ليس هذا تقريظا لكتاب، ولا تعريفا بالكاتب، بل بشخصية دمشقية يروي الكتاب سيرتها ويتحدّث عن إنجازاتها، وهذا ما يأخذ عنوان (المدرسة السعيدية العلمية) الذي جعله الأخ الصديق الدكتور محمد عمر الشلاح، عنوانا للسيرة التي يعرّف فيها بأبيه الشيخ محمد سعيد الشلاح رحمه الله، وفي ذلك وفاء من الابن لأبيه، وعرفان بجميله عليه وعلى الجيل، إنّما فيه أيضا التعريف بتجربة حية لعمل بصير دؤوب، فلا نفهم كلمة "المدرسة" في العنوان بمعناها الشائع كمؤسسة تعليم، وإن كانت جزءا من عطاءات الشيخ محمد سعيد رحمه الله، بل نفهمها بمعنى نهج تربيوي تعليمي، أوجده بجهد شخصي، ورعى تطبيقه بجهد شخصي، وامتدّ أثره ليشمل كلّ من عرفه، لا تلاميذ مدرسته فحسب.
نموذج دمشقي
الوقفة عند هذا الكتاب مقصودة (يوم كتابة هذه السطور عام ٢٠٠٨م) في نطاق "دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008م"، فموقع دمشق الثقافي لا ينبغي أن يكون فقط موقعَ مهرجان، أو معرضَ عطاء فني، أو إبراز إنجاز فكري، أو شبيه ذلك ممّا يثير ضجيجا، ويجد إقبالا، ويلفت الأنظار إليه أكثر من سواه، فجميع ذلك "جوانب ثقافية" تستحق المتابعة، وإذا استقام أمرها لا غبار عليها، وإذا انحرف بعضها مضمونا أو هدفا ومضمونا كان الانحراف من سيّئات الانفلات من الضوابط، والعمل على غير هدى، فيذهب كما ذهب سواه، ولا يمكث إلا ما ينفع الناس في نهاية المطاف.
ومن ذلك الذي يمكث هذا النموذج التربيوي الفريد، الذي يلفت النظر إلى أنّ موقع دمشق الثقافي هو موقع أهلها وعطاءاتهم، وفكرهم وإنجازاتهم، وتكوينهم المعرفي وما تراكم فيه من أصالة ألوف السنين، وما يضاف إليه يوميا، سواء لفت إليه أنظار من يبحثون عن إنجازات مثيرة قد يهوّلون من شأنها، أم لم يلفت.
ولا أدع للقلم العنان أكثر مّما أردت، وأتركه لينقل من صفحات الكتاب نفسه قبسات مضيئة، وإن كانت لا تغني قارئ هذه الكلمات عن الاطلاع على الكتاب نفسه، والتعرّف على ما خلّفه الشيخ محمد سعيد الشلاح من أثر دائم العطاء من بعده، وهذا على الأقل ما يعلمه من عرفه في حياته من كثب، وقد كان من مواليد 1892م وتوفاه الله تعالى عام 1973م.
هو -كما ورد في مقدمة الكتاب (رجل مميز من رجالات هذا الوطن، رجل جهاد، وعلم، وثقافة، وتعليم وتربية) (كان من صنف الرجال الذين يشعر من يراهم بعظمتهم على بساطتهم.. وكلما زاد الإنسان احتكاكا بهم ازداد احتراما لهم.. ومحبة لهم وتقديرا لهم لما يراه منهم من صدق وإخلاص وتضحية ومحبة وإيثار) كما يقول ابنه الكاتب الدكتور محمد عمر الشلاح في المقدمة بعد أن يبيّن أن القصد من سرد سيرة أبيه هو إعطاء نموذج للقدوة فيضيف (وليس القصد التفاخر أو التباهي -لا سمح الله- إنما القصد هو فتح نافذة الأمل والثقة بأن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به اولها).
وأشهد الله أنّ هذه الكلمات موضع ثقة، وهذه شهادة عن معرفة يومية عميقة بكاتبها الأخ الصديق عمر، منذ كان يدرس الطب ويتخصص في ألمانيا إلى أن غادرها ليستقرّ في وطنه سورية، حرصا على أن يكون ما يستطيع تقديمه من خلال علمه وتخصصه في خدمة بلده وأهله، وقد فعل، وهو بذلك شهادة على ما كان عليه والده رحمه الله، وما زال الأجرُ الرباني على عمله متواصلا بعد وفاته، بولد صالح يدعو له، مصداق الحديث النبوي الشريف.
فصول الكتاب الذي يضم 112 صفحة من القطع المتوسط فصول قصيرة، ولكنها مركّزة، وقد تجد مزيدا من التفصيل في طبعة تالية، وقد بلغت 14 فصلا، تناولت نشأة الشيخ محمد سعيد الشلاح وأسرته، وتعلمه ومهنته، والمنهاج الذي وضعه واتبعه في مدرسته، ثم يوما في حياة المدرسة، وحديثا عن فرقة سعد بن أبي وقاص الكشفية التي أسسها، لينتقل الحديث بعد ذلك إلى حضور الشيخ محمد سعيد في الميادين السياسية والاجتماعية والمحلية على مستوى الحي، والعلمية في رابطة علماء سورية، وغيرها.
سليل العلم وخادمه
قبل حديث الابن عن ابنه قدّم الأستاذ الدكتور محمد حسان الطيّان بمقدمة عن الشيخين الشقيقين بشير الشلاح وسعيد الشلاح، تنقل القارئ إلى الأجواء التي كانا من صانعيها لدمشق وأهلها، علما وتربية وتراحما وفضلا.
وقد نشأ الشيخ سعيد في عائلة مهنتها التجارة، بينما غلب عليه وشقيقه الشيخ بشير ميدان العلم والتربية، إنّما كان لكل من إخوته الأربعة الآخرين (وكان له شقيقتان من الإناث أيضا) دوره في تاريخ بلده، فأحدهما حافظ للقرآن الكريم إلى جانب تجارته، والآخر مجاهد وقائد من قادة الثوار ضدّ الاستعمار الفرنسي، والثالث محسن كريم يعرفه القاصي والداني في حي مسجد الأقصاب وجامع السادات (مقام سبعة من السادات الصحابة رضوان الله عليهم) وخارج الحي أيضا، وعُرف الرابع بتقواه وصلاحه والأمانة في تجارته، وهو ما كان يتجدّد من خلال مرات عديدة أدّى فيها فريضة الحج واعتمر، أما الخامس فهو الشيخ بشير معلّم القرآن الكريم الذي سبق الحديث عنه.
وأنجب بيت الشيخ سعيد أربعة أولاد ذكور وثلاثا من الإناث، وسلك أربعتهم طريق العلم، وتفوّقوا في اختصاصاتهم، وهم د. مأمون أحد أركان التشريعات المالية في سورية لعدة عقود، ود. أحمد أستاذ الكيمياء والعلوم الصناعية وأحد أركانها في جامعة دمشق، ود. محمد عمر الشلاح المتخصص في طب الأطفال وتخطيط الدماغ على أعلى المستويات، ود. عبد الستار المعروف في طب الأسنان في بون بألمانيا على المستوى الجامعي والعيادي.
نهج "قديم".. كأحدث نهج تربيوي
عرف الشيخ محمد سعيد الشلاح التعليم منذ كان لدى أستاذه الشيخ عيد السفرجلاني فقد أوكل إليه أمانة التعليم والإدارة في مدرسته كلّما تغيّب عنها لأداء بعض مسؤولياته الكبيرة في حلقات التعليم والذكر في مساجد دمشق، ثم استقل بنفسه وأنشأ في حيّ مسجد الأقصاب المدرسة السعيدية العلمية، بثلاثة فروع، للإناث وللذكور ورياض الأطفال.
وكان نهج المدرسة السعيدية هو نهج (إيصال منهج علمي وحياتي وسلوكي متكامل إلى كل طفل يدخل مدرسته) فكان فيه (جميع البذور الضرورية من العلم الإسلامي والشرعي والتراثي) إلى جانب مقررات وزارة التربية. واقترن ذلك بدقَة اختياره الأساتذة، وحرصه على أن يتعرّف الأطفال على أشهرهم في المدينة، فكان يطلب إليهم المشاركة في حصة أو حصتين في مدرسته وإن كانوا ملتزمين بالتدريس في مدارس أخرى.
وشمل البرنامج التعليمي الإضافي الذي وضعه قطاع القرآن الكريم تلاوة وحفظا وتجويدا وتفسيرا والمراجعة تحت عنوان (الماضي) مرة كل أسبوع لما سبق تعلّمه. كما شمل البرنامج الحديث والسيرة والفقه وعلوم السلوك والأخلاق، إضافة إلى الاهتمام باللغة العربية بما يتجاوز المقرّر في منهج التدريس من جانب وزارة التربية.
كانت المدارس الابتدائية تفتح أبوابها في دمشق رسميا في الثامنة مساء، وكانت المدرسة السعيدية تفتح أبوابها لهم ابتداء من الخامسة والنصف صباحا، فيبدأ مدير المدرسة وبعض أولاده بإعدادها حتى السادسة، ويبدأ الدوام الرسمي في السابعة والنصف صباحا بالوِرْد اليومي لتأكيد معنى الصلة بالله في نفوس الأطفال، ثم لا بد من السؤال والاطمئنان عمن قد يغيب منهم.
وكان للمدرسة نظامها لصلاة الجماعة، ولتأمين الطعام لمن يبقى في المدرسة وقت الظهيرة، ولمن يؤدّي الوظيفة اليومية في المدرسة إن رغب في ذلك أو كانت ظروف بيته الأسروية لا تسمح بتأمين جو مناسب، وتمتد الرعاية إلى الطرق المؤدية لمنازل التلاميذ، عبر نظام العرفاء في أماكن محددة، لضمان سلامة التلاميذ وسلوكهم في الحي، إضافة إلى برنامج دعم خاص في فترة الامتحانات للشهادة الابتدائية وهو ما ساهم في أن النجاح بإشراف وزارة التربية كان بنسبة مائة في المائة.
وشمل النهج المدرسي رحلات جماعية للأطفال أيام العطل، وحفلات تقام في المدرسة في المناسبات، وأضيفت إلى ذلك الفرقة الكشفية باسم فرقة سعد بن أبي وقاص، للتركيز على الحياة الجماعية بين الأطفال.
عندما يبارك الله الوقت
قد يحسب من عرف المدرسة السعيدية أن الشيخ محمد سعيد الشلاح كان متفرغا لها فحسب، فلا يمكن أن يؤدّي مزيدا من الواجبات أو يحمل مزيدا من الأعباء إلى جانبها، ولكنّ الكتاب الذي يحكي سيرته يذكر جوانب أخرى عديدة، بدءا بالميدان السياسي كالمشاركة في تموين الثوار على الاستعمار الفرنسي، ورعاية مصالح المواطنين على مستوى الحي، من خلال "لجنة وجهاء الأحياء في مدينة دمشق"، وكان لتلك اللجان دورها على مستوى تمثيل أهل المدينة، حتى درجة اختيار أعضاء المجلس النيابي، وهي الطريقة التي حافظت سورية عليها بعد الاستقلال حتى الخمسينات من القرن الميلادي العشرين.
وشارك الشيخ محمد سعيد في الميادين الاجتماعية المختلفة، كجمعية الهداية الإسلامية، وجمعية حي مسجد الاقصاب الخيرية، إضافة إلى تأمين الدعم المالي على مستوى الحيّ والمدينة لمن يحتاجه من الأسر الدمشقية، وحمل مسؤولية أمانة سر "رابطة علماء سورية" التي كان لها باع كبير في مواجهة مخططات الاستعمار الفرنسي، التي لم تختلف كثيرا عما اشتهر عنه في الجزائر. كما قام الشيخ محمد سعيد بدور لم تنقطع آثاره على المستوى الاجتماعي الخاص، بدءا بفض النزاعات وصولا إلى تزويج الشبيبة.
ومع تحقيق الاستقلال أصبح له دوره الطبيعي على المستوى السياسي امتدادا لفترة دعم الكتلة الوطنية لتمثيل الثوار، عبر إقامة المؤسسات الوطنية الجديدة لاحقا، ونقل الرغبات الشعبية إلى المسؤولين من مستويات رئاسة الجمهورية والوزارات المتعاقبة.
ويشهد الكاتب الدكتور محمد عمر الشلاح، الذي كان له نصيب كبير في المتابعة المباشرة لأوضاع التدريس أثناء تخصصه في ألمانيا.. يشهد لأبيه أنّ (ما كان يعمله وينفذه بفكره الخاص وجهده الشخصي وتنفيذه بنفسه من أفكار وبرامج… ليفوق مرات ومرات ما يعلمه الآن المنهاج الألماني في وقتنا هذا بعد خمسة وثمانين عاما، للأطفال في بلدهم، على كافة المستويات الثقافية والأخلاقية والدينية والعلمية والاجتماعية).
ولهذا فالعبرة المستخلصة من حياة هذه الشخصية الدمشقية تكمن في أنّ (القدوة بالسلوك الشخصي هي أكبر وسيلة وأنجح طريق للتربية والتوجيه).. وهذا ما صنعه حتى اليوم الأخير من حياته. وفي يوم دفنه (29 رمضان) يرحمه الله تعالى رحمة واسعة، كان مطلع الموكب الذي شيعه قد وصل إلى مقبرة الدحداح في دمشق، وما زال آخره في جامع السادات في حي مسجد الأقصاب.
نبيل شبيب