تحليل
تأسس في مواكبة الثورات الشعبية العربية عدد كبير يقدّر بالعشرات (في تركيا وحدها) من المراكز والمعاهد العربية للبحوث والدراسات والتوثيق، وقد بذلت جهودا مشكورة للإسهام في بيان ما جرى ويجري في بلدان “الربيع العربي” وبعض “بلدان الشتات”، وما يرتبط بذلك من تطورات إقليمية ودولية، ورغم ذلك تبقى التساؤلات مطروحة:
علام لم يظهر للعيان بوضوح أثر تلك الجهود في صناعة القرار والحدث في مسار الثورات نفسها؟
في ظل الظروف السلبية الراهنة من مسار الثورات، ما الذي يمكن أن تصنعه تلك المراكز مستقبلا؟
تنطلق الفقرات التالية من الحاجة الماسة إلى عطاء هذه المراكز بمنظور حتمية متابعة طريق التغيير، إذ أصبح إغلاق أبوابه مستحيلا، وترتبط تلك الحاجة الماسة بأن نوعية التغيير وسرعته وتعاقب مراحله رهن بمن يعمل من أجله وكيف يعمل، وفق الإرادة الشعبية، أو وفق مصالح ومطامع عدوانية أجنبية، وهذا ما يمكن للمراكز أن تطرحه منهجيا وتحدد آليات العمل الأنسب لتحقيقه ليكون معبرا عن الإرادة الشعبية مستقبلا.
عقبات ومعيقات
إن عطاء هذه المراكز ضروري، ولكن فعالية أثره مستقبلا، مرتبطة نوعا وكمّا بمراجعة المراكز لنفسها ولإنجازاتها وطريقة عملها وتطويرها، على خلفية عقبات اعترضتها وكان في مقدمتها:
١- غلبة التوجه الانتمائي والسياسي للجهة التي أسست مركزا ما وموّلته وما زالت تموّله، على الآفاق المطلوبة والمعيقات الواقعية للاستقلالية الضرورية في العمل البحثي.
٢- اقتصار التعاون بين المراكز الحديثة النشأة على من تتوافق رؤاهم وأهدافهم بين بعضهم (حسب الجهات المؤسسة والممولة) أو تتقارب إلى حد لا بأس به، وهذا يقلص “حجم” العطاء وتنوعه، ويقلص بالتالي مفعوله، عبر إغفال العوامل المشتركة لحساب اتجاهات وتصورات وانتماءات متفرقة.
٣- تطبيق أساليب عمل متبعة -وربما ناجحة- في دول مستقرة، فالاستقرار يجعل الإنجاز مفيدا لوجود أجهزة أخرى تعمل للاستفادة منه دون عوائق كبيرة، بينما غلب تردد المراكز الناشئة عن مراعاة الحالة الاستثنائية وما تتطلبه من نوعيات عمل مبتكرة تبعا لواقع مرتبط بقضايا ثورية تغييرية، مما يشمل الناحية الجغرافية (مراكز في الشتات والمنافي) والنوعية حسب تطور مطّرد في سيولة مسار الثورة وسيولة مسار التغيير.
٤- من المتطلبات الاستثنائية مراعاة سرعة الأحداث وتقلب الأوضاع والمعطيات، فكثيرا ما كانت القضايا المطروحة للبحث مستمدة من حالات آنية ومعطياتها، إنما لا يبلغ البحث غايته إلا وتكون الحالة موضع البحث قد تبدلت، وظهرت معطيات جديدة، فبقيت البحوث والدراسات “تلحق” بالحدث، بدلا من الإسهام في المبادرة للتأثير فيه، وهذا ما يمثل فارقا حاسما بين مركز يعمل في دولة مستقرة وما يفترض أن يكون عليه مركز يعمل في مرحلة تغييرية لإيجاد دولة مستقرة.
٥- الضعف الشديد إلى درجة الغياب التام، لفعاليات التواصل والتشبيك بهدف التعاون والتكامل، بين مراكز بحوث ودراسات في أوضاع متشابهة، وتواجه عقبات متماثلة، ناهيك عن التواصل المدروس مع بعض المراكز ومعاهد البحوث والدراسات قائمة وناشطة من قبل اندلاع ثورات “الربيع العربي”، والانتفاضات الفلسطينية، والغزو الأمريكي للعراق.
٦- اقتصار عدد كبير من المراكز الناشئة على العمل في ميادين “الدراسة وتشخيص المشكلات” دون المبادرة إلى طرح “الحلول والبدائل والآليات”، مع أن هذا في صلب مهمة مراكز البحث عموما.
بين البحث المجرد وآليات العمل
لا يتسع المجال في مقال للتفصيل في العقبات المذكورة كأمثلة، وما هو المطلوب لتجاوزها لتنمية عطاءات المراكز الناشئة، وبالتالي تطوير تأثيرها على “صناعة الحدث” بدلا من “اللحاق به”.. فتكتفي السطور التالية بإشارات موجزة إلى ما ورد في البند السادس أعلاه، كمثال على سواه.
استنادا إلى المتابعة المتواصلة، وبعض اللقاءات والحوارات والاحتكاكات المباشرة، رصد كاتب هذه السطور، أن تطوير العمل باتجاه طرح آليات للتأثير على صناعة القرار والحدث، أمر غير مطروح للبحث أصلا، وتعليل ذلك في رؤية تقول إن مهمة المركز هي دراسة قضية وطرح رؤية بصددها، وليس مطلوبا منه وضع اقتراحات بشأن حلول وآليات عمل، فالاستفادة العملية هي من مسؤولية من يملك صناعة القرار في القضية المعنية.
يصعب القبول بهذا الاختزال لمهمة مركز بحوث ودراسات بحيث تقتصر على “التنظير”، فرغم غياب التوافق على “تعريف اصطلاحي” لمهمة “مركز بحوث ودراسات”، نرصد من الواقع ما يتناقض مع ذلك الاختزال، كما نرصد غلبة ما يقول به المتخصصون بشأن ضرورة الجمع بين التنظير عبر “تشخيص المشكلة”، والعلاج عبر “طرح الحلول”، والدفع باتجاه ذلك عبر طرح “آليات العمل”، هذا ناهيك عما هو معروف من خصائص “الدراسات الميدانية” التي تشمل ذلك كله بالضرورة.
فيما يلي بعض الأقوال التي تعزز هذه النظرة على أرض الواقع ومن الناحية النظرية معا:
١- يقول د خضير عباس النداوي في موقع “آراء حول الخليج – araa.ae” تحت عنوان “مراكز البحوث والدراسات: قراءة أولية”، يوم ٩/ ٧/ ٢٠١٤م:
إن بعض مراكز البحوث والدراسات “أصبحت لاعباً فاعلاً في عملية صنع القرار ذاته، بل وربما وصل الأمر لبعضها لتكون اللاعب الأكثر تأثيراً لما لديها من النفوذ الذي يتعزز ويتطور مع تقدم المعرفة والخبرة العلمية في مختلف دول العالم“. وعدّد إيجابيات مراكز البحوث، وفصّل في كل منها على حدة، تحت عناوين (١) المساهمة في صنع القرار (٢) المساهمة في الدبلوماسية الوقائية (٣) وضع البرامج والخطط (٤) استثمار الكفاءات العلمية (٥) توفير فرص العمل (٦) التعبئة الفكرية (٧) تهيئة القيادات العليا (٨) التنسيق الخارجي.
٢- في موقع دورية هسبريس (hespress) المغربية يقول يحيى اليحياوي تحت عنوان “عن مراكز البحوث والدراسات كبيوت للخبرة والمعرفة” يوم ٢٣/ ٣/ ٢٠١٣م:
أصبحت مراكز البحوث “أحد الفاعلين في رسم التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية وأحد المؤثرين فيها، وأحد المشاركين في وضع الحلول لها، وذلك من خلال توظيف البحث العلمي في خدمة قضايا المجتمع، بتقديم الرؤى وطرح البدائل والخيارات، بما يدعم عمليات صنع القرارات ورسم السياسات“.
ويضيف:
“دور هذه المراكز لا يقتصر على تقديم دراسات أكاديمية، تحليلية ونقدية، مرتكزة في ذلك على رصد وملاحظة تموجات واقع الحال، بل تذهب لحد اقتراح حلول آنية ومستقبلية لمشاكل معينة، مع اقتراح السيناريوهات والبدائل، بصيغ استشرافية دقيقة، مؤطرة في الزمن والمكان، ومصحوبة بخطط عمل مبنية على تصور وتحليل استراتيجي للمشاكل إياها“.
٣- في “العربي الجديد” يوم ١٩/ ٩/ ٢٠١٧م يورد زهير هواري ما تراه مؤسسة راند الأمريكية حول تعريف تلك المراكز فيستشهد بقولها: إنها “تلك الجماعات أو المعاهد المنظمة التي يتحدد هدفها بإجراء أبحاث مركزة ومكثفة. وتشتغل على تقديم الحلول والمقترحات للمشاكل المدروسة بصورة عامة وخصوصاً في المجالات التكنولوجية والاجتماعية والسياسية والاستراتيجية، أو ما يتعلق بالتسلح“.
ويوجد المزيد من الشواهد لمن يرغب في المزيد، والعنصر المشترك هو أن طرح الحلول وآليات العمل جزء أساسي في مهمة مركز البحوث عندما يقدم على تشخيص مشكلة من المشكلات في أي ميدان من الميادين.
إن في مقدمة ما تحتاج إليه مراكز البحوث والدراسات الناشئة على خلفية قضايا “التغيير” في بلادنا، أن يعود الباحثون والدارسون إلى ما يوصف ببنك معلومات أساسية، عندما يتناولون قضية من القضايا، ولعل ما ينقص عشرات المراكز العربية التي نشأت في تركيا (على الأقل) خلال السنوات الأخيرة، أن تضع نواة لذلك تبدأ بمعلومات كافية عن نفسها وأوضاعها واحتياجاتها والعاملين فيها والمتعاونين معها وبرامجها الحالية والمستقبلية، كخطوة أولى من أجل سلوك طريق التواصل والتشبيك والتكامل والتعاون.
وهذا مما يساهم في تحقيق عناصر إيجابية أخرى، منها تخفيض الجهود البحثية والنفقات المالية، وتجنب تكرار الدراسات المتشابهة، ومضاعفة مفعولها على الفئات المستهدفة بذلك العمل، بما في ذلك فئات صناعة القرار من أجل التغيير نحو التحرر والنهوض على كل صعيد وفي مختلف المواقع.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب