(نشر هذا المقال قبل عام من بلوغ الصمود منتهاه ورحيل من بقي من الثوار إلى الشمال السوري.. ولم يتغير موقع داريا في مسار الثورة ولن يكون صمودها دون حصيلة النصر في نهاية المطاف بإذن الله)
ما بين حي المزة في دمشق ومعضمية الشام الصامدة، نجد الطود الثوري الشامخ صامدا رغم الجراح التي أدمت كروم عنب الغوطة الغربية، وما زال يوجه الضربات من تحت الأنقاض ومن فوقها لبقايا نظام الاستبداد الإجرامي الفاسد وميليشياته المستوردة منذ مطلع ثورة شعب سورية الأبي.
إنها داريا..
وما أدراكم ما داريا..
هي شقيقة دمشق في مهدها الأول قبل ألوف السنين.. رافقت مسارات الرسالات الربانية في أرض الشام منذ ميلادها، وفتحت أبوابها أمام الصحابة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه بعد أن كانت معقل الغساسنة، واستوطن فيها على الأرجح أبو مسلم الخولاني من قبيلة بني خولان اليمنية، وهو الذي خاطب الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان في قصره وأمام أعوانه بكلمته المشهورة في حديث موقوف: (السلام عليك أيها الأجير..) ثم تابع بما معناه أن الله استأجرك لرعاية الناس، فإن أحسنت أحسن إليك وإن أسأت عاقبك رب الناس.. وها هم أهل داريا ينفذون قسطا من العقوبة التي تستحقها العصابات الأسدية وأتباعها، ممن ارتكب الجرائم وأيّ جرائم بحق أهل داريا وأهل سورية جميعا.. وحق الإنسان، جنس الإنسان.
كانت داريا في مقدمة الحراك الثوري السلمي، واشتهرت بأنها كانت -مع بانياس- السباقة إلى احتجاجات أهلها الأباة نصرةً لدرعا فور تعرضها للبطش الاستبدادي الغبيّ، في الأيام الأولى لولادة الثورة، وفي تلك الأيام أيضا اشتهرت داريا بمظاهرة احتجاجية فريدة من نوعها، يوم انطلقت الأمهات مع أولادهن تحديا للاستبداد الإجرامي في صباح اليوم التالي للإعلان عن الفتك الهمجي بحمزة الخطيب، ابن الأربعة عشر ربيعا، ومحاولة ترويع الأمهات والأباء في أنحاء سورية بصورة آثار التشويه تحت التعذيب على جسده.
لقد كانت مظاهرة الأمهات تلك إيذانا بولادة تصميم شعبي قاطع، يستحيل معه أن تتوقف الثورة قبل نهاية الاستبداد الهمجي الفاسد.
. . .
بدأت الثورة سلمية في جميع أنحاء الوطن السوري.. ولكن داريا كانت عاصمة "سلمية الثورة" بلا منازع، وكان ممن جسد تلك المرحلة شهيدها الشاب غياث مطر، مع رفيق دربه في "شباب داريا" يحيى الشربجي، وكان غياث يحمل الورود وقوارير الماء ويوزعها على "الأبالسة الأسديين" أثناء المسيرات السلمية في داريا التي انطلقت لأول مرة في ٢٥/ ٣/ ٢٠١١م، وغدر الأبالسة به اعتقالا وتعذيبا واغتيالا.. ونسأل الله تعالى أن يكتب لغياث مطر، الابن الذي ولد بعد استشهاد أبيه وحمل اسمه، حياة الحرية والكرامة والعدالة التي سدد ثمنها أبوه وأهل داريا وشعب سورية.
. . .
هي هي ذات المعركة، معركة الحرية والكرامة، التي ترفع داريا فيها راية مواجهة الإجرام والعدوان بمختلف أشكالهما عبر العصور التاريخية.
وما أدراكم ما داريا!
كانت داريا عام ٥٤٣م هدفا لما ارتكبه الصليبيون من حملات تخريب وتقتيل، وكانت عام ٧٩٩م هدفا لما ارتكبه التتار من تخريب وتقتيل، وها هي منذ عام ٢٠١١م هدف التخريب والتقتيل من جانب الأسديين الذين دمّروا أحياءها السكنية ومدارسها ومنشآتها الصناعية والزراعية، واستهدفوا مع عصابات الميليشيات المستوردة مساجدها الشاهدة من خلال أسمائها على الدرب الجامع للصحابة والتابعين دون تمييز، كجامعي عمر بن الخطاب والعباس بن عبد المطلب، وجامعي أنس بن مالك وأسامة بن زيد، وجامعي عمر بن عبد العزيز والخلفاء الراشدين، وجامعي أبي مسلم الخولاني وأبي إدريس الخولاني، ومسجدي الحسن والحسين وعثمان بن عفان، ومسجدي بلال الحبشي ومصعب بن عمير.
هم النجوم.. بأيّهم اقتديتم اهتديتم!
. . .
لا يكاد يوجد في داريا هذه الأيام بناء واحد قائم كما كان من قبل، في مدينة ناهز عدد سكانها البررة ثلاثمائة ألف إنسان عام ٢٠١١م، واستشهد منهم في سلسلة من المذابح الأسدية الإجرامية أكثر من ١٥٠٠ خلال عام ٢٠١٢م وحده.
لقد كانت المظاهرات السلمية تواجه بالقتل، فلا تعرف داريا يوما من أيام الجمع إلا وسقط فيها شهداء، كيوم "الجمعة العظيمة"، ويوم جمعة "عذرا حماة"، ناهيك عن المذابح الممنهجة الكبرى كمذبحة يوم السبت الأسود (٢٥ /٨ / ٢٠١٢م) وقد صعدت يومذاك أرواح أكثر من ٣٠٠ شهيد تلاهم أكثر من ٧٠٠ آخرون بعد أقل من شهرين (١٧/ ١٠/ ٢٠١٢م).
وما استشهد من أهل داريا مثل هذا العدد في (معركة داريا الكبرى) التي واجهت فيها الاحتلال الفرنسي عام ١٩٢٦م، عندما استهدف الاستعمار ثلة من زعماء الثورة السورية الكبرى اعتصموا في داريا، مثل الأمير عبد القادر الجزائري والشيخ محمد الحجازي.
. . .
لا يستغرب عن ثوار داريا أن يجعلوا منها إذن عاصمة الصمود الثوري في الغوطة الغربية طوال سنوات الثورة بعد أن كانت عاصمة "سلميّة الثورة" من قبل.
داريا شاهد على مسار الثورة الشعبية في سورية.. وستكون الشاهد على انتصارها بإذن الله.
وداريا شاهد على إبداع شباب سورية، ومنهم شباب داريا كما يؤكد ذلك إنجازهم الإعلامي الكبير في قلب الثورة وأعبائها، وهم يقيمون مؤسسة (عنب بلدي) الإعلامية، ويحررون وينشرون جريدة (عنب بلدي) الأسبوعية التي ولدت في رحم العام الأول من الثورة.
وداريا شاهد أيضا على ما تتطلع إليه الثورة الشعبية، كما يؤكد ذلك المجلس المحلي لمدينة داريا، الذي يعتبر نموذجا على الربط بين العمل الثوري الميداني والعمل المدني والمعيشي اليومي، فضلا عن العمل الإغاثي والقانوني الشرعي
وإننا لنطمح مثلما يطمح ذلك المجلس:
(لبناء شبكة علاقات واسعة مع كل من يناصر قضيتنا وقضية الشعب السوري.. ونطمح في بناء مشروع وطني يعبر عن سوريا وشعبها العظيم الموغل في جذور التاريخ)..
وندعو كما يسأل أهل ذلك المجلس:
(نسأل الله أن يكون عوناً لنا ويذلل كل الصعوبات التي نواجهها)..
نبيل شبيب