناوين تعديل المناهج (أي مزيد من التغريب) وتقويم الكتب (أي مزيد من التشويه) وضبط ما شرد أو تمرد من الإعلام (أي مزيد من وسائل غسيل الدماغ الجماعية)، ولا يمكن أمام ذلك القبول بموقف الترقب والانتظار.
إن أصحاب الأقلام المبدعة – وليس جيل الشبيبة وقد سبق كثيرا من أصحاب الأقلام – هم من يحملون المسؤولية الأكبر في هذه المرحلة، فهم من وراء كل خلاف صنعته حقبة وضع لجام السياسة على الأفواه والأقلام، وهم الأقدر على طي صفحة الماضي ومشاحناته، وعلى ملء صفحة الحاضر والمستقبل بعطاءات جديدة، على طريق يوحد ولا يفرق، ويبني ولا يهدم، ويهدي ولا يضلل، فيشق سبل التقدم للمستقبل على أركان ثابتة لا تتزعزع، مستأنفا ما انقطع من المسيرة الحضارية لهذه الأمة، وللبشرية من خلالها ومعها، ويجعل من اللغة العربية الفصحى – كما كانت – لغة القرآن الكريم، ولغة العرب المسلمين وغير المسلمين، ممن كانوا هم المكونات الحضارية المشتركة وعماد التاريخ المجيد ، وليصنعوا معا المستقبل المشترك العزيز الكريم.
نبيل شبيب