تحليل
في البداية وبالإشارة إلى بعض ما يكتب عن قضية فلسطين والتحذير من اعتبارها مقدسة، وتفضيل وصفها بأنها قضية وطنية سياسية، هذا رأي يحترم صاحبه ما دام لا يقصد بهذا المدخل أن يهوّن من شأن القضية، وليست المسألة مسألة تقديس -دون المساس بحقيقة وجود مقدسات دينية في أرض فلسطين، علما بأن المساس بالمعتقدات هو في منزلة تدنيس المقدس- ولكن قضية فلسطين قضية مركزية محورية، للعرب والمسلمين وجنس الإنسان، هي كذلك أكثر من سواها، لأنها أكثر تأثيرا بسواها وأكثر تأثرا، وهذا ما يشمل القضايا المحلية والإقليمية، بدءا بالنهوض والتقدم وبالتحرر من الاستبداد والاحتلال انتهاء بتحرير الإنسان وتمكينه من ممارسة جميع حقوقه الأساسية.
عسكريا
مع نهاية شهر رمضان ١٤٤٢هـ انكشفت مجددا نواقص جيش صهيوني طالما قيل إنه لا يقهر، وانكشف قصور قبة حديدية طالما قيل إنها أسطورة عسكرية، وانكشفت هشاشة ما نسجوه من مفعول ما رسخته صفقة قرن جائرة وحلقات مسلسل تطبيع آثم، ولذلك بات التركيز الصهيوني على مراقبة صارمة للإعلام الصهيوني نفسه جزءا من محاولات تزييف أبعاد ما يجري، وبات التركيز على تقتيل المدنيين غدرا وسيلة دموية للتغطية على ما يعنيه عجز الطرف المعتدي -رغم تفوقه عددا وعتادا- عن مجرد حماية مستعمرة تل أبيب وقريناتها من المستعمرات التي تلفظها تضاريس الجغرافية الفلسطينية، ناهيك عن قواعد عسكرية ووحدات عسكرية بحرية، ومنشآت اقتصادية وأمنية.
إن حدث رمضان ١٤٤٢هـ هذا يذكّر تلقائيا بالعاشر من رمضان ١٣٩٣هـ وبأسطورة خط بارليف، وكيف طواها جنود مصر الصائمون قبل أن يختطف انتصاراتِهم صانعُ أولى حلقات التطبيع السياسي الرسمي الآثم في كامب ديفيد. ولقد مضى أكثر من أربعين سنة ولم نشهد تطبيعا شعبيا حقيقيا، وشهدنا بدلا من ذلك عجزا عسكريا صهيونيا في معركة عسكرية دارت ضد بضع منظمات فلسطينية قد أعدت نفسها للدفاع عن أرضها وشعبها، وهذا رغم حصارها مع أهل غزة منذ بضع عشرة سنة، حصارا لا تشارك فيه دول أجنبية فحسب، بل تشارك فيه معهم غالبية دول يُفترض أنها عربية الهوية قوميا أو إسلامية الانتماء عقديا وحضاريا.
معايير
بعضنا يقارن بين عدد الشهداء هنا وعدد القتلى هناك، وكثرة الضحايا هنا وقلّة المصابين هناك، والتدمير الهائل هنا وبعض التدمير هناك، وهي مقارنة تثير الألم وتستدعي العمل للتخفيف عن الجرحى والمشردين وذوي الضحايا، إنما لا تبرر تساؤل من يتساءل: هل يوجد فعلا ما يسمح بالقول إنها جولة مفصلية تختلف عن سابقاتها في تاريخ قضية فلسطين، وإن ما بعدها سيختلف عما كان قبلها؛ فهذا ما تؤكده المقارنة الموضوعية بمنظور واقعي وتاريخي.
هنا يجدر التذكير بأن التطورات الكبيرة وما نصفه بالجولات المفصلية، لا يقع زمنيا خلال فترة وجيزة، فلا يحسن الانزلاق إلى توقعات متفائلة بسرعة التحول المرجو، كما أن تلك التطورات والأحداث لا تتخذ مسارا مستقيما متصاعدا، بل متعرجا في غالب الحالات. وبتعبير آخر: لا ضمان أن تكون الجولات التالية ذات نتائج إيجابية سريعة وكبيرة ومرئية بالضرورة، إنما يمكن ترجيح رؤية اتجاه التغيير بمعايير سنن التاريخ، لأننا سنعايش أحداثا يصنعها مفعول حصيلة أحداث ٢٠٢١م، كما أن أحداث ٢٠٢١م هذه انطلقت بدورها من مفعول نتائج الانتفاضات الفلسطينية وما قبلها، بل أصبحت واقعيا حلقة أخرى في ربيع الثورات الشعبية خلال العقد الذي سبقها، وهو العقد الذي كان مساره بمثابة خطوة تالية لانتفاضات فلسطينية سبقته.
هذا ومن فضل القول التنويه إلى خطأ ما يتردد من مقولات شاذة، منها أن جميع ما يجري مؤامرة يراد من خلالها وضع المسمار الأخير في نعش قضية فلسطين نفسها؛ والواقع أن مثل هذه المؤامرات أو المساعي العلنية لتصفية القضية لم ينقطع يوما، ولم يتحقق الهدف، ولن يتحقق؛ إنما تتوافر شروط رؤية ذلك موضوعيا فيما تفجّر في أواخر رمضان في أكناف الأقصى وبيت المقدس.
لمحات
إن من أبرز ما سجلته معركة سيف القدس عام ٢٠٢١م ذلك التلاقي الشعبي من وراء حواجز السياسة والإعلام ومن وراء حواجز الرايات والانتماءات على هدف واقعي وواضح هو كسر غطرسة العدو بعد أن وصلت إلى القلب من المقدسات عقديا، والمقدسات المشتركة تاريخيا وحضاريا، ناهيك عن إجرامه بحق جنس الإنسان وتراب الوطن، ولعل في مقدمة النتائج هو اهتراء موقع رمز الصلف الصهيوني نيتنياهو على خارطة السياسة الصهيونية نفسها، وربما كان ذلك بداية سقوطه في مستنقع المحاكمة على فساده.
وأثناء معركة سيف القدس، مع مقدماتها في حيّ الشيخ جراح وباب العامود وعموم المسجد الأقصى، تزعزع جزئيا على الأقل بعض المواقف الأجنبية الغربية والدولية، لا سيما بالقياس إلى ما كانت عليه خلال أربع سنوات سابقة حفلت بشراكة تبجحات الثنائي ترامب / نيتنياهو.
رؤى
ولكن بقيت مواقف غربية كما كانت، تدافع عن الغطرسة الصهيونية مهما أجرمت، كما تكررت مواقف مخزية لا تستحق المتابعة، من جانب جهات تطبيع عربية، وجميع ذلك لا ينطلق من حق وباطل، أو دفاع مشروع وعدوان غاشم.
بالمقابل ليس صحيحا القول إن هذه المواقف اضطرارية تنطلق من الاعتقاد الفاسد بأن قلة صهيونية تستغل الدين اليهودي وما عاناه اليهود عالميا وأصبحت تتحكم بمفاصل صنع القرارات المحلية والإقليمية والعالمية، فليست المشكلة مشكلة سيطرة وخوف بقدر ما هي تلاقي المطامع والرؤى العدوانية؛ ولوغاب الكيان الصهيوني غيابا تاما فسيستمر السعي لصناعة ركيزة بديلة، وستستمر مواقف تلك الجهات على حالها، فقد ربط أصحابها وجودهم ورؤاهم السياسية ومطامع هيمنتهم المادية، مثلما ربط الأتباع أنفسهم وتبعياتهم، بوجود ثكنة عسكرية أمريكية / غربية متقدمة، في القلب من المنطقة العربية والإسلامية.
اتجاه الريح
إن ما يفسر التحول الجاري وبدأ يظهر للعيان عبر معركة سيف القدس هو أن من يخوضها من المرابطين في أرض الرباط يخوضها دون ربط مصير أهله وقضيته بأية شروط على حساب قضيته، وأنه يعمل فيصيب ويخطئ، ولكن يحرص على تحرير قراره وحاضره ومستقبله من هيمنة أجنبية عدوانية.
إنما لا يغيب عن الأذهان ما يدور الحديث حوله منذ زمن بعيد بصدد دعم إيراني لفصائل فلسطينية، فمصير ذلك هو الخسارة، بقدر استمرار تشبث السلطات في إيران بممارسات الهيمنة الإقليمية والمطامع العدوانية. ولكن لا يبرّئ ذلك الأطراف الإقليميين الآخرين من المسؤولية عن فسح المجال لمن يشككون فيهم، وتخليهم هم عن قضية فلسطين وعن دعم أهل فلسطين وعن دعم العاملين من أجل تحرير فلسطين والعودة بالقضية إلى موقعها المحوري الحاسم في مسار التحرر حضاريا وسياسيا وتاريخيا، ومسار التقدم وفق المعايير الحقيقية للتقدم على كل صعيد.
كذلك لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان بأن ما عاد طرحُه في التصريحات الغربية لا سيما الأمريكية، ولم يصل إلى مستوى سياسات وممارسات بديلة، وإن اتخذ عناوين متعددة، أبرزها ما يسمى حل الدولتين، ليس فيه ما يحقق الأهداف العادلة المشروعة، ولا يمكن أن يسفر عن تعزيز الثوابت الأصيلة المشروعة، ولا عن سلام عادل أو أمن مستقر؛ ومثل تلك الأطروحات يتكرر منذ عقود دون أن يؤدي إلى إعادة الحق لنصابه، بل يتكرر من قبل وقوع النكبة الأولى سنة ١٩٤٨، وسيستمر في الوقت الحاضر ومستقبلا، وإن ظهرت للعيان معالم نكبة الصهيونية بنفسها وانهيار مشروعها العدواني.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب