مطالعة – رجب طيب إردوجان – نحو عالم أكثر عدلا

نموذج مقترح لإصلاح الأمم المتحدة - ترجمة نورا ياماج

Daha Adil Bir Dünya Mümkün / هذا العنوان الأصلي باللغة التركية للكتاب الموجود بين أيدينا للمطالعة هذا اليوم، مترجما إلى العربية تحت عنوان: نحو عالم أكثر عدلا، ويضم ٢١٦ صفحة، وقد نقلته إلى العربية المترجمة القديرة نورا ياماج، وصدرت الطبعة الأولى في تشرين أول – أكتوبر ٢٠٢١م ونشرته مجموعة تركواز الإعلامية في إسطنبول أما المؤلف فهو رجب طيب إردوجان، ولا حاجة إلى تعريف بعضنا بعضا به، فالرئيس التركي رجب طيب إردوجان (أو أردوغان) معروف بما فيه الكفاية، ومعروف أيضا أنه موضع المديح والتأييد عند كثير من الناس في تركيا وخارج حدودها، وذلك مع المبالغة الزائدة أحيانا، كما أنه موضع الانتقاد والذم إلى درجة العداء أحيانا أخرى، من جانب كثير من الناس، في تركيا وخارج حدودها.

يتركز النقد غالبا على تطلعاته المستقبلية الكبرى بخلفية إسلامية والبعض يقول عنها عثمانية، وهذا نقد يرتبط بالتخوف أو نشر التخوف من الإسلام عموما، وقد يتعرض النقد أيضا إلى كيفية ممارسة السلطة مثل استخدام قوة شخصيته في فرض القرار الذي يراه صائبا، وشدة التعامل مع من ينكشف عداؤه داخل البلاد، بالإضافة إلى سياسته المالية وهو نقد يفتقر إلى الاستشهاد بأدلة كافية لا تقتصر على رصد هبوط قيمة العملة التركية فقط، هذا ويوجد أيضا أيها الكرام عداء صادر عن الانزعاج من ممارسته سياسة تنطلق من روح السيادة والكرامة، الذاتية والشعبية، في التعامل مع تجاوزات مفضوحة في الممارسات السياسية الدولية، والانزعاج أيضا من تطلعاته للتعامل مع معادلة الهيمنة والتبعية السارية المفعول منذ الحرب العالمية الثانية، وهذا بالذات ما يتعلق مباشرة بموضوع هذا الكتاب بين أيدينا.

أما جوانب النجاح الأكبر لإردوجان سياسيا واقتصاديا، فقد تتفقون معي أننا لا نكاد نجد تشكيكا موضوعيا فيها، والنجاح شامل لعدد من الميادين في مسيرة تركيا الحديثة وشعبها، منذ كان إردوجان رئيسا لبلدية إسطنبول من عام ١٩٩٤ إلى عام ١٩٩٨م، ثم بعد تأسيس حزب العدالة والتنمية عام ٢٠٠١م والوصول به إلى سدة السلطة في تركيا عبر انتخابات ٢٠٠٢م، ومن ثمّ ما تحقق لتركيا اقتصاديا، وهذا بالمناسبة مع تجديد قوة العملة التركية التي سبق سقوطها من قبل إلى الحضيض، كما تحقق التقدم في تركيا في البنية الهيكلية لقطاعات عمرانية وزراعية وصناعية ودفاعية بالإضافة إلى المرافق العامة. ولا ينكر أحد ما أصبح لتركيا من مكانة متقدمة في مجموعة العشرين التي تضم الدول الناهضة، وتظهر قيمة ذلك لنا عند وضعه مقابل الأزمات المالية والاقتصادية العديدة في تركيا قبل عام ٢٠٠٢م.

هذا عن المؤلف؛ ومن يريد  منكم المزيد عنه يمكنه الرجوع مثلا إلى كتاب صدر بالعربية عام ٢٠١١م عن “دار العربية للعلوم – ناشرون”، وهو بعنوان “رجب طيب أردوغان – قصة زعامة”، ولعل الأصح هو “نشأة زعامة” وفق النسخة الأصلية باللغة التركية من تأليف حسين بيزلي (Hüseyin Besli) وعمر أوزبيه (Ömer Özbay)، ويتفق ذلك مع عنوان الترجمة للغة الإنجليزية من عام ٢٠١٨م

عالم أكثر عدلا

على أية حال هذا الكتاب بين أيدينا بعنوان “نحو عالم أكثر عدلا” يعرّف به مؤلفه إردوجان في الصفحات الثلاثة الأولى قبل الفهرس، إذ يقول: (نتناول في هذا الكتاب بالتفصيل سعي تركيا الدؤوب للعدالة من أجل البشرية جمعاء، ونكشف عن الظلم والتمييز العنصري وازدواجية المعايير السائدة في العالم كما يتجلى في نموذج الأمم المتحدة، لافتين الانتباه بشكل خاص إلى ضرورة إجراء إصلاح شامل لمجلس الأمن الذي لا يخدم سوى “مصالح البلدان الخمسة التي تتمتع بحق النقض”. كما نشير إلى المعضلات السياسية العالمية، لا سيما الظلم العالمي وأزمة اللاجئين والإرهاب الدولي ومعاداة الإسلام… إضافة إلى التركيز على إمكانية إنشاء عالم أكثر عدلا مع تقديم اقتراح إصلاح مبدئي استراتيجي شامل وقابل للتطبيق على منظمة الأمم المتحدة، يضمن العدل ويلغي امتياز حق النقض)

لو أن إردوجان لم يتحرك سياسيا إلا لهذا الهدف لكان ذلك كافيا لتفسير تصعيد العداء دوليا لتركيا تحت رئاسته منذ سنوات عديدة، فهو -على النقيض من سواه ممن كتب حول إصلاح الأمم المتحدة- يتعرض للمحور المركزي الذي صُنع صنعا عقب الحرب العالمية الثانية من أجل ضمان استمرارية هيمنة القوى الدولية الخمسة “المنتصرة” عسكريا وشرعنة تلك الهيمنة لحقبة غير محدودة من تاريخ البشرية، علما بأن ذلك يتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة نفسه، لا سيما مع مبدأ مساواة الدول.

المرض وأعراضه

يتوزع الكتاب على “المقدمة” و”المدخل” وفصلين اثنين، يشمل الأول عشرة عناوين فرعية والثاني ثمانية، ثم تُخصص “الخاتمة” لحصيلة الكتاب بإيجاز.

في تفاصيل حديثه عن النواقص والانحرافات والمظالم في صميم “النظام العالمي” المهيمن يستشهد إردوجان مرارا بالتعامل الدولي مع سورية وثورتها الشعبية ومع العراق، من ذلك مثلا:

(من المستحيل لنظام يتغاضى عن نظام الأسد الذي يستهدف مئات الآلاف من الناس في سوريا بالبراميل المتفجرة وأسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستية أن يحقق السلام والاستقرار العالميين) -ص ٣٩-

(نأخذ على سبيل المثال التدخل في العراق عام ٢٠٠٣، حين لم يجد مجلس الأمن أية مصداقية في مزاعم الإدارة الأمريكية بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل ودعمها للإرهاب، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية ضربت بقرار الأمم المتحدة عرض الحائط، وتدخلت بالعراق، ولم تتمكن الأمم المتحدة من تطوير آلية لمحاسبة الولايات المتحدة على سلوكها هذا) -ص ٦٠-

تحت عنوان “المعايير المزدوجة في السياسة الدولية وحاجة الأمم المتحدة إلى الإصلاح” ينطلق إردوجان في الفصل الأول من تعداد معضلات السياسة العالمية ثم ينتقل إلى قضية تآكل “شرعية” الأمم المتحدة، ليخاطب الأمم المتحدة بقوله:

(إنكم تريدون البقاء مكتوفي الأيدي تجاه الأزمات، ومع ذلك تتصرفون مثل سلطة تشريعية عالمية تمثل مصالح الأعضاء الخمسة) -ص ٦١-

وتحدث عن غياب العدالة العالمية، وعمد إلى التفصيل عبر ذكر ومنها قضية اللاجئين وقضية الإرهاب الدولي فرهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا)، ليختم الفصل باستنتاجات تؤكد ضعف فاعلية الأمم المتحدة وإشكالية عدم شمولها لتمثيل دول العالم وشعوبها، ويستعرض قضية الحوكمة التي تقوم كما يقول على ثلاثة ركائز، السياسة والأمن والاقتصاد، بينما انتقلت مشكلات النظام الدولي في منظمة الأمم المتحدة إلى المؤسسات العالمية والمنظمات الدولية الأخرى، فأصبحت الإصابات والنواقص مشتركة، تشمل حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي وغيرها.

اقتراح للتطبيق لا الأحلام

يؤكد إردوجان في مطلع الفصل الثاني أن ما طُرح منذ سنوات تحت عنوان إصلاح الأمم المتحدة لا يمكن أن يصل إلى نتائج شاملة ومستقرة، بل (لن تتحقق العدالة ولا يمكن للأمم المتحدة أن تحافظ على نفسها ما لم تكن الجمعية العامة هي السلطة التشريعية ومجلس الأمن هو السلطة التنفيذية) -ص ١٣٨-

ولئن كان كثير ممن يرون نظام الهيمنة والتبعية نظاما أبديا لا يمكن المساس به، فإن إردوجان ينفي عما يطرحه أن يكون “حلما مثاليا”، ولا ينفي أن القوى المهيمنة سترفض وتعرقل بقوة، ولكنه يحدد هدفه بواقعية حيث يقول: (يمكن لنهج “العالم أكبر من خمسة” أن يكون نقطة انطلاق ومنصة وثب للإصلاح) -ص ١٣٩-

يتحدث عن محاولات متعددة منذ نهاية الحرب الباردة لطرح سلسلة من الأفكار ومناقشتها بشأن تعديلات هيكلية، ولكن وصلت المحاولات واقعيا إلى طريق مسدود سنة ٢٠١٣م وكان من تجليات ذلك العجز الاستعراضي، ومثاله قرار الأمم المتحدة بغالبية ١٢٨ صوتا مقابل ٩ أصوات بشأن رفض القرار الأمريكي أن تعتبر القدس عاصمة إسرائيلية، ولكن دون جدوى أو مزيد من التفاعل العملي، والأمثلة كثيرة على ذلك توصل إلى القول: (خلاصة الكلام: بالرغم من التغيرات الكبيرة التي شهدها العالم خلال ٧٥ عاما، غير أن الأمم المتحدة فشلت في تكييف ذاتها مع هذا الواقع الجديد) -ص ١٤٧-

أما الخطوات العملية أيها الكرام فيطرحها إردوجان ابتداء بإعلان مبادئ أساسية لإصلاح الأمم المتحدة أولها العدالة، ثم المساواة، وينبثق عنهما ضرورة تغيير ما نشأ بعد الحرب العالمية الثانية والانطلاق من الواقع الحالي لعدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، والمبدأ الثالث هو الشفافية، والمبدأ الرابع المساءلة.

وبعد وقفة متجددة لبيان عدم جدوى ما سبق طرحه وسبقت مناقشته من مقترحات لإصلاح المنظمة الدولية، ينتقل الحديث في الفصل الثاني إلى العدالة في تمثيل الدول الأعضاء وفق الواقع الراهن وليس واقع ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويتبع ذلك تعديل العلاقة بين الجمعية العامة ومجلس الأمن وهو ما سبق التنويه إليه بضرورة أن تكون صلاحيات الجمعية العامة “تشريعية” وصلاحيات مجلس الأمن “تنفيذية”، إنما لا بد أن يكون اقتراح الإصلاح شاملا وجذريا، وليس من نوعية المقترحات الجزئية والمؤقتة.

ويفضي الحديث إلى جوهر الموضوع وهو ضرورة إلغاء امتياز حق النقض بدلا من الجدل حول زيادة الأعضاء الدائمين، مع هذا الامتياز أو بدونه، وقد استخدم “حق النقض” لوقف حوالي ١٠ في المائة من مجموع القرارات التي عرضت على مجلس الأمن، هذا مع ملاحظة أن ممارسة النقض استهدفت قضايا بالغة الأهمية وليس قضايا جانبية أو شكلية. ويضيف (لهذا السبب نقول “العالم أكبر من خمسة”. يمكن وصف العالم بصيغ مختلفة، لكن حصره في خمس دول مشكلة في حد ذاتها. لا أحد يستطيع أن يقول إن هذه الامتيازات عادلة) -ص ١٩٥-

خطوة أولى على طريق طويل

تحت عنوان “مقترح قابل للتطبيق” يشير إردوجان إلى وجود الدول الدائمة العضوية حاليا، ووجود مجموعة الدول الأربع المتطلعة إلى مقعد دائم ليقول: (يمكن لمجموعة “الاتحاد من أجل توافق الآراء”، وتركيا عضوة فيه، إنشاء تحالف يوحد الدول التي لا تحلم بامتياز حق النقض… فهذه المجموعة التي تضم دولا من كل المناطق وكل الأعراق وكل مستويات التنمية، وكل القارات، بوسعها مجتمعة أن تبني أساسا واسعا للشرعية وأن تصبح أكثر تعددية، ومن هنا تستمد قدرة أكبر على الدفع باتجاه التغيير والإصلاح) -ص ١٩٩-

إن رفض الدول الخمس متوقع أيضا، وقد تمارس حق النقض ضد اقتراح إلغائه، ولكن المشكلة في نظر إردوجان مشكلة سياسية وليست مشكلة قانونية، علما بأن اجتماع ١٣٠ دولة عضوا، أي ثلثي الأعضاء، على قرار يلغي حق استخدام دولة عضو النقض ضد ذلك القرار، ولكن لا يمكن “إجبار” الدول الخمس على تنفيذه، إنما (سيكون من الواضح تماما أنه لا يمكن لمنظمة الأمم المتحدة أن تستمر في شكلها الحالي) -ص ٢٠٤-  وفي نطاق “الخاتمة” يضيف إردوجان فيما يضيف: (مؤكد أن الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن ستسقط هذا القرار، لكن هذا سيظهر فقدان مجلس الأمن لكامل شرعيته، ولا يمكن أن تتحقق عملية شاملة جذرية إلا بهذا الشكل… وبكل إصرار نواصل القول: إن العالم أكبر من خمس دول) -ص ٢١٥-

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

العدالةالهيمنةتركيارجب طيب إردوجانمطالعة