ــــــــــ
لهذا الكتاب بعنوان “التاريخ الأندلسي” ميزة خاصة به بالمقارنة مع كتب عديدة أخرى تناولت تاريخ الأندلس أيضا – ولكل منها قيمته الذاتية – ومن أراد معرفة تلك الميزة يمكن أن يقدّرها مبدئيا بالرجوع إلى كتب أخرى للمؤلف، مثل “السيرة النبوية” فالعنوان الثاني للكتاب يشرح المقصود بتأليفه: “منهجية دراستها واستعراض أحداثها”، ومثل كتاب “دولة المدينة المنورة” وقد وضع المؤلف له العنوان الثاني الذي يشرح المقصود أيضا: “الإسلام والدولة المعاصرة”، فلم يكن المؤلف د. عبد الرحمن علي الحجي، رحمه الله (توفي يوم ١٨ / ١ / ٢٠٢١م) يسجل بأسلوب سردي “أحداث التاريخ” وعلى وجه التحديد التاريخ الإسلامي، بل يتفاعل مع مساراتها ويتابع توثيقها ويقارن بين طرق تسجيلها ويعطي الأدلة المنهجية على كثير من الإساءات التي تعرض لها التاريخ الإسلامي، ويكاد يسمع القارئ نبض الكلمات كما يسمع انفعالاتها في طريقة إلقاء المؤلف لمحاضراته العديدة.
ولعل تكرار الدعوة إلى ضرورة اعتماد المصادر الذاتية والانطلاق من الإسلام وقيمه وأهدافه، أدّى إلى تعرض د. الحجّي إلى تهجمات وصل بعضها إلى إنكار التزامه بالموضوعية ووصفه بالتشدد؛ والجدير بالذكر أن المؤرخين في الغرب والشرق كل “يتمسك” بما يراه ويعتقد به ويجعله منهجا لنفسه، ولئن كان المؤرخون المسلمون يعتمدون المصادر الأجنبية في التأريخ لبلدان وأحداث أجنبية، فإن معظم المؤرخين والمفكرين الغربيين يندو أن يعتمدوا على المصادر الإسلامية عندما يكتبون عن الإسلام.
إنما كان هذا الكتاب الأول من نوعه في مادة الأندلس، إذ جمع التاريخ الأندلسي في مجلد واحد في نحو ٦٠٠ صفحة، تتوزع على المقدمة ومدخل عام وثمانية فصول والخاتمة، فضلا عن الملحقات والفهارس.
مما تشير إليه المقدمة أن كثيرا من المؤلفات الأخرى عن الأندلس (مما تعدده قائمة المصادر كانت موضع دراسة مكثفة وعناية دقيقة، فلم يقتصر ذلك على مجرد الرجوع إليها، للاستشهاد بقبسات من محتوياتها، إنما شمل التفاعل بعمق مع تلك المحتويات خلال مراحل التدريس الجامعي الذي مارسه المؤلف في بغداد والرياض خاصة، وقد بدأ بذلك عام ١٩٦٦م، واستمر هناك وفي جامعات أخرى حوالي اثنين وثلاثين عاما تالية.
ويضع المدخل العام القارئ في موضع يساعده على رؤية موضع “الحقبة التاريخية الأندلسية” في إطارها الزمني التاريخي والحضاري، بالحديث عن حالة أوروبا قبل الفتح الإسلامي وبعده، وحالة إسبانيا، ثم الحالة الجغرافية لشبه الجزيرة الإيبيرية، والعهود التاريخية التي مرت بها الأندلس.
من ذلك ما سرده الكاتب وناقشه من جوانب تكشف عما كانت عليه حال القارة الأوروبية بمجموعها قبل الفتح عام ٧١١م، والإشارة إلى ما بقي من ذلك وأصبح موضع صراع بعد سقوط غرناطة سنة ١٤٩٢م إلى ما بعد الثورة الفرنسية سنة ١٧٨٩م. ومن ذلك أيضا القوة العسكرية الأكبر عددا وعدة في جانب القوط مقابل قوة العقيدة القتالية وحسن التنظيم في جانب المسلمين. وقبل الانتقال إلى الفصول التالية يكتسب القارئ صورة عامة شاملة لتاريخ الأندلس عبر تبويبه في سبعة عهود، أولها عهد الفتح، يليه عهد الولاة، فعهد الإمارة، فعهد الخلافة، فعهد الطوائف، فعهد المرابطين والموحدين، فعهد غرناطة.
فصل “فتح الأندلس” يشمل ثلاثة أقسام، (١) مقدماته (٢) مراحل الفتح، ويحفلان بالأحداث التاريخية بصياغة تتفاعل مع أصحاب المصادر المعتمدة من جهة وتنقل المحتويات للقارئ وكأنه يعايشها بنفسه من جهة أخرى، (٣) استدعاء موسى وطارق، وفيه شرح واف لمجرى فتح الأندلس بعدد قليل من الجند نسبيا، علاوة على تفنيد بأدلة تعتمد المناقشة المنطقية المنهجية والمنطقية لبعض ما يروى عن العلاقة بينهما دون أدلة معتبرة، ومناقشة أخرى للعلاقة بينهما وبين الخلافة الأموية في دمشق.
أما فصل “عهد الولاة” بعد موسى ابن النصير وطارق بن زياد فيركز على الجانب التنظيمي والإداري، ورغم الاستقرار الإداري تدريجيا يكشف الكاتب عن ثغرات فيه، إنما لم يمنع ذلك من انتشار الإسلام، ويشتكي الكاتب من ندرة ما كتب في تاريخ الأندلس، ولعل ما بذله من جهود (في هذا الكتاب وسواه) ليصل إلى صورة مفصلة متكاملة هو ما جعله يكتسب لقب عاشق الفردوس المفقود، ويصبح مرجعا رئيسيا للتاريخ الأندلسي. وهي الصورة التي يعبر عنها الكاتب في ختام هذا الفصل بقوله (غدت الجزيرة الأندلسية رباط جهاد، وموئل حضارة، ومنبت إنسانية كريمة).
الفصل الثالث بعنوان “عهد الإمارة” ويمتد ١٧٤ عاما، بدأ مع عبد الرحمن الداخل وبناء مسجد قرطبة، وتشمل تلك الفترة صدامات مع الفرنجة في عهد “شارلمان” ومع “النورمان”، ويوزع الكاتب الفصل على خمسة أقسام، يدور أغزرها مضمونا حول خصائص ذلك العهد وأحواله وإنجازاته، وبرز فيه الوجه الإداري والسياسي والعسكري إلى جانب البناء الحضاري والعلمي والأدبي، ويمكن القول إن اقتران السرد التاريخي بذكر تفاصيل الإنجازات الحضارية والعلمية – في هذا الفصل وسواه – هو في مقدمة ما ميز كتب د. الحجي رحمه الله عن الأندلس وتاريخه.
الفصل الرابع بعنوان “عهد الخلافة” ويمتد ٨٠ عاما، ويبدأ بسرد الأحداث وينتقل إلى طرح الأحوال العامة والإنجازات ومناقشتها قبل أن يختتم بالسياسة الخارجية كما كان الحال مع الفصل السابق. وبدأ هذا العهد بعبد الرحمن الناصر الذي تولى السلطة وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وتميزت تلك الحقبة بالتوسع في العمران وبتجدد المواجهات مع النورمان، وبتقسيم الإدارة وهو ما شمل مثلا استحداث إمارة الثغور وإمارة البحر، كما ازدهرت حركة الكتابة والطباعة والنشر مع ما يكمن وراء ذلك من تطور فكري وأدبي وعلمي.
والفصل الخامس بعنوان “عهد الطوائف” ويمتد ٨٢ سنة، وهي الحقبة التي تفاقم فيها الصراع الداخلي والصدام مع الإسبان، ولم تنفع الدعوة إلى توحيد الصفوف من جديد، ولم تجد التجاوب مما جعل الممالك الصغيرة تتساقط تباعا، وإن بقيت درجة من ذلك وصلت لاحقا إلى استدعاء المربطين من الشمال المغربي. رغم ذلك يؤكد الكاتب سردا مع الأدلة أن حقبة الطوائف شهدت تحركا جهاديا واسع النطاق ولم تنقطع خلالها الحركة العلمية والفكرية في البلاد.
الفصل السادس بعنوان “عهد المرابطين” ويصفه الكاتب بالانتعاش الأول، وامتد ٤٢ عاما، ويتحدث الكاتب عن استدعائهم إلى الأندلس وتعاونهم مع أهله في مواجهة الإسبان، إنما انتهى دورهم بعد أن تجاوزت المتطلبات طاقاتهم، لا سيما وأنهم لم يقرروا فرض أعباء مالية على أهل الأندلس أنفسهم.
الفصل السابع بعنوان “عهد الموحدين” واستمر ٧٨ عاما، ويعزو الكاتب ظهورهم إلى الفكر الإصلاحي والفقه الصافي بعد أن ضعف ذلك في دولة المرابطين، فورثها الموحدون في المغرب والأندلس معا، وحافظوا على الإنجازات العلمية والحضارية، وفي فقرة “السمات العامة” يشير الكاتب إلى أن اهتمام الموحدين بالدفاع عن الأندلس لم يشغلهم عن رعاية النواحي المدنية كافة، “كالعلم والعمران والإدارة والإصلاح والتراتيب المختلفة” فتميزت الأندلس في تلك الفترة “بالمستوى الحضاري العالي الذي استمر نموه في كثير من الجوانب”.
الفصل الثامن بعنوان “مملكة غرناطة” وامتد عهدها ٢٥٤ عاما، ويتحدث الكاتب عن أسباب ثبات غرناطة طوال تلك الفترة دون سواها من ممالك المدن الأندلسية في الشمال والشرق، وهي فترة شهدت أيضا حروبا بين الأطراف الإسبانية النصرانية نفسها، ولم يمنع ذلك من وقوع الكارثة في نهاية المطاف، وكان في معاهدة التسليم ٧٣ شرطا، معظمها يضمن للمسلمين البقاء على دينهم والقضاء بشريعتهم وعدم مصادرة ممتلكاتهم وجميع ذلك لم يجد التطبيق بل على النقيض من ذلك انتشرت “محاكم التفتيش” وعمليات التنصير على أوسع نطاق.
ويلخص الكاتب في “خاتمة” الكتاب أسباب الصعود والانهيار في الأندلس. مشيرا إلى أن الإنجاز الحضاري والازدهار المادي والعمراني تحقق مع الالتزام بقيم الإسلام وأهدافه وأخلاقياته، وهذا بالذات ما ضعف وانحسر في فترة لاحقة، فتساقطت الحصون الأندلسية، وإن بقي للصرح الحضاري أثره التاريخي في العالم الإسلامي وفي الغرب الأوروبي على السواء.
نبيل شبيب