الناشر معروف.. فمنذ السنوات الأولى لنشأته في آذار/ مارس 1994م، استطاع مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية أن يرقى إلى مستوى يضارع به مراكز ومعاهد معروفة أخرى مضى على قيامها سنوات عديدة، وفي موضوع "تركيا" كان من إصداراته علاوة على هذا الكتاب بين أيدينا كتب أخرى، يبرز من بينها كتاب "جلال عبد الله عوض" بعنوان "العلاقات الاقتصادية العربية-التركية" وقد صدر عام 1998م. أمّا هذا الكتاب "تركيا والعرب-دراسة في العلاقات العربية-التركية" فرغم صدوره عام 1996م، يبدو لقارئه وكأنه كُتب لتوّه، ويشعر بالحاجة إليه في مواكبة ما يجري في تركيا من أحداث، وما يترتّب على ذلك من تأثير في العلاقات العربية-التركية، لا سيّما بعد وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة. ولا ريب أنّ الأبعاد التاريخية والسياسية، في مقدّمة ما يساعد على تقدير الاحتمالات المستقبلية، وبالتالي ما ينبغي صنعه لمواجهة التطورات مواجهة هادئة تحدّ من عنفوانها على وجه الاحتمال وقد تحول دون وقوع الأزمات مسبقا، إذا سلمت النوايا.
موضوع شائك بين يدي مؤلّف قدير – تطوّر العلاقات تحت المجهر – استيعاب الحاضر.. من أجل المستقبل
موضوع شائك بين يدي مؤلّف قدير
الكاتب، الأستاذ الدكتور هيثم الكيلاني معروف بتخصصه في علوم التاريخ المعاصر، وببحوثه في الشؤون الأمنية والعسكرية، وبكتبه التي تجاوزت عشرين كتابا قيّما، كما أنّه معروف كإنسان مسلم عربي، حريص على أمّته ومستقبلها، كما تشهد سيرته فيما حمل من مهامّ ومسؤوليات، منذ كان مندوبا لسورية لدى الأمم المتحدة، وحتى رئاسته لتحرير مجلة "شؤون عربية" من إصدارات جامعة الدول العربية.
"تركيا والعرب: دراسة في العلاقات العربية-التركية" كتاب كان تأليفه ونشره –كما تقول المقدّمة– (من أجل التعرّف على المشاكل القائمة بين الطرفين، العربي والتركي، ولإلقاء الضوء على سبل إعادة الثقة والتفاهم والتعاون بينهما، من خلال بحث تلك المشاكل، في إطار المتغيّرات الدولية والإقليمية، ومتطلبّات الإنماء والأمن، بما يسمح به الحجم المحدّد للدراسة من تحليل واستقصاء واستنتاج). والحجم في حدود مائة صفحة من القطع الصغير، موزّعة على سبعة فصول، تتناول الجانب التاريخي القديم والحديث، فأسس العلاقات الراهنة وتطوّرها، ثمّ المحاور الرئيسية أو العناوين الكبرى للقضايا المؤثّرة على تلك العلاقات وكيف كان التعامل معها، وأخيرا التطلعات المستقبلية المرجوّة.
وموضوع البحث في هذا الكتاب من المواضيع الشائكة التي لم تجد على امتداد عدّة عقود بحوثا منهجية وافية، رغم وفرة ما كتب ونشر، ممّا يرتبط بالموضوع، فقد كان غالبا تحت تأثير عنفوان الحركـة الطورانيـة القومية في تركيا ومنهج أتاتورك العلماني الذي نأى بها عن المنطقة العربية بمقدار ما "حاول" الاقتراب من الغرب أو التقرّب إليه، أو كان من جهة أخرى تحت تأثير الحركة القومية العربية المسيطرة على توجيه الفكر والسياسة ردحا طويلا من الزمن في الجانب العربي، لا سيّما في البلدان الأقرب إلى تركيا.
"الشعوبية" مصطلح معروف له تأثيره السلبي على المقصودين به بطبيعة الحال، وطالما وضع عنوانا لما يتصل بوجود الأتراك في دول الخلافة الإسلامية في العهد العباسي خاصّة ومن بعد، أمّا الأستاذ الدكتور هيثم الكيلاني فلا يريد إثارة الحساسيات بكتابه ولا ترسيخ الأحكام المسبقة، فهو يستقصي الوقائع ولا يلوم، ويطرح أحداث التاريخ دون مبالغات، بإيجابياتها الغنيّة عن مديح وإطراء، وبسلبياتها التي لا يفيد استغلالها لتشويه سمعة أحد، والحصيلة هي أنّ كلّ طرف قد ساهم -بغض النظر عن أخطائه- في صناعة التاريخ بدور معيّن، فيمكن القول: (إنّ الدور العربي أسّس العالم الإسلامي، وإنّ الدور التركي أسهم في توسيع ذلك العالم، الذي ضمّ شعوبا وحضارات وثقافات، استقت أصولها من المرجعية الإسلامية من جهة، ومن معطياتها الإثنولوجية العرقيّة الثقافية من جهة أخرى) وينفي الكيلاني –بأمانة الباحث في التاريخ- ما نعرفه عن تشويه التاريخ العثماني إجمالا، الذي ساهم في رسم معالم العلاقات العربية-التركية.. (وهي معالم أفرزت -في سنواتها الأخيرة من حياة الدولة- عوامل النفور بين العرب والأتراك) وكان ذلك –كما هو معروف- في عهد حكومة الاتحاد والترقي، التي كانت ثورة الحجاز عليها.. (وليس على الأتراك أو السلطان، لأنّ الدعاء للسلطان خليفة المسلمين استمرّ في مساجد الحجاز سنة كاملة بعد الثورة).
تطوّر العلاقات تحت المجهر
الإنصاف وإعطاء كلّ ذي حق حقه، وذكر النتائج المنهجية التي تفنّد تلقائيا ما شاع من اتهامات متبادلة دون تمحيص بصدد حقيقتها ولا تقدير لعواقبها، ذاك في مقدّمة ما يميّز الصفحات المعدودة نسبيا من الكتاب، والتي خُصّصت للحيّز التاريخي من البحث، قبل أن يعدّد المؤلّف العوامل المرتبطة بتركيا والتي قامت عليها العلاقات العربية-التركية ويشرح كلاّ منها شرحا موجزا، وهي الموقع الجغرافي المتميّز كجسر متعدّد الاتجاهات، والإسلام الذي كان هو قوام الإسهام التركي في البناء الحضاري المشترك وبقي دينا يتميّز به الشعب التركي رغم علمانية الحكم القائم، ثمّ الثقافة ذات الجذور الإسلامية والتي تجدّد ظهورها الحيوي رغم اضطلاع المؤسسة العسكرية بالعمل على ضبط ميزان الثقافات والمحافظة على مبادئ الثورة الكمالية، أمّا العامل الأخير فهو تشابك الموقعين الاستراتيجيين العربي والتركي والذي لعب دورا رئيسيا في الحقبة الراهنة بعد المتغيّرات الدولية الناشئة عن سقوط المعسكر الشرقي.
ويقسم الدكتور هيثم الكيلاني الحقبة الحاسمة في تطوّر العلاقات العربية-التركية بعد الحرب العالمية الثانية حتّى الآن، إلى خمس مراحل، مرحلة التأسيس حتى عام 1951م وشهدت بداية تبادل الانتقادات والاتهامات، فمرحلة التطوّر إلى عام 1964م وفق ما صنعته سياسة الأحلاف وصنعه تعاظم الدور الأمريكي في تركيا، فالمرحلة الثالثة التي يعطيها المؤلّف عنوان "الصحوة" بعد خيبة أمل تركيا تجاه المواقف الغربية وإعادة النظر في سياستها تجاه البلدان الإسلامية، واستمرّت تلك المرحلة إلى عام 1971م، وأوصلت إلى مرحلة التعاون في أكثر من مجال عملي خلال عشرين عاما تلت، حتى بدأ مع عام 1991م مفعول المتغيّرات الدولية والإقليمية الكبرى، نتيجة سقوط الشيوعية وحرب الخليج الثانية ومسيرة مدريد في قضية فلسطين.
ويحافظ الدكتور الكيلاني على أسلوب الإيجاز في الفصل الخامس من الكتاب أيضا، وهو يعدّد فيه دوائر السياسة التركية الجديدة ما بين الاتحاد الأوروبي الرافض لتركيا، وحتى التحرّك الفعّال في الجمهوريات الإسلامية الآسيوية وسط منافسـة شديدة، وهذا جنبا إلى جنب مع تنامي الظاهرة الإسلامية الداخلية وازدياد قوّة التيّار الإسلامي على حساب العلمانية الكمالية.
استيعاب الحاضر من أجل المستقبل
من خلال طرح الأرضية التاريخية والأرضية السياسية يصل المؤلّف بالقارئ بصورة منهجية تدريجية إلى المحور الرئيسي للدراسة، وهو القضايا الراهنة بين الجانبين العربي والتركي، فهي التي يريد بيان الخلفيات المذكورة تيسير فهمها واستيعابها، وبالتالي التخلّص من التطرّف في تقويمها وفي المواقف المتخذة على صعيدها، لا سيّما ما يقوم على أسباب الجهل المتبادل بالطرف الآخر، وذاك ما يساهم فيه عرض المواقف الرئيسية الصادرة بشأن تلك القضايا، مع ربطها ربطا منهجيا بالأسباب التي أدّت إليها، والدوافع المحتملة من ورائها، ويعتبر هذا الفصل السادس من الكتاب -وهو أكثر من نصفه- بيت القصيد من تأليفه، ويتطلّب الاطّلاع المباشر على نصه، فالإيجاز في مثل هذا العرض يمكن أن يسيء إلى المحتوى الموجز في الأصل، لا سيّما وأنّه يتناول كافّة القضايا الحسّاسة في السنوات القليلة الماضية، بصورة لا تساعد على استيعاب ما كان أثناءها من مواقف فحسب، بل تساعد أيضا على استيعاب تقلّبات الأزمات التركية-السورية، رغم أنّ أخراها وأشدها (أي حول حزب العمال الكردستاني، قبل نشوب الثورة في سورية) وقعت بعد صدور الكتاب بأكثر من عامين، بل تساعد كذلك على رؤية موضوعية لنقاط التلاقي التي تسمح بتفاهم وتعاون، وتلك التي تحتاج إلى بحث وتفاوض ومراعاة المصالح المتبادلة والمشتركة.
وعند متابعة أي قضية إقليمية رئيسية، أو مشكلة ثنائية مستعصية بين الطرفين، بموقف أو إجراء أو خطوة ما، فمن الأهمية بمكان مراعاة آثار ذلك على القضايا والمشكلات الأخرى، فجميعها متشابك بصورة ملحوظة، ويكفي تأكيدا لذلك تعداد عناوين ما أورده الدكتور هيثم الكيلاني في هذا المجال وكان على التوالي:
الصراع العربي-الإسرائيلي، الاتفاق العسكري التركي-الإسرائيلي، الحرب العراقية-الإيرانية، حرب الخليج الثانية، التطرّف القومي التركي، القضية القبرصية، القضية الكردية، أزمة نهر الفرات، مشروع "أنابيب السلام"، مشروع تسويق المياه بالنقل البحري، قضية تركمان العراق، قضية الأمن التركي والجوار العربي، العلاقات الاقتصادية.. وتحت كلّ من هذه العناوين يجد القارئ فيضا من المعلومات والاستشهادات وشرحا موجزا ووافيا بالغرض، لنقاط التقاطع المباشرة وتلك الصادرة عن خلفيات مؤثّرة على المواقف والإجراءات الرسمية.
وفي بحثه عن مواطن مناسبة لتطلّعات مشتركة بين الطرفين، ينوّه المؤلّف في الفصل الأخير إلى مفعول ما أسفر عنه مجرى التاريخ في القرن الميلادي العشرين، من حيث قيام دولة تركية واحدة من جهة، وانقسام المنطقة العربية إلى دول عديدة من جهة أخرى، ثمّ مفعول المخاوف التركية ممّا يستهدف وحدتها أو كيانها ويستخدم أسلوب العنف كما في القضية الكردية، وبالمقابل تواجه المنطقة العربية إفرازات السير بها في قطار مدريد، ونعلم ما يعنيه ذلك من مرحلة البحث عن مشروع أمن عربي مشترك على ضوء ما يفرضه صراع عربي-إسرائيلي ثابت ومستمرّ، إلى مرحلة الانشغال بمشروع آخر، "شرق أوسطي"، وهنا تريد الزعامات العلمانية في تركيا ويريد الغرب أيضا، أن يكون لتركيا دور حاسم، ممّا انعكس آنذاك في أزمة المياه مع سورية والعراق، وفي التعاون العسكري التركي-الإسرائيلي. ومع ذلك توجد نقاط عديدة تحقّق المصالح العربية والتركية في وقت واحد، وهي -انطلاقا من أهميتها وضرورتها والأهداف المتحقّقة من خلالها- قابلة لتصنع أرضية التفاهم والتعاون، وذاك ما يؤكّده الدكتور هيثم كيلاني بكلمات يختم بها كتابه القيّم: (إذا كانت الموضوعات الخلافية التي تشكّل حجما محدودا من المشكلات الباعثـة على القلق، فإنّ موضوعات الاتفاق والتفاهم تشكّل حجما كبيرا، وتشجّع على بذل الجهد من أجل حلّ المشاكل واحتوائها).
نبيل شبيب