مقالة – رمضان في الثورة

بين "خُلق الإنسان على الفطرة" وما يصنعه انحراف المجتمع به علاقة وثيقة متبادلة، لعلها تجسد معنى {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}..

لقد ترك الانحراف الموجه من جانب السلطة في التربية والتعليم والإعلام وغيره من وسائل "صناعة الإنسان الفرد"، وفي المعاملات اليومية والأوضاع المعيشية وغير ذلك من وسائل "صناعة المجتمع".. ترك على امتداد جيلين في سورية، أثرا في تكوين الإنسان السوري، فكانت الثورة الشعبية في جانب من جوانبها الأساسية ثورة على هذا الانحراف ونتائجه، وكانت أهدافها تشمل فيما تشمل التطلع إلى أوضاع تتوافق مع فطرة الإنسان على الخير.

لقد أهدرت طاقات وإمكانات كبيرة على الانحراف بصناعة الإنسان والمجتمع، وكان لا بد أن تكون الطاقات والإمكانات التي تبذل في الثورة كبيرة والتضحيات جسيمة للتخلص من عواقب الانحرافات. ولرمضان الذي يحلّ على أهل سورية هذا العام أثناء الثورة، له فضل كبير في إعادة صناعة الإنسان والمجتمع من جديد.

ليس كمثل رمضان فترة زمنية توثق الارتباط بين المرء وأخيه، والمرء وجاره، والمرء وأهله الأقربين والأبعدين، فيتضاعف الإحساس بواجب الجود والإنفاق، والتلاحم والتضامن، والعطاء والبذل، واحتساب كل لحظة من العمر وكل لقمة يسدّ بها رمق فقير يتضوّر جوعا، والاستعداد لاقتسام القليل القليل لتحقيق هدف كبير كبير.. (والله لا يؤمن.. من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم).

. . .

إنما يشهد رمضان أيضا على وجود من لا تنفعه الذكرى التي تنفع المؤمنين، ولا يملك وجدانا يحضّه على مراعاة ظروف المحرومين والمحاصرين، ولا يحسب حساب موت مفاجئ يصيبه ووقفة بين يدي الله تعالى لا ينفع خلالها مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم..

يوجد من لا يتورع عن ممارسة الفساد الذي جُبل عليه من عقود ما قبل الثورة، وعن استغلال احتياجات أهل بلده من أجل كسب مادي لن يحمله معه إلى قبر ينتظر حلول أجله بين لحظة وأخرى، ولا عن احتكار إجرامي يرفع الأسعار جشعا وطمعا، بل يوجد أيضا من لا يتورع عن مشاركة المجرم الأكبر، رئيس البراميل المتفجرة والميليشيات الهمجية، في إجرامه اليومي، حصارا منهكا للأبرياء حيث استطاع، وفتكا بالبشر في كل مكان جهارا نهارا، وقد غاب عنه قول الله تعالى {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصمّا مأواهم جهنم كلّما خبت زدناهم سعيرا}.

. . .

كلمة قالها ابن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم: "لست بالخبّ ولا الخبّ يخدعني".. لعلها في مقدمة ما نحتاج إليه عندما نتحدث عن طلب الهداية ورفض الضلالة، وعن الدروس والعبر، في رمضان وغير رمضان.

من أراد أن يكون مسلما يتميز بحسن الخلق والمعاملة.. لا بد أن يكون أيضا مسلما واعيا يقظا تجاه من يرتكب من الممارسات ما يكشف عن سوء خلقه ومعاملته..

إن المسلم الذي يمضي به إيمانه إلى صنع الخير ونشره بين البشر، هو عينه الذي يجب أن يمضي به إيمانه إلى مواجهة الشر وكف أذاه عن البشر..

وإن المؤمن الذي يأمر بالمعروف، هو عينه الذي ينهى عن المنكر..

وإن من يعبد الله بالصلاة والصيام والذكر يعبد الله بثورته على الطاغوت دفاعا عن أهله وأهل بلده..

في شهر رمضان من الدروس والعبر خلال هذه الثورة ما يعود بنا إلى حيث ينبغي أن نكون "جسدا واحدا.." وما يعود بنا أيضا إلى حيث ينبغي أن نكون "صفا واحدا كالبنيان المرصوص".

شهر رمضان كان في حياة الجيل الأول شهر الصيام والصلاة وشهر الجهاد.. شهر الإنفاق والإحسان وشهر كف أذى الناس بغيبة ونميمة وافتراء وبهتانا..

ولئن خرجنا من رمضان هذا العام بما يعلمنا رمضان من دروس وما يكشفه لنا من عبر، فلنعلم أننا قطعنا بثورة شعبنا شوطا بعيدا على طريق صناعة الإنسان الذي يصنع المستقبل، يصنع مجتمعا قويا بالإيمان في القلوب.. وبالترابط والتعاضد والتعاون على أرض الواقع، قويا بعلمه في شؤون دينه.. وبوعيه كيف يبني صرح دنياه في ظلال دينه، قويا بأخلاقه في التعامل بالتراحم بين الجديرين بالتراحم.. وفي التعامل بثورة تقضي بلهيبها على من لا يرحم من في الأرض فلا يستحق رحمة من في السماء.

تقبل الله منا جميعا صالح العمل في ديننا ودنيانا، ولله عاقبة الأمور.

نبيل شبيب