محاضرة ٢ من ٤
مقارنة بين معطيات الواقع والعالم عند نشأة العمل الاسلامي والواقع الراهن بتطوراته المتسارعة
تبدّل المعطيات الأساسية لممارسة العمل الإسلامي
الحقبة التاريخية المعاصرة
نوعية التطوير المطلوب
سبق الحديث في اللقاء الأول عن اعتبار العمل الإسلامي مصطلحا يشمل كل جهد مشروع يُبذل لتحقيق أهداف الإسلام في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويعني هذا أن العمل الإسلامي كان موجودا على الدوام تنفيذا للنص التعميمي في الأمر الرباني في سورة التوبة {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} -التوبة: 105-
وسبق الحديث أيضا عن أن العمل الإسلامي الحركي هو إحدى صيغ العمل الإسلامي، وهو ما شاع التأريخ لولادته بعام ١٩٢٨م، وتميز في بدايته بجهود حسن البنا رحمه الله، وتتعدد الاجتهادات بشأن المحور الأهم في صيغة العمل الإسلامي الحركي، هل هو العمل التنظيمي الجماعي، أم شمول المضامين لكل ما يشمله الإسلام، أم تركيزه على عنصر المضمون السياسي بالذات.
تبدّل المعطيات الأساسية لممارسة العمل الإسلامي
كانت النشأة الأولى للعمل الإسلامي بعموم الكلمة قد بدأت فعليا مع الأيام الأولى للعهد النبوي، وكانت تُضبط بنزول الوحي، ثم تابعت الطريق بعد انقطاع الوحي بصيغ عديدة نكاد نغفل عن معظمها في حمأة الاهتمام بتوجهات وممارسات مذهبية واجتهادية، تحت عناوين متعددة، فأصبحنا لا نوجه الاهتمام الأكبر لما وجّه الأوائل اهتمامهم إليه ومن ذلك تحت عناوين العمل للإسلام والمسلمين، أي العمل الإسلامي كما نسميه:
١- من ذلك مثلا ما أسس لولادة العلوم الإسلامية عبر العمل العلمي الإسلامي، برعاية الدولة ومن دونها.
٢- ومن ذلك ممارسة فريضة الجهاد ضد الظلم والظالمين وإن اشتهر وصفه بالجهاد لنشر الدعوة، وكان تقنين ذلك وتنظيمه مرتبطا بسلطة الدولة فقط.
٣- ومن ذلك أيضا ما أوصل إلى تأسيس الأوقاف الإسلامية وانتشارها.
بشكل عام ولقرون عديدة كان يتجاور أداء واجبات سلطة الدولة مع أداء واجبات إضافية بجهود غير تابعة للدولة، وهذه صيغة تذكّر بوجود ما يشابهها حديثا تحت عناوين أنشطة المجتمع الأهلي أو المجتمع المدني في ظلّ وجود دولة تمارس واجباتها أيضا تجاه المواطنين.
والسؤال:
كيف تبدلت معطيات هذا العمل الإسلامي ونشأت معطيات مستجدة، ساهمت في تحويل فهمنا للعمل الإسلامي بحيث يقتصر على صيغ معينة هي التي اعتدنا عليها حديثا؟
١- من المعطيات المتبدلة أن القسط الذي حملته سلطة الدولة من الواجبات فقد من يحمله بعد غياب الجهة التي كانت تتولاه، أي السلطة المتمثلة بالخلافة وولاياتها وإداراتها الرسمية، بما في ذلك الدويلات التي كانت تمارس واقعيا ما يسمى الحكم الذاتي حاليا، أو المستقلة استقلالا شبه ناجز.
٢- من المعطيات المتبدلة ما يتعلق بالرباط الناجم عن الامتداد الجغرافي لوجود الأمة إذ فقد كثيرا من مفعوله عندما غابت الخلافة، التي كانت تنمو رقعة سلطتها الجغرافية باطراد بين عهد النبوة وآخر العهد العثماني، وعندما غابت الخلافة كانت الرقعة الجغرافية الإسلامية مترامية الأطراف ولكنها مقطعة الأوصال.
٣- يسري شبيه ذلك على المعطيات الناجمة عن غياب المرجعيات الضابطة للتعددية السكانية، فرغم تنامي تعداد المسلمين عبر التاريخ، كانت توجد مرجعيات لها مكانتها لدى المجموعات البشرية المتعددة من الكتلة الإسلامية، وأصبحت هذه الكتلة السكانية الكبرى متفرقة ودون مرجعيات مركزية فاعلة، وإن وجد بعضها فكثيرا ما غلبت عليه أشكال جديدة من العصبية والولاءات المتفرقة.
يمكن تعداد المزيد من المعطيات المتبدلة بعناوينها الكبرى، ويكفي ما سبق كأمثلة، إنما المهم هو:
سيان ما هو العنصر الذي نختاره للمقارنة بين معطيات سابقة وأخرى جديدة، نجد أن ما تبدل كان واسع النطاق، عميق التأثير، وكان يؤثر في الدرجة الأولى على المعطيات الأساسية التي اعتمد عليها العمل الإسلامي بمعنى الكلمة الشامل وصيغه المستقرة في العهد الإسلامي الأول، فأفسح الوضع الجديد مجالا لاجتهادات جديدة، وبالتالي لابتكار صيغ عمل جديدة، منها ما حقق نجاحا ومنها ما أخفق في أخذ المعطيات الجديدة مستندا يحفظ المعالم الكبرى للرؤى المبررة لوجود جديد وعمل هادف.
الحقبة التاريخية المعاصرة
تسهيلا للموضوع نركز على ما شاع في الدراسات والكتابات حول حصر مصطلح العمل الإسلامي بصيغتين: العمل الإصلاحي والعمل الحركي، فإذا أخذنا بذلك على سبيل توضيح المطلوب، تنحصر المقارنة في نطاق زمن تاريخي قصير من العصر الحديث، أي في نطاق ثلاثة قرون بدلا من أربعة عشر قرنا ونيف.
في هذا الإطار الزمني المختصر نجد أيضا أن المعالم الكبرى للمعطيات ذات التأثير على صيغة العمل الإسلامي وممارسته، قد اختلفت عند ولادة صيغة العمل الحركي حوالي عام ١٩٢٨م اختلافا كبيرا عما كانت عليه قبل قرن من تلك الفترة أو قبل قرنين.
هذا الاختلاف الكبير استدعى ولادة صيغة حركية للعمل تختلف عن الصيغة الإصلاحية من قبل، ويحق لنا إذن أن ننطلق في السؤال عن حاضر العمل الإسلامي الحركي، وعن مستقبله، من المقارنة أيضا بين ما أصبحنا عليه خلال قرنٍ مضى مع معطيات العصر الحاضر، ومدى اختلافها عن معطيات اللحظة التاريخية لولادة الصيغة الحركية، وذلك بالمنظور الجغرافي والتاريخي والعلمي والسياسي والاقتصادي والفكري والأدبي والعسكري والاجتماعي والتقني، أي على جميع الأصعدة.
وليست إشكالية التطوير المرجو للعمل الإسلامي عموما والحركي تخصيصا إشكالية قابلة للعلاج عبر تبديل الوسائل والأدوات التقنية لتطوير العمل الإسلامي الحركي، كما يقال أحيانا، بل هذا قول يعزز التوهم بضرورة الدفاع عن استمرار وجود الصيغة الحركية كما هي، ولكن ربما مع إصلاح جزئي باستخدام تقنيات حديثة، أو كما يقال إجراء بعض الرتوش الظاهرية.
الإشكالية أكبر من ذلك وأوسع بمعطياتها التاريخية والجغرافية والعملية والفكرية كلها، ومن جوانبها اهتراء مفعول ما نستخدم من وسائل وأدوات أيضا.
أولا: ولدت صيغة العمل الإسلامي الحركي أثناء التداعيات الأولى لتغييب المركز العقدي والسياسي للخلافة، أما الآن فأصبحت الشقة واسعة ما بين ذلك الحدث وبين واقع المسلمين كشعوب متفرقة في دول مختلفة بين بعضها تقنينا وسياسة واقتصادا ومناهج تربيوية وإعلامية، وهذا مع وجود سلطات محلية متنازعة في غالب الحالات. إن في ذلك تبدلا كبيرا لمعطيات أساسية تؤثر على كل عمل، وهي تبدلات متزايدة على امتداد فترة زمنية تعادل ثلاثة أجيال متعاقبة، والقصد هنا هو التوصيف دون التعرض للتفاصيل.
ثانيا: ولدت صيغة العمل الإسلامي الحركي مع انتشار أشكال الاستعمار الأجنبي المباشر لبلاد المسلمين وأهلها مع ازدياد طابعه العسكري والاستغلالي، وأصبحنا اليوم نواجه تغلغل الهيمنة الأجنبية بأشكال عديدة، وهي أشد عمقا وتأثيرا وخطورة، كما بات يساهم في نشرها وتوطيدها فريق من المنتمين للإسلام، انتماء عقديا، أو انتماء قائما على روابط الثقافة الحضارية المشتركة، وهذا مما يطرح السؤال من هو الأخ والصديق والحليف ومن هو العدو المستهدف أو الذي ينبغي استهداف عدائه في أي عمل، سيان بأي صيغة وتحت عنوان أي راية من رايات التوجهات المتعددة.
ثالثا: ولد العمل الإسلامي بصيغته الحركية في مرحلة تمثل حضيض ما وصلت إليه مظاهر الجمود المتطاول على صعيد الاجتهاد الفقهي، أصولا وأحكاما، وقد استمر ذلك شكليا أكثر من ستة قرون، وأصبحنا في الوقت الحاضر في مرحلة تاريخية تمثل حضيض التخلف إجمالا على الأصعدة الفقهية والعلمية والفكرية والتقنية وغيرها.
رابعا: ولدت الصيغة الحركية للعمل الإسلامي قبل مائة سنة مع بدايات ظهور ما وصل إليه حجم فجوة النهضة الحضارية الحديثة على حساب واقع المسلمين وشعوب أخرى من البشرية، وبدلا من تقلص تلك الفجوة، أصبحنا نعايش في عالمنا المعاصر تسارعا رهيبا في اتساعها عمقا ومضمونا، بآفاقها الجغرافية والزمنية وبأبعادها ومضامينها الموضوعية.
إن من حملوا عبء تأسيس العمل الإسلامي الحركي قبل ثلاثة أجيال كانوا محقين وجزاهم الله خير الجزاء، وقد صنعوا ذلك لأنهم وجدوا أنفسهم وبلادهم وشعوبهم بين يدي معطيات تختلف جذريا عما كانت عليه قبلهم، لا سيما المعطيات التي سادت عند ولادة دعوات الإصلاح الإسلامي عبر الأفغاني وأقرانه.
كانوا محقين، في أنهم لم يستأنفوا طريق من سبقهم كما هو، بل أدخلوا عناصر جذرية جديدة، هي التي تجعلنا الآن نميز بين صيغتين ونهجين وحقبتين مختلفتين من مسارات العمل الإسلامي، في ثلاثة قرون مضت من العصر الحديث، وأصبحنا بعد العمل الإصلاحي نطلق وصف الصيغة الحركية على شكل يتميز بالتنظيم والعمل الجماعي، مقابل الصيغة الإصلاحية، التي كان غالب ممارساتها وإنجازاتها فرديا وفكريا.
أما الآن فنحن بين يدي بداية حقبة جديدة متميزة بذاتها، أوسع نطاقا وأعمق مسارا من مجرد تطوير العمل الإسلامي الإصلاحي أو الحركي؛ نحن في حاجة إلى ابتكار صيغة جديدة وليس مجرد تطوير صيغة سابقة.
نوعية التطوير المطلوب
التغيير مطلوب والكيفية ليست موضوعا قابلا للطرح والمناقشة والتقرير عبر محاضرة أو لقاء واحد أو سلسلة مؤتمرات، إنما يمكن الوقوف عند نقطة أساسية هي قول من يقول: لا حاجة لتغيير جذري ولا صيغة عمل جديدة بالمطلق، بل نحتاج إلى عملية تطوير جادة.
فليكن، أي على افتراض اعتبار الواجب المطلوب هو إجراء تطوير واسع النطاق، فإن عملية التطوير نفسها في حاجة إلى تغيير جذري، وليس إلى تعديل جزئي فقط.
نحن في جميع مجالات حياتنا لم نعد نبدأ عملية تطوير تقليدية إلا ونجد أنفسنا بعد فترة وجيزة أمام معطيات وعناصر إضافية مستجدة، تظهر وتتطلب مراعاتها، وذلك قبل الوصول إلى نتائج واضحة من مسار ما مضى من عملية التطوير التي شرعنا بها. إن الحديث عن تطوير أو تغيير أو سوى ذلك من وسائل علاج المشكلات الكبيرة، يستدعي استيعاب عنصر أهم من سواه، هو أن نميز في الدراسة والتخطيط والعمل بين مصطلحين، السرعة والتسارع.
الفجوة بين التقدم والتخلف تتسع بسرعة كبيرة والأهم هو أنها تتسارع في إطار كل وحدة زمنية نختارها، أي عند مقارنة قرن بآخر، أو بين جيل وجيل، بل أصبحنا مضطرين للحديث عما يجري ويزيد الفجوة اتساعا في إطار ما نرصد بين عام وآخر يليه، وربما الحديث عن فوارق تظهر بين شهر وشهر، كما في بعض الميادين العلمية والتقنية التي تترتب عليها تداعيات متسارعة، تنطوي على نتائج وخيمة.
في العصور الماضية كان يكتسب كل عصر أو كل قرن صبغته المميزة من خلال حدث كبير أو اختراع كبير، كما كان مع اكتشاف النار، أو اختراع العجلة، أو صناعة البارود، أو ابتكار الطابعة، أو صناعة الطائرة، وهكذا، أما في القرن الذي يوشك أن يرحل في تأريخنا للعمل الحركي التنظيمي كصيغة كانت جديدة للعمل الإسلامي ولم تعد جديدة، فمنذا الذي يستطيع في أيامنا هذه مواكبة مدى التسارع في كل ميدان من الميادين، وأبسطها الوسائل المستخدمة، أي تقنيات تسجيل الصوت والصورة مثلا، ومنذا الذي يميز بين تعاقب المتغيرات منذ ولادتها الأولى وحتى ما نعايشه من التقنيات الرقمية التي غالبا ما نستعمل تعبير الديجيتال المعرب في الحديث عنها، فقد باتت حركة تسارع التطورات التي أوصلت إليها أكبر من حركة صياغة مصطلحات عربية في المجامع اللغوية ونشرها للتداول بين أصحاب الشأن والعامة.
نحن نرصد واقعيا غيابنا عموما عن صناعة التطور التقني وهو ما تشهد عليه حاجتنا إلى ترجمة مفرداته الجديدة وتعريبها؛ وكذلك نرصد غيابنا عموما عن استيعاب حقيقة أن المتغيرات المتجددة توجب مراعاتها في مختلف أشكال العمل، ومن ذلك ما نسميه العمل الإسلامي.
لا يتبدل هذا الوضع عبر القفز فوق واقعنا بمنظور العمل الإسلامي كما نفعل في مجالات أخرى، إذ نحسب مثلا أن مواكبة التطور الصناعي تحصل باستيراد سيارة ، ثم نزعم اللحاق بالآخرين صناعيا عبر استيراد قطع السيارة وتركيبها محليا، ولو افترضنا أن هذا يمثل بالفعل خطوة أولى نحو صناعة محلية، أو يمثل كما يقال اللحاق بركب التقدم، ألا نرصد أننا ونحن نخطو الخطوات الأولى تلك قد تحرك سوانا بصناعة سيارات كهربائية وبالتأسيس لنواة استخدام سيارات دون سائق.
ألا نلاحظ في قطاعات أخرى أننا نحاول استيعاب حجم انتشار الشبكة في بلادنا بينما بدأ اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي في عالمنا وعصرنا؟
نحن إذا استدركنا ما فاتنا وبدأنا نتحرك بسرعة الآخرين حولنا فلنعلم أننا متخلفون لأنهم يضاعفون سرعتهم باستمرار وهذا ما يعنيه التسارع، فما لم تكن سرعتنا أكبر من تسارع من سبقنا، لن نلحق به فضلا عن أن نتجاوزه.
التنظيم والتشبيك
هذا بعض جوانب ما يتعلق بعنصر الزمن ومفعول السرعة والتسارع، وبين أيدينا جوانب أخرى نحتاج أولا إلى وضعها في إطار أوسع نطاقا من مسألة تطوير العمل التنظيمي الذي يميز صيغة العمل الإسلامي الحركي.
في جميع ميادين الحياة المعاصرة، أصبح التنظيم المحكم وما ينبثق عنه يفقد مكانته لصالح عملية تخصص وتكامل، وعملية تشبيك وتطوير متنامية، وهذا بدءا بميادين الدراسات الجامعية ومراكز البحوث وهيئات التخطيط الرسمية وغير الرسمية، انتهاء بميادين الرياضة والثقافة والفنون وعموم ما يلعب دورا في العلاقات الاجتماعية والمسارات التربيوية.
باختصار في حدود ما تبقى من الوقت وتمهيدا للقاء القادم:
لم نعد نرصد وجود ما يشبه الجماعة المنظمة الكبرى التي تعمل وفق صيغة قيادية تقليدية، وتتفرع عنها كافة المجالات والأنشطة المستهدفة بتشكيلها، ولا نزال نحتاج إلى كثير من الجهود لنستوعب كيف تعمل قطاعات التخصص العملية والإنتاجية عموما وسريان مفعول ذلك على تطوير العمل الإسلامي بالانتقال إلى صيغة جديدة لممارسته، ثم كيف تتكامل القطاعات التخصصية مع بعضها، وأين يفيد التنظيم وأين يفيد التشبيك وكيف يتجاوران ويتكاملان ضمن منظومة أوسع نطاقا تتحقق من خلالها الأهداف الكبرى دون أن تظهر للعيان معطيات ما في صيغة تكرر نفسها لفترة زمنية طويلة.
لم يعد يجدي فصل ميدان بعينه عن سواه وعن التفاعلات مع ميادين أخرى تؤثر عليه وتتأثر به، أي أننا لا نستطيع فصل ميدان العمل الإسلامي الذي نتحدث عنه، عن الميادين التي نعتبرها من ساحات ممارسته، كالميادين السياسية والفكرية والتربيوية والاقتصادية والتقنية والأدبية، وهذا ما نختلف حول تموضعه داخل نطاق ممارسة العمل الإسلامي، ناهيك عن الاختلاف عليه أصلا مع الآخر.
نحن في عالم جديد متشابك ومن لا يستوعب كنه تشابكه وتأثير بعضه على بعضه لا يستطيع الاستمرار في تطوير الرقعة التي يتحرك في نطاقها مهما بدت له كبيرة وفاعلة أو يتمنى لها أن تكون كبيرة وفاعلة.
نحن أمام فجوة كبيرة تجاه سوانا في ميادين العمل لتحقيق أهدافنا، وهي فجوة تتعاظم بسبب مشكلات أخرى ومعطيات أخرى من ميادين العلم والتعليم والثراء والفقر والتخطيط والارتجال.
نعلم كيف أصبح تطوير ممارسة الطبابة أو الصيدلة أو التجارة وغيرها مرتبطا بتطوير آليات البرمجة الحديثة واستخدامها؛ وكما أصبح هذا مفروغا منه، ينبغي أن يصبح مفروغا منه أيضا أمر ارتباط تطوير ممارسة العمل الإسلامي بتطوير تموضعنا في مسارات العلوم والآليات الإدارية، ومسارات الرؤى والمفاهيم السياسية والعلاقات الاجتماعية والتنمية البشرية وحل الأزمات، وتأهيل الكوادر وتشبيكها، وكما تتسارع عمليات التطوير في هذه الميادين لا بد أن تتسارع عملية تطوير العمل الإسلامي المتفاعل معها، فلا يكفي كمثال الوصول به إلى قدر كاف من استخدام البرمجة الافتراضية الرقمية دون أن نطلع اطلاعا استشرافيا كمثال آخر على ما يعنيه الوصول إلى توظيف الذكاء الاصطناعي في تفعيلها وتطويرها.
عند التأمل في المعطيات المذكورة كأمثلة على سواها والتأمل فيما تفرضه على من يبحث في شأن من شؤون تطوير العمل الإسلامي سيصل في نهاية المطاف إلى ضرورة إعادة النظر في المصطلح الأشمل الذي يمثل الهدف الدنيوي للعمل الإسلامي وهو النهوض الحضاري.
إن مفهوم النهوض الحضاري، والتفاعل معه يشمل سوانا ممن يتحدثون من منطلق الحداثة والعلمانية ، وندرك كما يدركون أن القضية لم تعد مجرد قضية تشكيل تنظيم ما، واختيار قيادة بأسلوب ما، ووضع منهج عمل جيد، يقترن بالتخطيط والمراجعات والتقويم والتطوير؛ فجميع ذلك لا ينفصل عن ضرورة الوصول إلى صيغة فعالة لتطوير العمل الفكري والعلمي والواقعي الهادف على طريق نهوض حضاري يستوعب عنصر الزمن وجنس الإنسان ومنظومة القيم ويشمل فيما يشمل الجوانب التطبيقية، العلمية والتقنية والإنتاجية.
هنا نجد أنفسنا أمام مالك بن نبي وعناصر النهضة كما حددها، وقد كان بذلك سابقا لزمانه؛ ولهذا لا يُصنف ضمن عمل إصلاحي قبله، ولا ضمن عمل إسلامي حركي واكبه وتجاوزه بنظرة مستقبلية بعيدة المدى.
ونجد أنفسنا في حاجة إلى استيعاب بعض الإنجازات من الماضي القريب عندما نتحدث في اللقاء القادم إن شاء الله، عن محاولة صياغة رؤية مبدئية عن العناصر الواجب تطويرها في مسارات العمل الإسلامي بما فيه ما يحمل توصيف الحركي حتى الآن.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب.