ــــــــــ
عنوان الكتاب: حروب المناخ / Klimakriege
المؤلف: هارالد فيلتسر / Harald Weltzer
الصفحات: ٣٣٦
الناشر: دار فيشر – ميونيخ / Fischer Verlag München
الطبعة الأولى: نيسان – إبريل ٢٠٠٨م
(نص الكتاب نقله إلى العربية نبيل شبيب)
يحمل هارالد فيلتسر درجة الأستاذية (بروفيسور) في العلوم النفسية الاجتماعية، ويدرّسها، كما يشغل منصب المدير العام لمركز “بحوث العلوم البينيّة” في معهد “الثقافات والعلوم” في مدينة إسن Essen بألمانيا.
وسبق لفيلستر أن أصدر عددا من الكتب التي تناولت الأبعاد النفسانية الاجتماعية من وراء الحروب في القرن الميلادي العشرين الذي يراه شاهدا على سرعة اللجوء إلى القتل -كما يسمّي الحروب- وسيلة للتعامل المتطرف مع مشكلات اجتماعية.
الجشع الاستعماري
يقول الكاتب في مقدمته إن الجشع الاستعماري مستمر وترمز له صورة غلاف الكتاب، فهي لباخرة “إدوارد بولن” التي غرقت يوم ٥ /٩ / ١٩٠٩م أمام ساحل ما كان يسمّى جنوب غرب أفريقية، حين كانت مستعمرة ألمانية، والباخرة اليوم ظاهرة للعيان فوق رمال ناميبيا -الاسم الجديد لتلك المنطقة- وفد انحسرت مياه البحر عنها، مما يشير إلى مفعول التبدل المناخي.
وقد كانت باخرة للبريد، وأصبحت لنقل الرقيق، عقب حرب الإبادة التي مارسها الجنود الألمان على قبائل هيريرو وناما (أولى حروب الإبادة في القرن الميلادي العشرين).
كلمة القتل محورية في مختلف فصول الكتاب، لا سيما الفصل السادس “القتل غدا.. حروب دائمة، تطهير عرقي، إرهاب، تبديل الحدود” ويشغل ثلث الكتاب تقريبا، ويمهد له بخمسة فصول تطرح المنطلقات التي يبني عليها تنبؤاته المستقبلية.
– مكانيا بالحديث عن الغرب والآخر.
– حضاريا عبر إعطاء القتل -أي الحرب- مغزى لتسويغه.
– مناخيا بتحديد المعالم الكبرى لمشكلة التبدّلات المناخية الجارية وما ينتظر منها.
– تاريخيا من خلال وقفة قصيرة عند دوافع الحروب في الماضي تحت عنوان “القتل بالأمس”.
– استقرائيا بطرح شواهد معاصرة عن الحروب والصدامات، وكيف أصبحت لها خلفياتها المناخية والاجتماعية.
ويبدأ الكاتب بمثال تحصينات الحدود الخارجية الأوروبية والأميركية من الهجرة، إذ يعلم الغربيون أنّ المشكلة ستتفاقم، نظرا إلى أن عدد الجائعين الذي بلغ ٨٥٠ مليونا (سنة إصدار الكتاب ٢٠٠٨م) سيزداد، جنبا إلى جنب مع تناقص رقعة زراعة المواد الغذائية.
فأصبحت المشكلة المطروحة بعيدة عن التعامل مع أسباب المجاعات، كما غدت مركزة على السؤال عن كيفية تعامل الغرب مع تيارات هجرة الجائعين الذين لم تعد الحياة ممكنة في أرضهم، ويريدون مشاركة الغرب في رفاهيته.
الخلفية الاجتماعية
تعزيزا لنظريته عن الحروب تحت وطأة مشكلة اجتماعية يستحضر الكاتب أمثلة عديدة، من بينها مثال السودان وامتداد الصحراء فيه مائة كيلو متر في أربعين عاما، وزوال الغابات بنسبة ٤٠ ٪ خلال خمسين عاما، ويُتوقع ارتفاع متوسط الحرارة نصف درجة قبل عام ٢٠٣٠م ودرجة ونصف حتى عام ٢٠٦٠م، فالسودان بأحداثه الراهنة مثال مباشر على حروب تسببها التبدلات المناخية في الدرجة الأولى.
ويتساءل الكاتب مع الفيلسوف الألماني هانس ألبرت Hans Albert عمّا يعنيه التعلم من دروس التاريخ، ما دامت الحصيلة هي الأخذ بزيادة صناعة الأسلحة أكثر من الأخذ بزيادة صناعة أدوات الإنتاج؟
ثم يقول إنّ العنف عندما يحقق هدفه يصبح نموذجا متبعا، والحروب تبدلت أشكالها ولم يتبدل جوهرها.
“سيتضح مفعول التبدل المناخي الأضخم المنتظر مستقبلا عندما يؤدي ذلك المفعول عبر النزوح إلى اختلاط بشري كبير جديد، يزيد أسباب النزاع والاستعداد لاستخدام العنف“
صحيح أنّ مؤرخي الغرب لا يتفاخرون بالحروب، ولكنهم يسوّغونها عبر وصفها بالاضطرارية وإعطائها عناوين الديمقراطية والقيم.
ولكن إذا أدى التبدل المناخي العالمي كما تقول الدراسات إلى رفع متوسط حرارة الأرض درجة تُخرج نتائجه عن السيطرة، سيغيب توازن المنظومة الاقتصادية الغربية القائمة على استغلال الموارد الطبيعية، فهي قائمة على تركيز القوة في مكان واستخدامها في مكان آخر من العالم (نظرية المركز والأطراف).
فكيف سيكون الوضع عندما يفقد المكان الآخر المقومات الطبيعية للحياة أصلا، وما الذي يمكن أن ينشأ آنذاك عن تيارات التشريد الكبرى، وهل ستبقى الحدود القائمة ثابتة؟
السلوك البشري
وينتقد الكاتب التمويه على المشكلة المناخية نفسها عبر طرحها وكأنها كارثة حديثة النشأة، رغم أن معالمها الشمولية عالميا بدأت تظهر قبل ثلاثة عقود، وأن مقدماتها سبقت ذلك بفترة طويلة.
ومع الحديث عنها الآن بدأ ينحسر الحديث عن تلك المقدمات رغم استمرار خطورة مفعولها، لأن جذور المشكلة لم تتبدّل، بل تغير خلال العقود الثلاثة الماضية الوعي بالمشكلة.
لهذا ستكون علاقة العنف المنتظر نتيجة التبدلات المناخية، مرتبطة بالسلوك البشري في التعامل معها، ومثال ذلك التقرير العالمي الرسمي الأول حول التبدل المناخي. فقد وُضع النص الأصلي بصيغة تحدد المسؤوليات السياسية، ولكن قبل نشره تعرّض لمراجعات قائمة على المصالح وليس على المعطيات العلمية المحضة، فلم يبق في صيغته الأخيرة من تحديد تلك المسؤوليات شيء.
ويعطي الكاتب حرب دارفور وصف أول حرب مناخية، مستخلصا ذلك من أن فئة “الأفارقة” التي وطّنها الاستعمار من قبل تعمل بالزراعة وأن فئة “العرب” من أهل البلاد الأصليين تعمل بالرعي. ومع التبدلات الطارئة نتيجة الجفاف والقحط، لا سيما عام ١٩٨٤م، سعى المزارعون لإحاطة مزارعهم والطرق التي تعبرها بالحواجز في وجه ماشية البدو العرب، فعمل هؤلاء بالقوة على شقّ طرق لأنفسهم باتجاه الجنوب حيث لا تزال توجد مراعي قطعانهم، فبدأت الحرب واقعيا.
وينطلق الكاتب من هذا المثال لشرح ما يمكن أن يقع من صدامات، عندما تتسبب الكوارث الناجمة عن تبدل المناخ بالقضاء على مناطق زراعية وإغراق جزر وسواحل ومدن كبيرة، وما يترتب على ذلك من حركات نزوح جماعي، وبالتالي الصراع على المعطيات الطبيعية لضرورات الحياة.
وأشار إلى أن عواقب التبدل المناخي لا تتوزع بشكل “عادل” بينما لا تزال نواة “قانون دولي بيئي” في طور النشأة الأولى، فهي دون مفعول.
ويزيد من خطر الحروب أن عواقب التبدلات المناخية لا تقع بصورة منتظمة، فلا يمكن تثبيت توقعات محددة زمنيا لها، وعند وقوعها لا يمكن أن يسري مفعول السببية، ففي مجرى التاريخ نادرا ما أدّى التصرف بصورة معينة إلى النتيجة المستهدفة منه في الأصل.
ويؤكد الكاتب أن الحروب من بين الظواهر الاجتماعية لا تجد دراسة علمية وافية، لا سيما أن ما يكتبه العلماء عنها لا يصدر عن “خبرة مباشرة” بل عن تأمل عن بعد، ولم تشمل الدراسات عشرات الحروب والنزاعات المسلحة بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف أصبحت تبتعد شيئا فشيئا عن صورة الحرب التقليدية بين دولتين حتى أصبحت على الصورة الذي أخذتها الحروب الأولى في القرن الميلادي الحادي والعشرين.
والملاحظ في الوقت الحاضر أنّ ديمومة الوجود العسكري في منطقة ما خارج الحدود، بات أمرا مطلوبا، وهو الركيزة لحروب “مستمرة” مستقبلا، أما التبدلات المناخية وما ينجم عنها اجتماعيا فلن توجد بذلك أسبابا إضافية للحروب فقط، بل أشكالا جديدة لها أيضا.
“حروب المناخ بدأت، وستنطوي على القتل والموت والتشريد، ولا يوجد أي سبب للاعتقاد بأن العالم سيبقى كما نعرفه الآن“
حروب مستقبلية
الحروب المستقبلية ستكون بغرض تثبيت أوضاع مدنية شمولية جديدة، لا سيما بعد أن باتت توجه إلى الشعوب وليس إلى الجيوش. وهنا يبدو رد الفعل الاجتماعي في الغرب، متمثلا في التهرب من المسؤولية قبل اندلاع الحروب التي يخوضها، إلى تأكيد الاستعداد لمساعدة الضحايا بعد وقوعها.
من أشكال الحروب المستقبلية ما بدأ في القرن الميلادي العشرين واتخذ صيغة التطهير العرقي، بالتشريد عن المواطن الأصلية، وهو ما كان سياسة رسمية بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا. وفي هذه الأثناء أصبحت العولمة تساهم عبر تأثيرها الثقافي في تحقيق الاندماج جزئيا، وتساهم في التفرقة عبر التميز بدرجة أكبر. وهنا يبدو مفعول التبدل المناخي الأضخم المنتظر مستقبلا عندما يؤدي عبر النزوح إلى اختلاط بشري كبير جديد، يزيد أسباب النزاع والاستعداد لاستخدام العنف.
ثم يطرح الكاتب تساؤلات عن الحلول الممكنة، بمنظور “نفسي اجتماعي” وفق تخصصه، بادئا بفصل عنوانه “البشر بمواصفات متغيّرة أمام حقائق متغيرة” ثم معرّجا على ولادة دوافع قديمة، عقدية وطبقية، في الصراعات الجديدة، ليختم بفصلين، التاسع والعاشر “ما الذي يمكن فعله وما الذي لا يمكن فعله” فيطرح عدة احتمالات في الفصل التاسع، ويلخّص وجهة نظره في الفصل العاشر.
“حروب المناخ بدأت، وستنطوي على القتل والموت والتشريد، ولا يوجد أي سبب للاعتقاد بأن العالم سيبقى كما نعرفه الآن”.
هذا ما يفرض تطوير الفكر السياسي نفسه، بدءا بميدان تضييق المجال المعيشي للآخر، ليمكن البحث عن السلوك الممكن الذي يمنع الأخذُ به تحقيق “توقعات الكاتب” ويعني بذلك نفسه.
ويعدّد الكاتب خمس رؤى لخلفية التصرفات الممكنة وفق التحليل المنطقي المحض.
الرؤية الأولى متابعة النهج المتبع حاليا، أي سياسة النمو الاقتصادي، واستهلاك الثروات الطبيعية المستوردة، وزيادة ضغوط المعيشة على الآخرين، وعقد اتفاقات لهذا الغرض مع أنظمة مستبدة، والقضاء على المزيد من المعطيات الطبيعية، مع استبعاد الوجه الأخلاقي للتصرّف السياسي، الذي يُنسب إلى دول، ذات شخصية اعتبارية، وليس إلى “بشر” بعينهم. وجميع ذلك سيفاقم المشكلة، ولن يؤدّي إلى تجنب كوارث التبدل المناخي.
الرؤية الثانية يعطيها الكاتب عنوان “الماضي المستقبلي” ويفصل الحديث عن “كيف يعيش الإنسان بين ماض اندثر في حاضر نشأ عنه ويتطلع إلى مستقبل يتخيله يُفترض أن ينبثق عن حاضره هذا“.
ويريد الكاتب بذلك تأكيد أهمية تمتع الإنسان بخاصية استمداد الطاقة من ماض لم يعد يعيشه ومستقبل يود أن يعيشه، ليحقق إبداعا ما في حاضره.
“الحراك الذي صنعه الوعي بتبدل المناخ والحراك الذي تصنعه الحروب الحالية والمستقبلية، قد يؤدي إلى زوال صيغ حالية من التعامل البشري والدولي، وإلى ظهور صيغ بديلة، لأن منطق العولمة يقابله منطق ستفرضه نتائج تبدل المناخ”
ولكن المشكلة في هذه النظرة “التخيلية” أنّه لا يوجد من يستطيع أن ينطلق منها ليحدد ما هو المطلوب جماعيا للبشرية، وليس لنفسه فردا أو للقطاع الاجتماعي الذي ينتمي إليه فحسب.
الرؤية الثالثة ما يسميه المجتمع الجيد، الذي يستحيل الوصول إليه عبر تحسينات ما في استخدام التقنيات التي سببت تبدلا مناخيا، فهي جزء من المشكلة وليست جزءا من الحل.
إن البقاء الإنساني مستقبلا مشكلة ثقافية فكرية أولا، محورها تحديد طرق وإمكانات جديدة، خارج نطاق ما سبق الاعتياد عليه، ومثل هذه المهمة يتجاوز حدود ما يمكن تحقيقه عبر عولمة الرأسمالية. وبتعبير آخر يستعيره الكاتب من ألبرت أينشتاين يقول إن حل المشكلات لا يمكن أن يصدر عن صيغ نموذجية سابقة.
الرؤية الرابعة هي “التسامح المفروض” وينبع من الإحساس بضرورة مواجهة ما سبق صنعه بالعودة إلى معاني العدالة والمسؤولية، فالتسامح كمبدأ سلوكي لا يتحقق في غياب المساواة والتكافؤ، ولكن بات التسامح يُطرح بشكل آخر، أي كأمر مطلوب من أجيال قادمة، ومن مجتمعات أخرى، تجاه حرمانها من المعطيات الطبيعية، من جانب الجيل المعاصر، ومن جانب مجتمعات مهيمنة، وهنا مكمن التناقض في تعبير “تسامح مفروض”.
الرؤية الخامسة بعنوان “تاريخ يتحدث عن نفسه”، وينفي فيها قدرة الطبقة السياسية على أن تضع صيغا شمولية للتصرف، فهي صيغ محدودة زمنيا في حدود ظروفها، ويرى البديل عنها في الحراك الثقافي وسط المجتمع، من جانب مختلف الفئات القادرة على الإسهام فيما يؤدي إلى الحدّ من مسببات تبدل المناخ، كانبعاث الغازات وبالتالي زيادة الاحتباس الحراري.
وهنا يبدو مغزى العنوان، في أن من يتصرف لا ينطلق من صناعة حدث تاريخي، بل يتحدث التاريخ عنه من خلال ما صنعه بالفعل.
الفصل الختامي الذي يكرر له عنوان “ما الذي يمكن صنعه وما الذي لا يمكن صنعه”، هو الفصل الذي يطرح فيه الكاتب نظرته الفلسفية الاجتماعية، المتفائلة نسبيا، فالحراك الذي صنعه الوعي بتبدل المناخ والحراك الذي تصنعه الحروب الحالية والمستقبلية، قد يؤدي إلى زوال صيغ حالية من التعامل البشري والدولي، وإلى ظهور صيغ بديلة، إذ إن منطق العولمة يقابله منطق تفرضه نتائج تبدل المناخ مستقبلا ولن يكون خارج نطاق الوعي التنويري المرتبط به.
ولكن هذه الخاتمة المتفائلة نسبيا من جانب الكاتب، يقابلها ما صدّر به الفصل الختامي وهو استشهاد يقول “ليس التفاؤل سوى نتيجة من نتائج نقص المعلومات“.
نبيل شبيب