مطالعة – عبد الله الطنطاوي: من نجوم الإسلام

أكثر من خمسين عاما مع القلم، وأكثر من سبعين كتابا مؤلّفا، وعدد كبير من المقالات والأقاصيص والمسرحيات، عرفتْ بعضَها شاشاتُ التلفاز وأجهزة المذياع في أكثر من بلد عربيّ، واعتلى بعضها خشبة المسرح، لا سيّما في حلب شمال سورية.

كيف لي أن أكتب شيئا عن مثل ذلك النجم من نجوم الأدب العربي من خلال وقفة قصيرة عند مؤلّفه الموسوعيّ "من نجوم الإسلام"؟

تلتمس جرأتي عذرا في أمرين، أوّلهما أنّ صاحب المؤلّف، الأستاذ عبد الله الطنطاوي، أكرمني مؤخّرا بإهداء ثلاثة مجلّدات منه، والأمر الثاني أنّي لا أزعم محاولة النقد الأدبي في السطور التالية، وليس لي في ذلك باع، إنّما هي خواطر تواردت عليّ وقد وجدت نفسي ألتهم الصفحات تباعا، قصّة بعد قصّة، ومجلّدا بعد آخر، وفي كل منها بضع تراجم بأسلوب قصصي، وازدادت رغبتي في الاطلاع على المزيد، فقد علمت من الأستاذ الطنطاوي أنّ المشروع الذي حمل على عاتقه تنفيذه كبير، ويريد أن يصل به إلى ألف نجم من نجوم الإسلام أو أكثر، من عهد الصحابة رضوان الله عليهم إلى عصرنا الحاضر، وكان قد صدر عدد كبير من هذه التراجم على امتداد سنوات عديدة، ويجري جمعها في مجلّدات ممّا يزيد إمكانات الاستفادة منها.

 

" من نجوم الإسلام" كما يقول صاحبه يستهدف طلبة المرحلتين الإعداديّة والثانوية، ويتحدّث كثير ممّن اطّلعوا عليه وتجاوزوا المراحل الدراسية والجامعية عن إقبالهم عليه واستفادتهم منه، ينافسون بذلك الناشئة من الفتيان والفتيات.. وقد تذكّرت حالي وأنا ألتهم الصفحات أيضا عندما أمسكت ذات يوم بكتيّب يحمل عنوان "ذريّة بعضها من بعض" فلم أتركه إلاّ بعد أن أوصلني إلى الصفحة الأخيرة من صفحاته، وقد ضمّ مجموعة أقاصيص ومشاهد قصصية، وصدر بقلمه عام ١٣٩٧هـ و١٩٧٧م وها نحن في عام ١٤٢٥هـ و٢٠٠٤م (ساعة كتابة هذه السطور، وما زال القلم يتدفّق إبداعا وعطاء، وما زال الإخلاص يشرق في حروف الكلمات مسبوكا في عبارة أدبيّة راقية، تستهوي المدمن على آداب العربية، قديمها وحديثها، فيحلّق به ومعه، كما تستهوي الفتى الناشئ وهو يتلقّى ما ينساب إليه انسيابا من فِكَر أراد الكاتب إيصالها إليه، أو من معالم شخصيّة يحثّه على الاستفادة منها قدوة له، أو من حوافز تسري من الورق عبر البصر إلى الفؤاد، فيقرأ القارئ ليستوعب، ويستوعب ليفكّر ويقرّر، ويحدوه الإحساس تلقائيا بالإخلاص والعزم ليعمل وينجز.. وقليل من الكتابات ما يصنع ذلك بالقارئ من حيث لا يدري.

 

قد يزعم بعض أهل النقد الأدبي أنّ كتابة قصّة تاريخية توفّر لقلم الأديب الحدث وأشخاصه، أسهل من كتابة قصّة يبدعها خيال مؤلّفها وإن استوحى شيئا منها من الواقع حوله.

كيف؟ ونحن هنا لا نقرأ لكاتب اطّلع لِماما على حدث تاريخي، أو عرف سير بعض رجالاته ونسائه معرفة سطحية، فخلط بقلمه بين ما وثّقته الروايات وما أحبّ إضافته لغرض أدبي أو لحبك نسيج قصصي أو لابتداع عنصر إثارة للقارئ، وربّما لغرض آخر يتناقض مع ما تقتضيه أمانة القلم ومسؤوليّة الكلمة.. إنّما نحن هنا بين يدي مؤرّخ أمين وأديب قدير، لا يخرج قلمه عمّا وثّقه المؤرّخون فلا يجمّل ولا يجامل، ولا تعوقه متطلّبات الأدب القصصي أن يصبّ الأحداث في قالب حيّ، يضع قارئه أمامها كما وقعت، ويُشعره بتفاعل النفوس البشرية معها آنذاك، ويزوّده بخلفيّات اجتماعية وتاريخية، وما يكمن فيها من قيم عقدية وخلقية، وجميعُ ذلك في مزيج لا يطغى فيه جانب على آخر، فإذا بها قصص حافلة بالحركة، نابضة بالحوار، تشدّك إليها وتنقلك إلى عالم الحدث وأهله وصانعيه.. وكأنّ الطاقة الإبداعية الكبيرة المعروفة عن الأديب المسرحي عبد الله الطنطاوي انصبّت في تأريخه القصصيّ الشيّق عن نجوم الإسلام، فوضعت القارئ في مقعد من مقاعد الصفّ الأوّل أمام خشبة المسرح، فلا تفوته شاردة أو واردة، ولا يخفى عليه تعبير انفعالي على وجوه أبطال القصّة، أو حركة يصنعها تأثّرهم الوجداني أو اقتناعهم العقلي.

كاتب القصة الخيالية قادر إذا وجد عائقا وهو يكتبها أن يعدّل شيئا في مجرى أحداثها، أو أن يضيف إلى شخوصها ما يكمل له فكرة عنّت له، أو يصطنع حوارا يحيي جمودا طارئا على سرده لها، وجميعُ ذلك يفتقده كاتب القصّة التاريخية، إذا ما كان أمينا على توثيقها، حريصا على الصدق فيها، فلا يظهر إبداعه في اختلاق فصل من فصولها بل في قدرته على الجمع بين نتاج قلمه وما ينقل من كلام صانعي الحدث ومؤرّخيه، في سبيكة أدبية ممتعة، دون أن يغلب على من يتابع الحدث أنّ الكاتب يحشره حشرا في القالب الأدبي، أو من يستمتع بالعبارة الأدبية أنّها تنطوي على مبالغة أو تقصير في نقل الحدث نفسه.

ويفتش القارئ في (حدود المجلّدات الثلاثة التي وصلتني من) موسوعة "من نجوم الإسلام" باحثا عن موضع يوحي باصطناع عبارة لتأكيد فكرة، أو بتجاوز عقبة طارئة لاستكمال نقص في المشهد، وعبثا يبحث.. فكأنّك في قارب يحملك موجة بعد موجة، حتى إذا وصلت إلى نهاية المطاف، وجدت نفسك كالمبحر إذا بلغ الشاطئ، ولا يحسّ بتعب ليستريح، فسرعان ما يتوق إلى الإبحار من جديد مع القصة التالية عن حياة نجم آخر من نجوم الإسلام.

وما أصعب أن يضع من يطّلع على "من نجوم الإسلام" تصنيفا له، هل هو تاريخ في قالب قصّة، أم موسوعة من التراجم لمشاهير الأعلام، أو قصص للناشئة تربطهم بهويتهم الحضارية التاريخية منطلقا لبناء حاضرهم ومستقبلهم بأيديهم، أم هو جميع ذلك وزيادة!

 

ودّدت لو أسترسل بالوقوف عند بعض أسماء مَن عرفتُهم عبر ما قرأت في مؤلّف "من نجوم الإسلام" معرفةً متجدّدة، من الصحابة مثل حمزة وطلحة ومصعب وسلمان والزبير رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، أو عند أسماء آخرين ممّن قرأت لهم أو عنهم من قبل، مثل عبد الرحمن الكواكبي وسليمان الحلبي وعزّ الدين القسّام ومحمد الحامد، ولا أزعم أنّني عرفت عنهم حدّ الكفاية كما كان بعد الإبحار في هذا المؤلّف، وقد جعلني كالأسير الذي لا يريد الفكاك من قيوده.

لا أسترسل إذ لا أملك ما أستطيع التعبير به كما أودّ عن كثير ممّا أثارته القراءة الأولى للمؤلّف، ولا أحسبني سأكتفي بها، ولكن أكتفى هنا بذكر أمرين اثنين في خاتمة هذه الخواطر، أوّلهما إعجاب نادراً ما أحسست بمثله، أن أجد الكاتب الأديب يتحدّث في هذا المجلد عن الشيخ الداعية المجاهد مصطفى السباعي رحمه الله بأسلوب قصصي رائد، ويتحدّث عنه في كتاب آخر بإبداع المؤرّخ فيروي سيرته رواية منهجية علمية، وتمنّيت لو اطّلعت أيضا على كتابه الثالث يتحدّث عنه "شاعرا".. فأقول كيف لا يَعجب ويُعجب من لا يستطيع الاستغناء بما قرأه بقلم كاتب القصّة، عمّا قرأه بقلم كاتب الترجمة.. وهو هو المبدع هنا وهناك على السواء.

والأمر الثاني الذي يُعجزني التعبيرُ عنه هو شكري وامتناني لأخي الأستاذ الأديب الكبير عبد الله الطنطاوي، جزاه الله خيرا في الدنيا والآخرة.

نبيل شبيب