مع تصعيد التدخل العسكري الروسي العدواني في سورية وردود الفعل الغربية عليه، تدور المتابعات الجادة في الأوساط الثورية السورية حول تساؤل محوري مع بعض الشعور بالمرارة: كيف نؤثر على صناعة القرار "الدولي" بشأن ما يجري في بلادنا؟
توجد عراقيل ذاتية في وجه ذلك.. ويطرح كاتب هذه السطور بعضها من وجهة نظره، قبل تعداد عناوين بعض الشروط الموضوعية المعروفة لممارسة التأثير.
مغالطة في تطبيق "التوكل على الله"
إن عجزنا عن التأثير فهل البديل هو قولنا "ما لنا غيرك يا ألله"، أم أصبح بعضنا -من خارج الميدان- أقرب إلى التهرب من أداء عمل صعب مباشر، وإن صدق في قوله هذا؟
لا شك في قدرة الله على تنزيل نصر من السماء إن شاء، ولكن قضت مشيئته ربط استحقاق النصر بعمل من جانبنا {إن تنصروا الله ينصركم}.. وحتى في العهد النبوي وما بعده، ارتبطت انتصارات بدر، والخندق، والفتح، واليرموك، والقادسية، وغيرها، باتخاذ الأسباب العملية أيضا، ومنها:
صناعة الأفراد المتكاملين بتخصصاتهم، وممارسة التخطيط ليس في حدث الهجرة فقط، وتكوين مجتمع المؤاخاة..
وليس مقبولا اعتذار بعضنا بأن هذا خاص بالجيل الأول، فنحن مكلفون بالتأسّي، ولا يكلفنا الله بما هو خارج وسعنا..
وليس مقبولا الاعتذار بأن ظروفنا صعبة، فجميع ما أنجز في العهد الأول ويجب أن نتأسّى به كان أثناء حمل أعباء الرسالة وزرع بذور الحضارة، وبالتزامن مع أشد الظروف المحلية والعالمية المضادة للتغيير، في مكة ثم المدينة.
ليس المطلوب أن "تتكرر" هذه الصورة التاريخية بحذافيرها، ولكن تبقى القواعد العامة أساسا لما نحتاج إلى إبداعه الآن لتلبية المعطيات والاحتياجات الحالية في عالمنا وعصرنا.
كفى هدرا للإمكانات
لا يتحقق التأثير على مراكز صنع القرار عبر شكل تطبيقي واحد، كالذي يعبر عنه قولنا: إن استمرارية العمل الميداني ودعمه هو ما يؤثر على صناعة القرار..
هذا صحيح.. ولكن نحتاج أيضا إلى "أفكار وجهود وطاقات وكفاءات وتواصل.." في نطاق إنجازات أخرى تتراكم ضمن عمل مؤسساتي منتظم، ولهذا وجب علينا أولا وضع حد لهدر الفكر والجهد والطاقة والكفاءة بل هدر المغزى من تواصلنا مع بعضنا أيضا..
لقد أصبحنا "مدمنين" على الكلام والنقاش، وعلى جلد الذات، وعلى تناقل الأخبار والصور مرارا بلا حساب، وهذا ضرب من التخدير الذاتي، بدلا من توظيف ما نضيعه من إمكانات على هذا النحو، في اتجاه آخر، هو الجانب الحاسم: التلاقي على عمل مؤسساتي له تأثيره عموما، ومن ذلك ميدان التأثير على القرار الدولي.
تصورات وهمية.. وإغفال الواقع
ليست المشكلة أننا "لا نفكر" و"لا نحاول العمل" بل يكمن جانب منها في إدمان التفكير والعمل بعيدا عن الواجب الأهم في مسار الثورة.
إذا استثنينا أهلنا في ميادين المواجهة والعاملين في إغاثة الضحايا من شعبنا، ووقفنا عند تعاملنا مع الواقعة الراهنة بين أيدينا، أي تصعيد العدوان الروسي، سنجد مثلا:
يرصد كثير منا "الكلمات والحروف" في تصريحات أمريكية بصدد استهداف روسي متعمد لمواقع ثوار مسلحين لا تصنفهم "الدولة الصديقة" في قائمتها الإرهابية، وقد نتنبأ بأن الرد الأمريكي على هذا "الاستفزاز الروسي" قادم لا محالة.. فينتظره بعضنا، وينكر بعضنا الآخر هذا الاحتمال.. وينتظر أيضا!
من باب "المصادفة" -كما يقال- أن تبث شبكة الجزيرة هذه الأيام فيلما وثائقيا حول حادثة إغراق سفينة ليبرتي التجسسية الأمريكية، ومن تابعه أو عايش الواقعة بنفسه يعلم أن الحكومة الأمريكية آنذاك لم تتحرك رغم قتل "الإنسان الأمريكي" فهل تختلف عنها الحكومة الحالية وتتحرك من أجل "الإنسان السوري" سواء كان من "الجيش الحر" أو ممن "دربتهم" عسكريا بشرط استهداف داعش فقط؟!
شبيه ذلك ما يتعلق بمنطقة آمنة، أو تحصيل أسلحة نوعية، وهكذا.. إذ نغفل عن "مصالح" الدول المعنية بهذه التوقعات، وأنه ليس من "مصلحة ثورتنا" أن تضيع مصالحها وتتزعزع أوضاعها.
إن صناعة القرار الأمريكي والغربي أو الدولي عموما يقوم على عناصر موضوعية، ولا يتأثر إلا نادرا بعناصر منبثقة عن معايير القيم والحقوق والمعايير الإنسانية.
المهم.. والأهم
ننادي بالعمل للوصول إلى الرأي العام العالمي، عبر نشر المعلومات وتنظيم الحملات الافتراضية وربما المظاهرات والاحتجاجات.. ولنفترض أننا حققنا هذا الهدف، كيف نستثمر نجاحنا إذا تجاهلنا أن الرأي العام هو "عامل مساعد" فحسب ولا يغني عن "عمل مؤسساتي" مدروس للتأثير على "مراكز صنع القرار"..
هذا مع ملاحظة أن التأثير على الرأي العام يتطلب ما يتجاوز بكثير حدود نقل المعلومة، لا سيما وأنها غالبا معروفة سلفا.. مثل قتل المدنيين بالسلاح الروسي وبأيد روسية ومن طائرات روسية للمدنيين؟
إن الدعوات للتضامن وحملات نشر المعلومات تساهم في صناعة "أجواء" عامة، وليس في صناعة القرار بصورة مباشرة
التواصل بلا حصيلة
يشغل كثير مما سبق معظم "تواصلنا" مباشرة وعبر قاعات "افتراضية"، ولكن نادرا ما يأخذ عنصر "الزمن" مكانه، فتبقى حصيلة التواصل متأخرة خطوة أو خطوات عما يصنع "الآخر"..
قد يبرر بعضنا بطء إنجازات تواصلنا المباشر بالحاجة إلى التمهيد والتعارف، وما زلنا منذ مطلع الثورة في مرحلة "التمهيد والتعارف"!
أما التواصل الافتراضي فلا يفيد أصلا إلا كوسيلة "تقنية إضافية ترفد التواصل المباشر.
معظم ذلك يتحول نتيجة غياب الحرفية والمؤسساتية عنه إلى حقنة تخدير أو خداع ذاتي، توهم بأننا "نعمل"، ونحن ندردش ونتألم، بعيدا عن صناعة القرار وبعيدا عن سبل التأثير على صناعته.
هل نحن أضعف من أن نؤثر؟
نحن "ضعفاء في عالمنا وعصرنا، هذا صحيح بجميع المقاييس المادية، ولكن أصبح بعضنا يسد أبواب العمل لتقوية أنفسنا مسبقا.. بقوله "الضعفاء لا يؤثرون على صناعة القرار".
وهذا إحباط تتراكم فيه التناقضات فوق بعضها بعضا:
١- صناعة التغيير تبدأ دوما من جانب الضعفاء وهذا شأن الثورات الشعبية أيضا.. وإلا فهل حدث أن بدل "الأقوياء" بأنفسهم وضعا يسيطرون عليه؟
٢- عايشنا ونعايش ما تصنعه -ولو جزئيا- جولات "الأمعاء الخاوية" كما يصفها أهلنا بفلسطين و"جولات المرابطين في الأقصى"، كما أننا عايشنا ونعايش ما صنعته سياسيا وواقعيا قوافل "المشردين عن الوطن" عبر البحار والوديان والجبال، رغم المعاناة والعقبات.
٣- الضعف الذاتي في الساحة الثورية السورية تحديدا مرتبط بالانفصال عنها شعورا أو فكرا أو أهدافا أو ممارسات، والقوة الذاتية مرتبطة بالاندماج في مسار الثورة.. وقد فرضت نفسها إقليميا ودوليا، من فوق الآلام والمعاناة والتضحيات والأخطاء الذاتية ومن فوق المؤامرات والتحركات المضادة الخارجية.
٤- نسأل من يقول "الضعفاء لا يؤثرون": ما البديل؟ ثم ما عسانا نفعل بمن يتحرك ويضحي ويبذل ما يستطيع؟ أليس ضعفنا ناجما عن أننا إن أخطأ جعلنا خطأه تبريرا لضعفنا نحن، وإن أصاب نثبطه بقولنا إننا ضعفاء ودون مستوى تحقيق إنجازات كبيرة.
عناوين بعض شروط التأثير
نعود إلى السؤال: كيف نؤثر على صناعة القرار "الدولي" -وليس على الرأي العام فقط- بشأن ما يجري في سورية؟..
لا يوجد جواب جاهز، وإن وجد سيخضع لتعديل متجدد تفرضه المتغيرات، ولكن توجد عناوين لما انتشر واقعيا توافق عام بصدده، مع إدراك أنه لا يتحقق شيء منه دون مبادرات منهجية.. وجامعة غير إقصائية.
١- إيجاد القوة المؤثرة.. بتوحيد ما يمكن توحيده، على قاعدة "الثورة تجمعنا"
٢- إيجاد القيادة الفاعلة.. عبر "التخصص والتكامل" والإنجاز وليس بمجرد توحيد "هيكلية العمل"
٣- إيجاد التنظيم المؤسساتي.. الذي يحدد قواعد العمل وليس التوافق ضمن "صراع المبادئ"
٤- إيجاد الرؤية والتخطيط.. لا "الرؤى المتعددة" وإن تشابهت.. ولا الارتجال المتكرر
٥- إيجاد آليات للمصالح المشروعة المتبادلة مع "الآخر" من خارج الوطن.. ورفض أن يكون "تبادلها" شارعا باتجاه واحد.
نبيل شبيب