مشهد – حلال المشاكل

 

تقاسـما صفحات جريدتهما اليومية، هذا يطالع الصفحات الرياضية، وذاك منكبّ على التعليقات والتحليلات السياسية، هذا ممدوح الذي لا تفوته شاردة ولا واردة من أخبار نجوم الكرة ومبارياتهم، ومن فاز ومن خسر، ومن سجل رقما قياسيا ومن اعتزل، وذاك أحمد المعروف ببراعته في الحوار بين أصدقائه، كلّما جمعهم لقاء غلب فيه الحديث عن قضايا بلادهم، وما أكثر الأحداث المتعاقبة المثيرة للحوار، وكم حوّل الكلام العادي في سهراتهم إلى خطبة، والاستفهام الجانبي إلى درس يلقيه أستاذ على تلاميذه، حتى صارت أحاديثهم حوارات ثنائية، هو أحد الطرفين فيها على الدوام، ما بين سؤال قصير وجواب مستفيض، أو جملة عابرة وردّ طويل، ولم تعرض مشكلة في النقاش إلاّ واستنبت لها في كلامه حلاّ، فسرى عليه بينهم لقب حلاّل المشاكل، يمازحونه به فيحتملهم، ويعلم أنّهم يودّونه ويعذرون أسلوبه، فما أكثر ما كان يأتيهم بالمفيد والجديد عليهم.

 

وبدا أن ممدوح فرغ من قراءة الأخبار الرياضية ولكن استمرّ على تقليب الصفحات كمن يبحث عن مزيد دون جدوى، وسأل سؤالا عابرا بلهجة من لا ينتظر جوابا:

-ألا يهمّك من سيفوز في بطولة الكرة هذا العام؟

قال أحمد دون أن يقطع قراءته:

– إذا لم تقع مفاجأة فألمانيا وإيطاليا في مقدّمة المرشحين للفوز، والفريق الروماني كان مفاجأة الموسم ولكن لن يصمد إلى النهاية، وتأتي هولندا وإسبانيا في المرتبة الثانية بعد خروج الفريق الأرجنتيني من الساحة.

وفغر ممدوح فاه دهشة، فهذه أوّل مرة يسمع صديقه يتحدّث في شأن رياضي، وصحيح أن بطولة الكرة هذا العام حدث كبير، ولكن لم ينتظر أن تكون لديه هذه المعلومات، وصمت لحظة يفكّر ثم ألقى بالجريدة من يده جانبا، والتفت إلى أحمد بكليته قائلا:

– حسبتك لا تهتم بأخبار الرياضة!

قال أحمد بشيء من الغرور في لهجته:

– لا أزعم الاهتمام الكبير بها، ولكن لا يفوتني المهمّ على الأقل، ففيم العجب؟

– لم أسمعك تتحدّث من قبل في الرياضة، بل كنت دوما تقول إنّ لدينا قضايا أكبر وأهمّ يجب أن نصرف لها جهودنا.

وعدّل أحمد جلسته ليتصدّر في مقعده كعادته وقال:

– هذا صحيح.. ولكن في حدود ترتيب الأولويات، وعلى أي حال لا يصحّ الاهتمام بشيء إلى درجة الهوس، وإذا انطلقنا من إسلامنا فلا يصحّ…

قاطعه ممدوح قبل أن يسترسل به الكلام:

– أحسب متابعتك للبطولة هذا العام كانت لمشاركة فريقي المغرب والسعودية فيها.

– سبق في دورات ماضية أن شارك المغرب، كما شاركت الجزائر، وتشارك السعودية في بطولة عام 1994 هذه لأول مرة، ولا أخفيك أنني تمنيت لو حقّق الفريق السعودي إنجازا أفضل، فقد كان لاعبوه على مستوى جيد، ولكن كان يلعب في مباراته الأخيرة وكأنّه يتهيّب الفوز، ولا يليق بمسلم أن…

وقاطعه مرة أخرى:

– رويدك.. رويدك، كأنك تابعت المباريات بسائر تفاصيلها، ولولا أنك عدت إلى إلقاء درس علي، حتى في الرياضة، لحسبت نفسي أمام شخص آخر غير الأستاذ أحمد، ولكن خذ مني درسا في الرياضة على الأقل، فالروح الرياضية تستدعي أن تتحمّس للفريق الأفضل ولو لم يكن فريق بلدك.

ولم يتأثر أحمد فقد اعتاد على غمزات أصدقائه بأسلوب حديثه، ورغم ذلك حاول التواضع بقوله:

– أنت أستاذي في الرياضة، فأخبرني وأنت تتابع الكرة الأوروبية على الدوام، لمن يتحمّس الأوروبيون؟

وفوجئ ممدوح بالسؤال، وأطرق مليا ثم قال كتلميذ يعترف بذنب ارتكبه:

– إنهم لا يتحمّسون لأنفسهم فقط، بل يعتبرون من يتجرّأ على البطولة سواهم متطاولا على الكبار.

وظهرت علامات نشوة الانتصار على ابتسامة أحمد وهو يقول كأنه يريد أن يضيف نصرا آخر في معركة يخوضها:

– وأقول ما قلتَه أنت، نتحمس للفريق الأفضل، ولهذا ينبغي أن نتحمس أكثر للنهوض بمستوى الرياضة لدينا. 

وضحك ممدوح:

– أنت تقول ذلك؟.. أنت الذي تدعو إلى نهضة علمية وصناعية وإصلاح أوضاعنا السياسية وإلى ثورة فكرية وأدبية وفقهية، إلى آخره، أنت تتحمس للرياضة وتدعو للنهوض بها، لم يبق إلاّ أن تتحمّس للفنون أيضا!

قال أحمد بلهجة خطيب واثق من نفسه:

– نعم، وأدعو إلى نهضة فنية ونهضة رياضية أيضا، ولِـمَ لا، ما الذي ينقصنا، ولدينا شباب صار يبحث عن نجومه في أوروبا وأمريكا، في الرياضة وغير الرياضة. 

وتذكّر ممدوح أنه كان عازما على ألاّ ينزلق إلى حديث جادّ مع أحمد، ورغم ذلك لم يملك نفسه أن يقول:

 – ينقصنا الدعم المالي كما تصنع دول أخرى.

قال أحمد:

– لا أعتقد ذلك، ويخيّل لي أحيانا أن الاهتمام بالرياضة كبير إلى درجة إلهاء الناس بها، وهذه الجريدة بين يديك كمعظم جرائدنا حافلة بأنباء الرياضة والرياضيين، أكثر من أي موضوع آخر.

وظهر الامتعاض على وجه ممدوح وهو يمسك بجريدته من جديد ويقول:

– لا عليك، فهذه الصفحات تجد من يقرؤها، وأنا واحد منهم، فلا تحقّر من شأنها، وإذا كان لديك حلّ لمشكلتنا في الرياضة فتفضل.

ولم يلحظ أحمد امتعاض صديقه، ولا رنّة التهكم في آخر ما تفوّه به، ولم يسمع سوى تلك العبارة، فقال بصوت خافت:

– للأسف، ليس لدي حلّ.

ورفع ممدوح بصره عن الجريدة من جديد، وحملق في وجه أحمد ليتأكد بعينيه ممّا سمعته أذناه، وتهلل وجهه بأسرع ممّا كساه الانزعاج قبل هنيهة واحدة، وقال كمن عثر على ضالّة افتقدها زمنا طويلا.

– ليس لديك حل؟.. أنت يا أستاذ أحمد، حلال المشاكل، تحلّ لنا مشاكل الدنيا في جلسة، ولا تجد لتحسين أوضاعنا الرياضية حلا، سأعلن ذلك على الملأ هذا المساء. 

وأمعن أحمد النظر في وجه صديقه يحاول استيعاب ما يقول، ثم عاد إلى جلسته يتصدّر المقعد الوثير ويقول:

– حلّ مشكلة الرياضة جزء من برنامج متكامل، يتناول سائر قضايانا بصورة متوازنة، وينبغي أن يشارك فيه…

وأمعن في الحديث، ولكن كان ممدوح مشغولا عنه بالجريدة من جديد، ينظر إلى السطور ولا يقرأ شيئا، ولكنّ الابتسامة لا تفارق شفتيه.

نبيل شبيب