مفاهيم
مما يستحق الإشادة والمتابعة في مسار الثورة الشعبية في سورية ازدياد الوعي الثوري عموما بأهمية وجود رؤية شمولية بعيدة، وممارسة سياسية رشيدة، ومهنية هادفة سديدة، وينعكس ذلك الوعي في ازدياد الإقبال على تشكيل مؤسسات تأهيلية، وعقد دورات تدريبية، وطرح ندوات حوارية، مع السعي لاستيعاب مجرى الأحداث وتقلب المواقف استيعابا يشمل خلفياتها وأبعادها وتشابكها مع بعضها واستشراف نتائجها المحتملة، إضافة إلى جهود متنامية لاكتساب مهارات العمل الإعلامي والعمل الأهلي/ المدني، ولا تخفى أهميتهما لاستقرار العدالة والحقوق في الدول والمجتمعات، فوجودهما البصير الفعال في المجتمع مؤشر مباشر على انتشار الوعي السياسي الفردي ومستوى العمل السياسي التخصصي.
. . .
هذا على صعيد المشهد العام أو خلفية ما يراد طرحه هنا، جوابا على اتصالات وتساؤلات تكررت مؤخرا، وتصعب إجابة الجميع بصددها فردا فردا. محورها: ما مصير أعمال أو مبادرات كان لكاتب هذه السطور موقع فيها، أهمها: “تيار العدالة الوطني في سورية” و”حزب العدالة السوري تحت التأسيس”، ومنها: مبادرة قديمة “مضمونا” ولكنها ضرورية اليوم أيضا من حيث المغزى، وكانت بعنوان: “مطالبة المجلس الوطني بالإصلاح الذاتي إصلاحا جذريا شاملا”، وآخرها: “منارات الثورة الشعبية في سورية” التي انطلقت لإيجاد منبر متميز مشترك -بين أصحاب أقلام متميزة، معروفة من قبل الثورة وناشئة من صنع الثورة، لإضاءة طريق التغيير/.
على هذه الخلفية بمجموعها تأتي الإيضاحات التالية حول موضوعين هما:
أولا: انتشار استخدام كلمة “العدالة” في تسميات سياسية ذات خلفية إسلامية.
ثانيا: حزب العدالة السوري تحت التأسيس، متى يتأسس.
العدالة
بادئ ذي بدء، ليست “العدالة” قيمة أساسية من القيم فحسب، بل هي “حاضنة كافة القيم” ذات الصلة بالعلاقات البشرية في مختلف الميادين وعلى كافة الأصعدة.
لا تتحقق الحريات العامة كما ينبغي دون العدالة، ولا تحفظ الحقوق المعنوية والمادية دون العدالة، ولا توجد سلطات راشدة دون العدالة، بل لا تستقيم التربية الأسروية دون العدالة، ولا التعليم في المدارس دون العدالة، وهكذا دواليك، مما جعل تثبيت قيمة العدالة أساسا لصياغة أي رؤية أو منهج، وهذا ما يسري على رؤية إسلامية ومنهج إسلامي بطبيعة الحال.
إن اختيار كلمة العدالة مؤخرا في تسمية كثير من الأحزاب والتجمعات ذات التوجه الإسلامي، يشير إلى أن الجميع يغترفون من مشكاة واحدة كما يقال، ولا يعطي بالضرورة مؤشرا أو دليلا على وجود اقتداء أو تواصل أو اتفاق أو تنظيم.
جدير بالرصد والاهتمام أيضا أن التنظيمات الإسلامية ذات الاهتمامات الشمولية، أي العاملة في كافة الميادين وليس الميدان السياسي وحده، لم تجعل كلمة “العدالة” جزءا من تسمياتها، إنما لجأت إلى ذلك غالبا عند تأسيس أحزاب منبثقة عنها أو متأثرة بها، ويفترض أنها تعلم مسبقا -أو تكتشف- أن الحزب أداة لممارسة السياسة، أي إدارة الشؤون العامة، ذات التأثير على العلاقات البينية بين البشر، وهنا تزداد أهمية “العدالة”، وهنا نجد تميزا يخدم مصلحة كافة البشر، أي جنس الإنسان، فيما يطرحه الإسلام عبر مبدأ العدالة، لا سيما الآن، بعد ما استشرى واستفحل من ظلم وطغيان، محلي ودولي، وشمل مختلف ميادين العلاقات البشرية.
لهذا نجد كثيرا من الخطوات الحزبية الحديثة، من منطلق إسلامي، من تركيا إلى المغرب، ومن قبل اندلاع ثورات التغيير الشعبية العربية وأثناءها، تصل غالبا إلى اختيار كلمة العدالة ضمن المسميات التي تختارها، ولا ينبغي أن ينزلق أحد في تفسير ذلك إلى التأويل والتخمين والتكهن.
حزب العدالة السوري تحت التأسيس
أول ما شارك كاتب هذه السطور في طرح بعض الأفكار للمقصود بتبني مبدأ العدالة من منطلق إسلامي، كان أثناء مناقشة اختيار الاسم المناسب لتجمع دعا إلى تأسيسه د. محمد شادي كسكين، واستقر اختيار المشاركين في الخطوات التأسيسية الأولى على اسم “تيار العدالة الوطني في سورية”، وهو تجمع لا يتخصص بالشأن السياسي وإن وجد من توهم ذلك في حينه، وكان في مقدمة إنجازاته العمل الإغاثي والتوثيقي وانبثق عنه “مركز العدالة للدراسات والتوثيق”.
في مطلع ٢٠١٢م كان التفكير بتأسيس “حزب سياسي” مع ملاحظة أمرين:
١- الحزب “أداة لعمل سياسي في دولة”، فهو متخصص وينبغي أن يكون مستقلا عن أي تجمع آخر، لتكون صناعة القرار “السياسي الحزبي” من صلاحية أعضائه وأجهزته فقط.
٢- التأسيس الفعلي يتطلب بالضرورة وجود “الحزب” في نطاق دولة معتبرة بمؤسسات حقيقية، ووجود “دستور وقانون أحزاب وقانون انتخابات” فيها.
هذا لا يتوافر بالنسبة إلى سورية وسواها أثناء الثورة، أي لا يتوافر قبل الدخول في مرحلة انتقالية بعد إسقاط أخطبوط الاستبداد والفساد، ليبدأ العمل الجماعي -من فوق تعددية الأحزاب والتوجهات- من أجل ترسيخ أسس البناء الجديد للدولة، وهو ما يوصف عادة بالمبادئ فوق الدستورية، أي الضامنة لحقوق الغالبية والأقليات في وقت واحد، وإن تعاقبت التشكيلات الحكومية التعددية لاحقا.
. . .
بناء على ما سبق أخذ التحرك نحو تأسيس أحزاب سورية قبل المرحلة الانتقالية أحد اتجاهين:
الاتجاه الأول: إعلان التأسيس الفعلي، وهنا ينشأ تجمع لا يحقق الشروط الأساسية لوجوده “حزبا” وعمله “حزبا” في دولة، ولهذا انتشرت أثناء الثورة تجمعات عديدة تعتبر نفسها أحزابا ولكن لا تمارس “عملا حزبيا” مؤثرا، ولا يعني ذلك انتقاصا من شأن ما تعمل فيه، ولكن يمكن صنعه باسم “تجمع، رابطة، اتحاد” مما يرتبط بمعطيات وبمنطلقات قانونية أخرى، ولكن لا يجسد العمل “السياسي الحزبي التخصصي الحرفي” في دولة.
الاتجاه الثاني: الاكتفاء بالتحضير المبدئي ليكون الإعلان عن التأسيس الفعلي للحزب لاحقا، ولكن مواكبا لمجرى الأحداث في مطلع الفترة الانتقالية.
بعد الإعلان عن “مؤتمر تشاوري” من أجل “حزب تحت التأسيس” باسم “حزب العدالة السوري” اقتصر العمل على التحضير ولم يشمل إجراءات تأسيس فعلي، ولكن كانت الأجواء العامة من أسباب انتشار الانطباع بأننا بدأنا بتأسيس الحزب فعلا، وظهرت أثناء تلك الفترة عقبات:
١- العقبة التمويلية، بسبب الحرص على الاستقلالية المطلقة وبسبب بقاء الأولوية عند الداعمين من أصحاب المال من الأفراد للعمل الثوري المباشر والعمل الإغاثي الملح.
٢- العقبة التنظيمية، لعدم توافر ما يكفي من الكفاءات التخصصية للأعمال التنظيمية الضرورية للفترة التحضيرية لا سيما خلال المرحلة الأولى من الثورة.
٣- العقبة الموضوعية، والمقصود عدم قدرتنا على بيان أننا في مرحلة تحضيرية وليس “تأسيسية رسمية” للحزب.
بعد عام من المؤتمر التحضيري، تم “تجميد العمل” دون التخلي عن الفكرة.
. . .
رغم الإعلان المتكرر حول ما سبق، لم ينقطع التواصل وتسجيل التأييد للفكر المحوري المطروح حول كلمة “العدالة” والمبادئ الأساسية المطروحة من أجل عمل حزبي مستقبلي، بل بقي التردد متواصلا على الموقع الشبكي وتسجيل تعليقات أو “إعجاب” بالمطروح فيه.
هذا ما يدفع لتسجيل هذه الإيضاحات ونشرها، ويضيف كاتب هذه السطور إليها:
١- نحن في مرحلة نحتاج فيها إلى جهود منظمة هادفة من أجل “تأهيل” فكري وسياسي وحرفي، لا سيما حول كيفية العمل السياسي الحزبي، مع التركيز على جيل المستقبل، الذي يحمل أمانة مسار “التغيير” بعد أن فتح بوابته عبر “الثورة” وما أطلقته من طاقات وكفاءات وإمكانات.
٢- من أراد دعم هذا العمل “التأهيلي” و”التحضيري” وليس “التأسيسي المباشر” لحزب العدالة السوري، فلا بد أن يشمل هذا الدعم عدة عناصر بالغة الأهمية، في مقدمتها:
(١) الاستقلالية السياسية الذاتية في التعامل مع الجميع من ثوريين ومن قوى وطنية ومن قوى إقليمية ودولية.
(٢) استقلالية التمويل الذاتي، أي الاعتماد على دعم أصحاب المال من أنصار هذه الرؤية أفرادا وتجمعات.
(٣) مشاركة كفاءات حرفية في ميادين التخطيط والتنظيم والإدارة.
(٤) وجود العناصر الراغبة في التأهل لعمل سياسي حزبي، لتكون هي الكادر الحزبي والقيادات الحزبية مستقبلا.
٣- إذا ظهرت مؤشرات لتحقيق ما سبق بنسبة “كافية” لاستئناف الطريق، أي للانتقال من حالة “تجميد العمل” الحالية، إلى حالة “متابعة” ممارسة الوسائل التنظيمية والتأهيلية، فإن كاتب هذه السطور يضع نفسه تحت التصرف للتواصل المبدئي، مع الإعلان عن كل جديد حيث يكون الإعلان مناسبا.
والله ولي التوفيق ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب