العنوان: ألمانيا كدولة متعددة الأديان – التحدي
الكاتب: أ. د. هانس ماركوس هايمان (Prof Dr. Hans Markus Heimann)
الناشر: س. فيشر (S. Fischer)
الطبعة الأولى: فرانكفورت، حزيران/ يونيو ٢٠١٦م
٢٥٨ صفحة من القطع المتوسط
أول من قال “الإسلام جزء من ألمانيا ومن أوروبا” وزير الداخلية الألماني الأسبق ووزير المالية حاليا فولفجانج شويبلي، وذلك في عام ٢٠٠٦م مع افتتاح “مؤتمر الإسلام في ألمانيا”، أي بعد ١٥ عاما من مقولة وزير الدفاع الأمريكي ريتشارد تشيني في حينه “الإسلام عدو بديل”، ولكن تُنسب العبارة عموما إلى الرئيس الألماني السابق كريستيان فولف وقد ذكرها في الاحتفال الرسمي بيوم الوحدة الألمانية ٣/ ١٠/ ٢٠١٠م وواجه معارضة واسعة، وعادت المستشارة الألمانية أنجلا ميركل في مطلع عام ٢٠١٥م إلى تبنّي هذه العبارة بصيغة مشابهة أثناء الجدل الدائر حول فتح الأبواب أمام “اللاجئين السوريين” المشردين عن بلادهم، وأثناء ازدياد انتشار المخاوف ونشرها إزاء الإسلام ووجوده في الغرب وقد أصبحت محور دعوات اليمين المتطرف وأنشطته.
الكاتب ومحور الدراسة
في هذه الأجواء يأتي نزول هذا الكتاب في موعده إلى المكتبات الألمانية في حزيران/ يونيو ٢٠١٦م، إذ يعتبر في عنوانه أن واقع تعدد الديانات في ألمانيا تحديا وليس مشكلة، وليس ذلك بسيطا عندما يكون الكاتب هو الأستاذ الجامعي دكتور هانس ماركوس هايمان، أحد الخبراء المتخصصين في القانون الذي يحكم العلاقات الداخلية في ألمانيا، ويشغل موقع مستشار للحكومة الألمانية في شؤون المسلمين، لا سيما تدريس الدين الإسلامي في المدارس رسميا، وهو ما سبق للكاتب أن طرح رؤيته بصدده في كتاب سابق من عام ٢٠١١م بعنوان “تدريس الدين الإسلامي والاندماج”، وكلمة الاندماج هي المحور، ويرى الكاتب أن تحقيقه مع ضمان الحقوق الفردية والسلم الاجتماعي رهن باستصدار التشريعات القانونية التي تراعي أن ألمانيا الاتحادية أصبحت دولة متعددة الأديان واقعيا، ويركز محتوى الكتاب على الجانب الدستوري والقانوني، ويشمل خمسة أبواب، في ٢٥٨ صفحة، منها ٢١ صفحة للملحقات والهوامش وبعض النصوص القانونية.
نظرا إلى غلبة الجانب التخصصي الدستوري والقانوني الدستوري على المحتوى، يركز هذ العرض على دوافع المؤلف والأسس الدستورية لأرضية التعامل مع التنوع الديني، وحول “العلاقة بين الدولة والدين” دستوريا، ثم أطروحات استشرافية في الخاتمة، مع الاكتفاء بالإشارة إلى تفاصيل تخصصية تتناول “البعد القانوني الأساسي” وكلمة القانون الأساسي هي المعتمدة في تسمية دستور البلاد، ثم “البعد التاريخي: المنشأ الحقوقي الكنسي للقانون الديني” الذي ميز “مرحلة انتقالية” تلاءمت مع معطيات الانتماءات الدينية عند نشأة الدولة، وهو ما يعتبره الكاتب منطلقا لضرورة التعامل حاليا مع “التعددية الدينية”.
المفهوم الدستوري لدور الدولة في الشأن الديني
ردا على أطروحات اليمنيين بشأن التناقض بين الإسلام والدستور الألماني، يؤكد الكاتب عدم دستورية مطالبة المسلم في ألمانيا بإعلان التزام مطلق بالدستور شرطا لحقه في ممارساته الدينية الإسلامية، ولا يعني ذلك إعفاءه من التزام القوانين، بل تثبيت وجوب حماية العقيدة الدينية دستوريا بغض النظر عن وجود أطروحات عقدية تتناقض مع الدستور نفسه، ولم يكن هذا مغايرا لبداية التعامل مع الكنيسة من منطلق دستوري.
وتبين المعطيات الجديدة هبوط نسبة أتباع كل من الكنيستين الكبريين، الكاثوليكية والبروتستانتية، إلى أقل من ٣٠ في المائة من السكان، وأتباع سواهما إلى زهاء ٣ في المائة، ومن المرجح أن تهبط نسبة أتباع الكنيستين إلى أقل من النصف مع حلول عام ٢٠٢٥م، مع ازدياد تعداد من لا ينتمون إلى دين بعينه، وهم حاليا في حدود ٣٣ في المائة، أما المسلمون فتتراوح التقديرات بشأنهم حاليا ما بين ٢،٧ و٧ في المائة، والزيادة مطّردة.
الدستور يكفل حرية العقيدة ويكلف الدولة بتشريع الإطار العام للتعامل مع “واقع” الانتماءات الدينية للسكان، ويوجب ازدياد تنوعها حاليا تلبية هذا التحدي وفق الحق الأساسي لحرية العقيدة. ويرى المؤلف أنّ “العامل الحاسم لحل المسائل والتوترات هو وجود نظام تشريعي للدين يعطي أجوبة تجد القبول من جانب المجتمع”.
بين مقتضيات الدستور وقيمة التسامح في المجتمع
يضبط الدستور “العلاقة بين الدولة والدين”، وتوجد إضافات مستمدة من الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان، ولكن صياغة الأنظمة الأوروبية استبقت القسط الأكبر من المسؤولية عن تلك العلاقة في نطاق صلاحيات الدولة وتجنبت المركزية الملزمة. هذه العلاقة تأخذ صيغتها التطبيقية ضمن محددات كبرى:
“الحيادية”: هي المقصود دستوريا من الفصل بين الدولة والدين، ومثال أن تتجنب الدولة إظهار رمز ديني من جانبها في مؤسسة تتبع لها، كما كان في حظر الصلبان في صفوف المدارس الرسمية، وإن كان رمز ديانة غالبية التلاميذ في تلك الصفوف.
“العلمانية”: هي ما يكمل عنصر الحيادية، والدستور يحظر مبادرة الدولة بنفسها إلى إبراز رمز ديني، وفق المثال السابق، ولكن تحمل واجب دعم “الجانب الديني” لمواطنيها مثلما تحمل واجب دعم أي نشاط يعبر عن الحقوق الأساسية الأخرى للمواطن، فليس من حق الدولة دستوريا أن تحظر على أحد التعبير عن نفسه دينيا في مدرسة رسمية، وهذا ما يسري مثلا على حجاب تلميذة مسلمة فيها.
“المساواة النسبية”: يستدعي التزام الحيادية وواجب الدعم تطبيق مبدأ “المساواة مع مراعاة النسب العددية”، وهنا لا يصح تعليل الدعم الرسمي من جانب الدولة بمضمون ديني تطرحه الجهة المدعومة، بل يجب أن يتوافق التعليل مع الدستور، وهنا يسري اعتبار المساواة نسبية، فيراعى في الدعم مثلا تفاوت أعداد أتباع الأديان المتعددة، أو يراعى مثلا آخر مفعول العامل التاريخي كما يذكر بشأن ارتفاع نسبة الدعم لأتباع الديانة اليهودية التي لا يصل عدد أتباعها إلى واحد بالألف من السكان.
“استثناءات من الحيادية”: أبرز هذه الاستثناءات القائمة واقعيا ما يعتبر إرثا دستوريا من حقبة ما يسمى “جمهورية فايمار” قبل العهد النازي، وكانت حقبة “انتقالية” باتجاه “فصل الدولة عن الدين” دستوريا، فبقيت أحكام دستورية استثنائية سارية المفعول، أعطت الكنيسة موقع “صفة تعاونية اجتماعية” مع ميزات ضرائبية، ومن الاستثناءات وجود مدارس “كنسية” إلى جانب الرسمية التابعة للدولة، وكذلك حماية أيام العطل الرسمية وعطلة يوم الأحد، وهنا يرى المؤلف أن الدستور يعطي الدولة حقا سياسيا بإعلان الحماية لأيام عطلة وفق الانتماءات الدينية الأخرى مع مراعاة مبدأ المساواة النسبية، والحقوق الأساسية الأخرى كحق العمل، ويعني ذلك تطبيقيا الاعتراف بالعطلة الدينية لأقلية دينية دون اعتبارها عطلة رسمية لعموم السكان. ولكن هذه المعطيات المضمونة دستوريا تواجه عائقا تطبيقيا وهو أن تجد التشريعات القانونية قبولا عاما من جانب المجتمع كما ورد آنفا، لحفظ السلم الاجتماعي.
“التسامح”: يكمل هذا العنصر وظيفة المحددات المذكورة لعلاقة الدولة بالدين، لكنه ليس واحدا منها إذ لا يمثل
“معيارا دستوريا” لصياغة التشريعات، لا سيما أن تطبيقه في السلوك البشري تحت عناوين “التقدير” و”الاحترام” وما شابهها، تطبيق ينطوي ضمنيا على اعتقاد ذاتي بأن ما لدى الآخر “غير مقبول” في الأصل ولكن ينبغي احترامه.
من هنا ينتقد الكاتب وصف الدستور بأنه “منظومة قيمية”، وبالتالي ينسب التسامح إليها، والواقع أن تعامل الدولة مع الانتماءات الدينية بحيادية لا يحتمل استثناءات سوى “تقدير” الدولة لنفسها أن الدستور يخوّلها بالاستثناء، وغالبا ما يوصف ذلك بعبارة “الحفاظ على النظام الديمقراطي الدستوري”، وهنا تنشأ المشكلات في مساحات التماس بين حق أساسي وآخر، فيلعب وجود التسامح أو غيابه في “المجتمع” -وليس الدولة- دوره بغض النظر عن الأرضية الدستورية. مثال على ذلك أن الكنيسة تحظر على المرأة مناصب كنسية معينة تبيحها للرجل، وهو ما يتعارض دستوريا مع مبدأ المساواة بين الجنسين، ولكن احتجاجات المجتمع الألماني بما في ذلك من يشغل مناصب سياسية، لا تستهدف ذلك قدر احتجاجها ضد إمام مسجد يخطب فيشرح للمصلين علام يحظر الإسلام على المرأة العمل في ميادين معينة. القضية هنا قضية تسامح وليست قضية دستور.
قبول المفهوم الدستوري لحرية المعتقد شرط السلم الاجتماعي
يتفاءل الكاتب بأن تطبيق المحددات الدستورية لمراعاة معطيات التنوع الديني المتزايد، يمكن تحقيقه من جانب الدولة المكلفة أيضا بالحفاظ على السلم الاجتماعي بما يشمل حق المساواة في كفالة حرية العقيدة الدينية للجميع، مع الإشارة إلى عدم وجود “حرية مطلقة” ولا “مساواة ناجزة”. لا بد إذن من قدر معين من تقييد الحريات أو خرق محدود لمبدأ المساواة مع تعليل ذلك دستوريا من منطلق الحيادية تجاه الأديان. المرجع الأخير في تثبيت ذلك هي “المحكمة الدستورية العليا”، وهذا ما يعطي -وسط مناقشة مستفيضة في المجتمع- ضمان تصحيح أخطاء يمكن أن ترتكبها السلطة التنفيذية أو المحاكم العامة دون الدستورية. ولا يتحقق السلم الاجتماعي في هذا الإطار دون أن يتقبل الفرد أن الدولة غير مخوّلة بتصرف استثنائي استجابة لأطروحات انتماء ديني بعينه، وإنما في إطار حيادها دستوريا تجاه الأديان، وهذا ما تعنيه عبارة “النظام الأساسي الديمقراطي الحر” دستوريا.
قبول الدستور يعني القبول بحرية العقيدة -وكذلك التصورات العامة- ويعني ذلك القبول بها وإن تعارض بعض مضامينها مع ما يأخذ مكانة المقبول والمنتشر أكثر من سواه في المجتمع، ويسري ذلك على سريان مفعول حرية تصورات ما تتعارض مع الدستور نفسه ما دامت لا تنعكس في ممارسات عملية، غير قانونية، تستدعي إيقاع العقوبة دستوريا، فهي المحظورة وليس تبني رؤية تبررها.
ومقابل ذلك يرى الكاتب أن تحقيق هدف الاندماج مع ضمان حرية العقيدة يتطلب القبول من جانب الوافدين حديثا بمعطيات وتصورات دينية “تقليدية جدا” -حسب تعبير المؤلف- وتتضمن ما لا يتفق مع الصيغة الدستورية لحرية العقيدة كما يعرضها هذا الكتاب على خلفية ازدياد التنوع الديني في ألمانيا.
نبيل شبيب