مفاهيم
تاريخيا نشأت كلمة ثورة في أصولها اللاتينية والإغريقية، بمعنى أقرب إلى كلمة التجديد حاليا، أي تغيير معالم وضع حديث منحرف باتجاه وضع قويم؛ فآنذاك كانت تستخدم كلمة ثورة في علم الفلك لتعبر عن دورة أحد الأجرام السماوية حتى يعود إلى منطلقه الأول، لهذا أطلقت الكلمة لاحقا من باب الاستعارة، على عملية تغيير سياسي شهدتها إنجلترا في القرن السابع عشر الميلادي.
في مرحلة تالية اكتسبت كلمة ثورة معنى التغيير القسري عبر تعبير الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، ثم لم يقف استخدامُها عند الجانب السياسي بل شمل وصفَ كلّ تغيير جذري، كما يظهر من تعابير الثورة الصناعية والثورة التقنية وغيرها.
عناصر كلمة الثورة اصطلاحيا هي تغيير وضع قائم، رغما عنه، تغييرا جذريا وشاملا.
* * *
هذا جانب تاريخي نظري، فماذا يفيد عمليا تثبيت مصطلح الثورة في التعامل مع الثورات الشعبية العربية ومساراتها؟
قبل الجواب ينبغي التأكيد على رفض إطلاق وصف ثورات على انقلابات عسكرية، وإن تسرب إلى اللغة العربية نتيجة لذلك إطلاق كلمة مصطلح الثورة على تغيير السلطة بالقوة، وإن كانت قوة عسكرية انقلابية محضة.
كمت أن ما قام من تغيير وصف بالثورات بعد أن وجد تأييدا شعبيا كالثورة الإيرانية، ولكن فرض أوضاعا استبدادية، وهي أوضاع تجعل الثورة مشروعة ضدّها.
يعني ما سبق: إن كل ثورة شعبية عربية تصل إلى مرحلة البناء، تستدعي الحرص من اللحظات الأولى على تجنّب أي بذرة من بذور انحراف يؤدّي لاحقا إلى وضع استبدادي جديد.
وتصبح القاعدة العامة:
كل وضع مفروض غير مشروع يعطي المشروعية للثورةَ عليه، بغض النظر عن نشأته الأولى.
* * *
سؤال آخر: من يصنع الثورة؟
تاريخيا: في فرنسا صنعت الثورةَ طبقة اجتماعية، وفي روسيا حزب، وفي إيران تنظيم ديني كبير. بينما كانت أولى الثورات الشعبية بمعنى ثورات صنعتها الشعوب بنفسها، هي الثورات العربية التي نعاصرها، وينبني على ذلك عمليا: لا يمكن القول بانتصار الثورة إلا عند نشأة وضع يقوم على تحكيم إرادة الشعب.
بالتالي:
المعارضة، الأحزاب، المستقلون، المجالس الوطنية، وغير ذلك، كالدستور، الميثاق الوطني، وحتى الآليات الإجرائية كالانتخابات، جميع ذلك وسائل، يُحكم عليها بمنظور الثورة من خلال مدى تنفيذها أو عدم تنفيذها لِمحور ما تعنيه الثورة: تحكيم إرادة الشعب.
* * *
أمر آخر من الأمور العملية يتصل بتعبير الثورة الشعبية، وهو وصفها بالثورة السلمية. وهذه صفة مكتسبة لأن الشعوب لا تملك قوة السلاح الكافية لإسقاط القوة العاتية الاستبدادية المسلحة؛ هذه الصفة لا علاقة لها بجوهر مصطلح الثورة وهو التغيير الجذري الشامل وفق تحكيم إرادة الشعب؛ صفة السلمية مرتبطة بالوسيلة التي تستخدمها الثورة.
يعني ذلك:
مشروعية الثورة مشروعية مرتبطة بها ذاتيا، سببا وهدفا، وتبقى مشروعية ثابتة، بغض النظر عما يوصف بمشروعية الوسيلة، وهل تنطوي على استخدام القوة المسلحة أم لا.
الوسيلة مرتبطة بما يتوافر من معطيات على أرض الواقع، والسؤال عما هو أصلح لتحقيق الغاية، المشروعة على كل حال.
ومن أخطر المغالطات القول:
إن استخدام القوة في الثورة بحد ذاته باطل، وذلك مقابل استخدام الاستبداد الباطل للقوة غير المشروعة، والباطلة، في حربه على الشعب الثائر.
إنّ الدعوة إلى سلمية الثورة وعدم عسكرتها لا تعني أنها إن تضمنت استخدام القوة المسلحة تصبح ثورة غير مشروعة؛ هي مشروعة على كل حال، أما عدم عسكرتها فأمر مطلوب من أجل ألا يكون ثمن انتصار الثورة عددا أكبر من الضحايا الأبرياء، وكل قطرة دم تسيل، غالية الثمن؛ وكل وسيلة مشروعة بحدّ ذاتها، واجبة بقدر ما توجبها متطلبات انتصار الثورة الشعبية على القوة الباطشة التي يستخدمها الاستبداد الباطل المسلح.
* * *
هذه الحلقة حول مصطلح الثورة باختصار:
تعني الثورة تاريخيا التغييرَ الجذري الشامل؛ والثوراتُ العربية المعاصرة هي الثورات الشعبية الأولى في تاريخ البشرية، وهي ثورات مشروعة بحد ذاتها، سلمية من حيث وسائلها، وإن دفع الطرف الآخر إلى استخدام وسائل القوة في مرحلة من مراحلها.
والله من وراء القصد، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب.