لو كانت العقود الماضية وما شهدت من فظائع همجية قابلة للمحو من الذاكرة..
ولو وجدت بعد "خبراتنا" مع سنوات الثورة حاجة إلى دليل..
فيكفينا للكشف عما ستشهده سورية وشعبها (وما حولها) -إذا انهارت الثورة نهائيا في وحل "حلول" آثمة- ما نراه هذه الأيام.. رأي العين.. من "نماذج مصغرة" منتشرة في:
– مناطق يحتلها الإجرام الأسدي والإجرام الدولي..
– مناطق محاصرة تسجل يوميا شهادات وفيات الأطفال كما في الغوطة الشرقية..
– مناطق يتابع الإجرام قصف أهلنا فيها كما في ريف إدلب وحماة والحدود الجنوبية، وفي جوبر وما يجاورها في دمشق..
كلا!
ليس السؤال: ماذا سيكون بعد الثورة.. فهذا يعلمه حتى من ينكره وكأنه يدفع المسؤولية عن نفسه.
السؤال الواجب: ما دمنا أحياء فما هي المرحلة التالية في مسار "تعاملنا" مع الثورة.
كل من يقول إن الثورة انتهت، سواء كان داخل الوطن أو خارج حدوده، مات لديه الأمل، سواء كان من العاملين أو الراصدين لعمل سواه..
وبقدر ما تزداد نسبة هؤلاء تزداد مخاطر وقوع أولادهم وأحفادهم وسائر أولادنا وأحفادنا في شرّ أكبر من الشرّ الذي انطلقت الثورة لوضع حدّ له..
وبقدر ارتفاع نسبة الغائبين عن كافة "أشكال" العمل على طريق التغيير، ترتفع نسبة الحاضرين في أوكار المساومات وعلى موائد صفقات ما يسمّى "حلول سياسية" للحيلولة دون التغيير.
ومن وراء ذلك تزداد احتمالات جرّ شعب سورية، أي أولادنا وأحفادنا من بعدنا، إلى أفظع بكثير مما تعبر عنه كلمة "كنا عايشين"، من المآسي في أقبية المخابرات وخارجها، ومن الخنوع للإهانات في كل مكان، ولرسف الأغلال والقيود التي حطمها شباب شعبنا بثورتهم وعطاءاتهم وفتيات شعبنا ببطولاتهنّ وتضحياتهن منذ يومها الأول.
صحيح أيها القارئ الكريم!
هذا كلام "مكرور".. ورغم ذلك لا يزال كلامنا المكرور هذا لاستثارة الأمل والتحفيز على العمل، أقل من كلام كثير منا لنشر اليأس من أي محاولة للعمل، ونحن نملّ منه، وإن زعمنا أننا نشأنا على اليقين بأن الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة، وبقيمة القول السديد.
أين الخلل؟
يوجد فينا من يطرح تنشيط مسار الثورة في سورية بلغة توحي باستحالة ذلك، فكيف ننشر الأمل، فضلا عن العمل، عندما نقول: يجب.. ثم يضيف القائل نفسه: ولكنّ ما حولنا يستدعي اليأس وليس الأمل!
يوجد فينا من يرى تنشيط مسار الثورة بردود أفعال يعبر أحدنا عنها بكلمات نارية، وهو على يقين بباطل أولئك الذين يتوهمون القدرة على إحياء رميم أسدي.. ولكن يعلم القائل نفسه أيضا أن ردود الأفعال ليست كافية لامتلاك أدوات تغيير ثوري!
يوجد فينا من يشيد أحيانا بما يرصده في أوساط جيل المستقبل الذي ولدت الثورة على يديه وبتضحياته، وأن نسبة متصاعدة من ذلك الجيل جعلتهم الثورة نفسها على جانب ملحوظ من المعرفة والخبرة والوعي، كما يرصد أنهم لا يملكون إلا إمكانات محدودة ليبادروا بتحرك ثوري فاعل.. ولكن فينا أيضا من يملك بعض الإمكانات، وما يزال مصرا على توظيفها لتكرار ما سبق في سنوات الثورة ومن قبل فحسب.
يوجد من بدأ منذ اليوم الأول للثورة بتشخيص أسبابها وتطور مساراتها وتبدّل أطروحات "أصدقائها" وأعدائها، وتقلب خطوط الجبهات وخرائطها.. ولا يزال يشخص، وينتظر أن يصف غيره الدواء وهو الأقدر على ذلك.
يوجد فينا من إذا رأى في بيان أو موقف أو مؤتمر أو مقالة "اسما علمانيا" نأى بنفسه عنه لأنه إسلامي كما يزعم، ومن إذا رأى "اسما إسلاميا" نأى بنفسه عنه لأنه علماني كما يزعم.
هذا الكلام موجّه لكثير ممن نعرفهم جميعا.. ممن لا يزالون قادرين أو يملكون من القدرات والكفاءات والإمكانات والتجربة وبعد النظر ما لا يملك سواهم، هذا الكلام لهم:
إن تنشيط مسار الثورة في سورية يتطلب أن يتلاقى الجميع على رؤية جامعة لما يرون، فعدم تحقيق ذلك من قبل كان أخطر العصي التي وضعت في مسار عجلات الثورة التغييرية التاريخية.
كل ما يجري حولنا يفرض ذلك.. وجميعنا يردد ذلك، ويضع "يوميا" في حديثه عن المخاطر التي تستدعيه عناوين جنيف وسوتشي وروسيا وأمريكا والخليج ومصر وإيران وتركيا.. وقد يصل بالقائمة إلى "واق الواق".. بل قد يضع كل منا أصنافا من الأجوبة على ذلك كله في دردشاتنا وراء الجدران أو يضعها أصحاب الأقلام مشروحة ومقتضبة ومنشورة على الملأ، ولكن:
أين هي الخطوات العملية (المشتركة) ونحن نعلم أن الجواب على (ما يصنعون بثورتنا ومستقبل أولادنا وأحفادنا) لا يكفيه الكلام مهما بلغت قوة صياغة البيانات ومهما بلغ تأييدها الإلكتروني بكبسة زرّ كما يقال!
لئن كان هذا مطلوبا لتنشيط الرأي العام، فإننا نصنع به "خيبات أمل" تتكرر فتنشر الموات على صعيد "الرأي العام" عندما لا يقترن الكلام بخطوات ما.. خطوات للشروع في (عمل) مباشر، من أجل التلاقي على طرح مشترك، يشمل معالم (هدف) و(رؤية) و(مخطط) و(آلية للتحرك) من أجل المرحلة التالية، وبالتالي التحرك فعلا ولو بمعشار ما نتكلم ونكتب ونقرأ.
أما من يسمع منا قول من يقول بفصاحة كلماته أو عطاء قلمه أو لسان حاله: لا نستطيع العمل، وهؤلاء قوى كبرى، ولا يُسمح لنا بالتحرك.. وما شابه ذلك، وهو كثير..
فلننتظر معه إذن أضرحة تغيّبنا عن الوجود!
حتى في هذه الحالة لن نمنع بقعودنا ومواتنا قبل الموت وقوع مزيد من القهر لأولادنا وأحفادنا ومزيد من إراقة دمائهم فوق أضرحتنا.
نبيل شبيب