ــــــــــ
هيهات هيهات لمثلي أن يبلغ مناه في عرض كتاب عن دمشق لفقيه الأدباء وأديب الفقهاء الشيخ الجليل ابن دمشق البار علي الطنطاوي رحمه الله وأكرم مثواه وأنزله منزلة العليين السابقين في جنة الخلد.
الكتاب أعظم من أن يُطرح تعريفا، وأجمل من أن يعرض موجزا، وأعمق من أن يُسبر ما فيه في قراءة واحدة، فمن يبدأ بمقدمته لا يتوقف قبل أن يبلغ خاتمته، ولا يلبث أن يشتاق إلى أن يعيد الكرّة من جديد.
وصاحب الكتاب رحمه الله – وهو من هو – يقول عن مقال من المقالات فيه (كتب إلي صديق كبير وأستاذ جليل ممن عرفت في مصر أن أصف له مدخل دمشق، وأن أعرّفه بمنتزهاتها وآثارها، وإن ذلك لمطلب عليّ عسير، وحمل على قلمي ثقيل، وإني أحاوله اليوم محاولة ريثما ينهض به من هو أضخم مني منكبا، وأحدّ فكرا، وأمضى قلما).
وأشهد وأعلم أن من له في الفكر والأدب باعاً أكبر وأعظم يشهد مثلي أنّي لم أعرف من فاق أو يفوق علي الطنطاوي رحمه الله في حديثه عن دمشق في هذا الكتاب، حديث العاشق لترابها وغوطتها، وجبلها ونهرها، وتاريخها وأهلها، وسمائها وأرضها.. ومن لا يدرك ما تعنيه هذه الكلمات وهي لا تصل إلى مجرد التنويه به تنويها، فليقرأ في مقدمة كتاب “دمشق” بقلم صاحبه:
(دمشق: التي يحضنها الجبل الأشمّ الرابض بين الصخر والشجر، المترفع عن الأرض ترفّع البطولة العبقرية، الخاضع أمام السماء خضوع الإيمان الصادق. دمشق التي تعانقها الغوطة، الأم الرؤوم الساهرة أبدا، تصغي إلى مناجاة السواقي الهائمة في مرابع الفتنة؛ وقهقهة الجداول المنتشية من رحيق بردى، الراكضة دائما نحو مطلع الشمس -من الهامش: يجري بردى من الغرب إلى الشرق-، تخوض الليل إليها لتسبقها في طلوعها؛ وهمس الزيتون الشيخ الذي شيّبته أحداث الدهر فطفق يفكر فيما رأى في حياته الطويلة وما سمع، ويتلو على نفسه آيات حكمته؛ وأغاني الحور الطروب الذي ألهاه عبث الشباب ولهو الفتوة عن التأمل والتبصر، فقضى العمر ساحبا ذيل المجون مائسا عجبا وتيها، خاطرا على أكتاف السواقي، وعلى جنبات المسارب، يغازل الغيد الحسان، من بنات المشمش والرمان، ويميل عليها ليقطف في الربيع وردة من خدها، أو ثمرة من قلائد نحرها، ثم يرتد عنها يخاف أن تلمحه عيون الجوز الشواخص، والجوز ملك الغوطة جالس هناك بجلاله وكبريائه، جلال ملك تحت تاجه، وعاهل فوق عرشه).
صورة من أرق ما عرف الأدب وصفا، وما صبّته نبضات القلب عبر القلم صبّا، وما يأسر عيني القارئ وأحاسيسه أسرا، وهو لا يكاد يتجاوز هذه الصورة حتى يتحفه صانعها بمثلها أو أجمل منها، في كلمات تتدفق فيها المعاني تدفق الأمواج، وعبارات مسبوكة كقطع منضدة من الذهب والماس، فصلا بعد فصل، أو مقالة بعد مقالة، فالكتاب جمع ١٨ مقالة عن دمشق كُتبت ما بين عامي ١٩٣١ و١٩٦٤م، وتحسبها لانسيابها وجمال الرصف بين لآلئها وكأنها كُتبت جميعا في ساعة واحدة، قبل أن تنشر الطبعة الأولى من الكتاب عام ١٩٥٩م، وكان الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله قد ملأ أبصار أهل الشام وأسماعهم وشغف أفئدتهم وأرواحهم، ثم كان أن عقّه المتصرّفون بأمر دمشق وأخواتها في سورية، ففي عام ١٩٨٧م (١٤٠٧هـ) صدرت الطبعة الثانية وهو يلقي ببصره عن بعد إلى مدينته وأهلها، وبلده الذي عرفه أديبا وفقيها وقاضيا وداعية لا يُشق له غبار في ميدان من الميادين، وأضيف إليها مقالات ومقدمات نشرت بين هذين التاريخين، وفي جميع المقالات ما ينقلك إلى أجواء المدينة، بطبيعتها الساحرة وأحداثها المفرحة والمؤلمة، وإلى كثير ممّن ساهموا بصمت في صنع تاريخها وصياغة مجتمعها والحياة فيها أو اشتهروا بذلك من أعلامها، وتأمّل طويلاً طويلاً في ثنايا هذه الصورة البديعة البديعة، ولست أملك أكثر من “نقل” أمثلة معدودات على بعض ما بين دفتي الكتاب من كنوز.. يقول:
(قف ساعة على ظهر الطريق واسمع ما ينادي به الباعة ترَ عجبا لا شبيه له في البلاد؛ قصائد من الشعر غير أنها مرسلة القوافي وطرائف من الغناء غير أنها محلولة القيود، تمشي إلى القلوب طليقة حرة لا تسمّي شيئا باسمه؛ وإنما هي مجازات وكنايات عجب منها بعض من كتب عن دمشق من سياح الأفرنج فتساءل في كتاب له عمّن نظم للباعة هذه الأشعار الرقاق!
وتعال استمع هذا البائع وهو يتغنّى بصوت يقطر عذوبة وحنانا “يا غزل البنات، ياما غزلوك في الليالي، يا غزل البنات” ويضغط على “الليالي” ويمدّ “البنات”، هل يستطيع قارئ أن يحزر ماذا يبيع هذا المنادي! لا لن أقول فتعالوا إلى دمشق لتأكلوا غزل البنات. وهذا بائع يهتف بكلمة واحدة لا يزيد عليها “الله الدايم” هل يقع في حسابك أنه يبيع “الخسّ”، وأنّ “يا مهوّن يا كريم” نداء بائع “الكعك” عند الصباح، وأن من الباعة من ينادي بالحِكَم الغوالي كهذا الذي ينادي: “ويل لك يا ابن الزنا يا خاين” فيفهم الناس أنّه بائع “الترخون”).
هو نزر يسير أنقله من الصفحات الأولى من الكتاب، وما زلت في الصفحة رقم ١١ من أصل ١٦٠ صفحة، ولن أزيد كثيرا فمن شاء فليبحث عن كتاب “دمشق” بقلم علي الطنطاوي ما استطاع، وإنه لجدير بالبحث عنه والسعي إليه سعيا، ثم ليقرأ ما استطاع مرة وأخرى وثالثة.. عمّا خطّه القلم المبدع عن مواجهة الفرنسيين في دمشق ويختم المقالة بقوله (وستحيا أنت يا بلدي الحبيب ماجدا حرا، ولو متنا نحن ماجدين أحرارا)، أو عن مواجهة عدد من أطفال دمشق دبابة فرنسية ليقول لأحدهم بعد “المعركة” (أنتم أحسن منا، نحن لما كنا صغارا كنا نخاف البعبع، ونخشى القط الأسود، وأنتم تهجمون على الدبابة فالمستقبل لكم لا لهم). وكانت تلك الكلمات من عام ١٩٣٥م، وأتخيل أولئك الأطفال قد أصبحوا شبابا عندما تحقق جلاء الفرنسيين عن دمشق، وقد خصص ليوم الجلاء مقالتين، أو مقالة في حلقتين.
المقالة الأخيرة في الكتاب عن “مكتب عنبر”، المدرسة الثانوية التي شهدت صفحة مليئة بالحيوية والنشاط والحماسة لدى كاتب المقالة، أيام كانت المواجهة واضحة للعيان، بين أهل الوطن والمحتل الفرنسي، وأصل المقالة مقدمة لأحد الكتب عن مكتب عنبر بقلم ظافر القاسمي، وأضاف الطنطاوي في خاتمة نص مقدمته لكتاب أخيه وصديقه:
(وبعد، فلقد كتبتُ هذا الذي قرأتموه من المقدمة وأنا في دمشق، في بلدي، بين أهلي وولدي، وأنا رخيّ الحال، ناعم البال، أكاد من فرط الراحة أشكو الملال، هأنذا أختمها وأنا بعيد، بعيد بجسدي عن دمشق، تفصل بيني وبينها بوادي الحجاز ورمال نجد، بعيد عن مكتب عنبر تفصل بيني وبينه أيامه، سنون طوال، تكاد بعد قليل تبلغ الأربعين. فأين أنت يا مكتب عنبر؟.. رحم الله أيامك).
ويعود المغترب عن دمشق منذ الصبا، إلى كتاب “دمشق” للطنطاوي، مرة أخرى، ليعانق فيه مجددا دمشق في صفحة بعد صفحة، وليسمع في كل كلمة فيها بعد كلمة، نبضات قلبه تحيا من جديد، نبضة نبضة، تغسلها دمعة تسّاقط فوق دمعة!
أين أنت يا دمشق اليوم من تلك الأيام؟ رحم الله أعلامك الأطهار الأبرار.
أين عام الثقافة العربية فيك (٢٠٠٨م) من تكريم أولئك الأطهار الأبرار.
كيف تقرّ عين دمشق وابنُها الكبير الجليل، شاهد العصر والتاريخ، يقضي أيامه الأخيرة بعيدا عنها ويتوفاه الله دون أن تكتحل عينه برؤيتها مجدّدا بعد خروجه مضطرا منها، فيمضي إلى بارئه ودمشقُ في قلبه وفي كل حبة رمل من ثرى مثواه الأخير بعيدا عنها!
نبيل شبيب
للتحميل: نسخة شبكية من كتاب “دمشق” بقلم علي الطنطاوي